منيرة مصباح
يبدأ الابداعمن نقطة الاحساس بالمأساة، هذا اذا تحدثنا عن الفن في كافة تجلياته. فالابداع لا يمكن الا ان يكون شاملا، يستنطق الذاكرة بأسرها ليحدد التاريخ ويلغيه كتاريخ في الواقع من أجل إحالته الى تاريخ المفاهيم. هكذا يتم قذف التاريخ في العمل الفني، حتى يكون للواقع لغته في إبراز أزمة الانسان، وليؤكد الخيار الفكريالثقافي للعمل الفني الذي يلخص بالتالي واقع الانسان ويكون الشهادة له وعليه.
ففي اعمال الفنان العراقي ضياء العزاوي يبرز مخزون الوعي الفكري والفني تجاه الواقع مع ربط هذا الواقع بالتراث من خلال امتدادهوامتزاجه وبالتالي عكسه في اعماله الفنية . لقد استطاع ضياء ان يسيطر على الالوان ويطوعها في ابراز ذلك المخزون، حيث تجمعت خلاصة هذه الاعمال في جدارية رائعة حملت عنوان ” نحن لا نرى الا جثثا” لدرجة انها تذكرنا بجدارية بيكاسو الخالدة “الجورنيكا”.
ففي اعماله عن تلك الحروب والمذابح البشرية في كل مكان من الارض العراقية والفلسطينية، لا نعثر الا على بقايا اشلاء وجثث وبقايا دمار ، انه تعبير عن الجانب المأساوي الذي نعيشه بكل آلامه. وأعماله التي جاءت باللونين الاسود والابيض مع تدرجاتهما اضافة الى اللون الاحمر في بعض المساحات الصغيرة خاصة في الجدارية، الى جانب بروز الخط الحاد، الذي يمثل حدة المأساة نفسها، تلك التي لا تحرك ساكنا او تستفزنا ونحن ننظر اليها. وتبقى في اعمال العزاوي بارقة الأمل التي ننتظرها وسط ذلك الدمار الذي يلف اللوحة ويلفنا.
لقد استطاع ضياء العزاوي ان يجسد في تلك الجدارية آلام الانسان ووحشيته في نفس الوقت، والتي نعيشها ونراها يوميا.حيث جاءت نموذجا صارخا لا نستطيع امامه حراكا.
اما اعماله الاخرى الملونة فقد استخدم فيها الشكل الفلكلوري والتراثي والرموز الشعبية العربية والعراقية بالتحديد. فالفلكلور التراثي برز واضحا في الالوان الصارخة التي تعكس الفرح خاصة في لوحة بوابة شرقية. اما في مجموعته التي تسمى عبدالله، فهو بالطبع يرمز بالاسم لكل انسان عربي، حيث ظهر عبدالله في حالات نفسية مختلفة، ربطه الفنان برموز تاريخية عديدة، تلك الرموز الموجودة في اعماق الفنان، والتي هي انتماءه الاصيل لجذوره التاريخية المميزة لديه والتي بدأت تختفي في عالم تسوده قيم ومفاهيم مختلفة. ان عبدالله في اعمال الفنان يعيش صراعا حضاريا صارخا بين تراثه وقيمه وبين حداثة العالم المعاصر لدرجة احساسه العميق بالاغتراب الروحي، تلك الحالة التي تشمل غربة المنفى وغربة الوطن وغربة الأعماق النفسية، انه الانسان العربي المستلب في كل مكان فكرا وروحا وجسدا.
لكن عند بحثنا في اعماله لم نستطع ان نغفل رموزه الاساسية وهي الفارس والحصان حيث نرى مدى ارتباط الاثنين معا في لوحاته الفنية رغم سقوط الفارس، الى جانب استمرار العلاقة الحميمة بين الاثنين بانتظار ان يمتطي هذا الفارس فرسه. اما الرمز الاخر فهو الحرف العربي الذي استخدمه في كثير من تكويناته، وهو رمز للدلالة على ارتباط الفنان بجذوره العربية، الى جانب الهلال كرمز اسلامي وشرقي والذي يطغى على العمل بأكمله.
ان ضياء العزاوي يغنينا بفنه الواقعي وبجذوره التاريخية والانسانية والحضارية.
أما الفنان هاني مظهر فهو يقفأمام الانسان في عذابه اليومي الذي لا ينتهي بالآلام أو بالموت والجوع والمرضأنما يسير في طريق الجلجلة الى ما لا نهاية. هكذا شعرت وانا اتأمل اعمال الفنان العراقي هاني مظهر. فهو يبدأ من نقطة فوق مساحة هذا العالم هي مأساة الفلسطيني والعراقي معا،ليجسد الطريق التي يسيرها الانسان من مجزرة الى اخرى. لكن رغم ذلك اذا نظرنا للوحة النبوءة، نرى قوة التحدي عند المراة كرمز يؤكد على استمرارية الحياة وسط مصادفة تبعدها عن الموت احيانا لكنها تجعل من الحياة طريقا للآلام.
في جدارية هاني مظهر ينكسر الحصار، حيث يراوح الجموع بين الخوف و القلق والمأساة والتحدي والتمسك بالانسان وقيمه الاصيلة في آن. نرى النساء والاطفال وحاجز الشهيد يشكلون لمضمون العمل الفني قيما معادية لآلة الحرب والتدمير. والفنان يسعى من خلال ابرازها الى الكشف عن آليتها غير الإنسانية مع عدم توظيف البعد التاريخي او الفلكلوري فيها، لتوحي باستمراريتها. فالمرأة العجوز في الجدارية تذكرنا ملامح وجهها وتعابيرها ورداءها العام بالجدة التي تنطق بكلمات العودة والموت فوق تراب الوطن، كذلك نرى الاطفال الذين يحملون الشموع يضيؤن الطريقللمرأة الأم والرمز، هنا نقف امام الطفولة التي تحمل نسغ الحياة المتجدد داخل الاحساس بالمأساة التي تشوّه الانسان وتقتل روح الحياة فيه.
اما في لوحة الجدار فان الحركة فيها تؤكد على بعض العناصر وتنفي بعضها، كما تؤسس لجديد يستجيب للحاجات الواقعة، وهذا يؤكد تميز الابداع لدى الفنان من خلال وضوح التشريح الذهني والجسدي، مما يعطي ثباتا للشخصية الانسانية المدمرة بسبب تحديها.
وفي لوحة الفجر فنحن نرى الفجر فعلا من ضوء الشمعة التي تعلن عن تمجيدها للانسان بعد ليلة حالكة الظلام. لكن رغم كل تلك المذابح التي نراها يوميا على شاشات الفضائيات وكل تلك الدماء السائلة على الارض العربية، فان في اعمال هاني مظهر دائما بارقة امل نراها من نافذة مفتوحة في اللوحة، الى جانب مجموعة اعمال لديه تعبر عن الهموم الانسانية الخاصة، وهي جزء من الهموم العامة للانسان مثل لوحة غياب القمر، الصمت، الرأس، وقمر ووجوه.
ان الفنان المثقف يحمل بابداعه شهادته، وشهادته الاسئلة التي تكثف اللغة الجماعية فنيا، حيث ينتمي اليها في تناقضاتها وأزماتها الانسانية لتصبح وسط الظلام ألوانا نبحث عنها داخل اللوحة وفي عيوننا،والتشكيل يبحث عن الكلمات في طي الالوان، في الاجساد المثقوبة، في رصاص الأقلام المكسورة وفي أصابع الأيدي المغموسة بحبر المأساة. هكذا تصبح المسافة التاريخية اكبر في اعمال الفنان تنتشر حول الأزمة وتحول الواقع الى شهادة لا تكسرها الحقيقة.
ففي اعمال هذين الفنانين تخرج علينا القوة الطاغية لتقدم نفسها على حقيقتها ولتفضح القناع الذي استطاعت ان تضعه على وجهها، لتبرز امامها المرأة التي تنتصب نحو السماء، تشيع نظراتها الى اقاصي الارض ببريق يحمل النبوءات والاحلام، لتتكلم اللوحة عن كل شيء عن اي شيء، عني وعنك، عن المجازر البشرية، عن الانسان في كل مكان وزمان، عن الألوان التي تتداخل في البحر وفي جسد الشهادة في المأساة وفي الأمل. هكذا الابداع الفني يقف على حافة الذاكرة ليصبح للذين لا ذاكرة لهم كأنه الزمن، زمن الانسان في حوار اللحظة النابعة من قسوة الموت وكثافة الرهبة المواجهة لمرآة أنفسنا.
في اللوحة تكون المواجهة مع الزمن حركة الذات تجاه القدر تلامس نتائجها جذور الحقيقة الناشئة من موروث عميق داخل اللا وعي، عبر الحواس التي تكون الادراك بفقدان الاوطان وفقدان الحياة أمام الموت. ازاء كل هذا تبرز قوة الابداع الفني كقيمة تتحدى كل الحتميات السائدة، قيمة كالشمس تقاوم ضد جرح الانسانية الازلي.
وعندما تتحول اللوحة لدى الفنان الى أسطورة مأخوذة من الواقع ومن التاريخ الحضاري النابع من المرتكزات الثابتة لمعرفة الأبعاد الجمالية في التجربة الفنية، نستعيد في تلك الأعمال شيئا من الذاكرة الحضارية القديمة والمفقودة أحيانا وسط ضجيج الحوارات القائمة بين منطق التبعية الثقافية ومنطق الواقع الأليم، ونستطيع ان نقرأ عناوين لوحاته تلك ” ليلة الذئاب، احزان ابو الطيب المتنبي، اختيارات مالك الحزين، اطفال المخيم، الفم، السنبلة واشراقات”.
اذا تأملنا مجموعة “عن الذي رأى كل شيء” التي تناول فيها الفنان هاني مظهر قصة الملك جلكامش، تلك الملحمة التي وجدت في حضارة بلاد ما بين النهرين في مدينة من اقدم المدن على وجه الارض “اور او اوروك او الوركاء” كما تسمى، وكما يقول الباحثون انه اقدم نص مكتوب بالنقش المسماري. لقد استوحى منها الفنان هاني مظهر العديد من لوحاته التي قدمها في أكثر من معرض وفي فترات زمنية متباعدة ومختلفة، حيث طرح من خلالها عدة قضايا:
قضية التراث الحضاري والثقافي الذي ينحدر منه الفنان، حيث تم اسقاط المفاهيم الكبيرة في القصة على انسان هذا العصر من خلال العمل الفني، فجاءت أعماله حديثة في الشكل والمضمون، وأعطت جوا من الألفة بين ماضي الانسان وحاضره، اي بين جذوره المرتبط بها منذ كينونة الوجود.
القضية الثانية والأهم برأيي هي فكرة الخلود التي كان يبحث عنها الملك في بلاد الرافدين قديما والعراق حديثا وهي فكرة مازالت تشغل الانسان الذي يتساءل دائما عن سبب وجوده ما دام سينتهي به المطاف الى الموت. هذا مادفع بالملك في الاسطورة السومرية الى البحث عن ثمرة البقاء والخلود، وهذا ما يقوم به علماء العصر الحديث .
تساؤلات عديدة تنتابنا امام اعمال هذا الفنان ونحن نقرأ عنوان لوحة (ايها الانسان الى اين تمضي، وحدق ماذا يجلب لك النظر الى الشمس، وهل يمكن للميت رؤية بريق الشمس ) . هذه هي تساؤلات الانسان وتساؤلات جلكامش الذي رأى كل شيء، وتساؤلات الفنان من خلال اللون على مساحات اللوحة البيضاء. ان فكرة الموت في أعمال الفنان ملازمة لفكرة الخلود لذلك حين ننظر الى عمل ” من يسقط في المعركة هو الخالد” نتذكر كل شخصيات التاريخ البشري في الحضارات الانسانية من جلكامش الى رمسيس الى هنيبعل الى برومثيوس الى جلادييتور الى كل الخالدين رغم موتهم. ان الموت هي الحالة التوأم للوجود، هكذا تناولها الفنان في اعماله بالمنطق الميثولوجي للحياة، كل شيء الى فناء والخالد الباقي هو الأثر.
ان علاقة الملك جلكامش بأنكيدو كما صورها الفنان في أعماله هي الأمل الباقي للانسان، انها الصداقة التي تجعل من الحياة فرحا وأملا وحبا بعد ان كان يحمل احساسا عميقا بالوحشة والغربة، لكن أنكيدو الذي سقط دفاعا عن صديقه الملك كرس مفهوما للتضحية من اجل الاخر، ولم يغفل الفنان في اعماله هذه علاقة الحاكم بالرعية التي تظهر بوضوح في لوحة “فأسرع عندما ابصر الحقل الحجري يحمل الثمر عقيقا معلقا كالعناقيد” ان الملك في قصة الفنان التشكيلية لم يستطع ان يأكل نبتة الخلود.
ان أعمال هاني مظهر استطاعت ان تكشف ملامح التساؤل أمام الطروحات القائمة لتكون البديل لها، لتكون الحدث التشكيلي المبدع والفاعل وراء الأشكال المتداولة في فنون الطروحات الأولى لأحلام اللوحة الشرقية، فأصبحت كل البشاعات التي يواجهها الانسان فوق لوحاته تكوينا فنيا جماليا يحمل الكثير من المفاهيم الابداعية .
ان في اعمال هذين الفنانين العراقيين خطا يتسامق مع اللوحة ليكشف عن الحقيقة وليدلل على انشغالهما بالتعبيرعن دواخل الانسان فيعكسانها على الوجوه. أما ألوانهما فهي استمرارية مرتبطة بالماضي تعطيهما هويتهما اللونية الخاصة، مما يجعل المأساة تنمو وتكبر فوق البياض، وتزحف على الاجزاء الظاهرة لتشكل الحياة من طموح مناقض للفناء والدمار، وبمفردات كلها تشكل الانسان بواقعه.. بتمرده.. باحتجاجه.. وباستعطافه للسلام. تلك هي اللغة الفنية التي تصيغ فنيتها وتتعامل بالضد مع كل الوقائعالتي تفرزها الحروب القاسية لتبقى النبوءة هي الأمل بالمستقبل.
لقد تعمَّدت الكتابة عن فنانين عراقيين في هذه المرحلة التي نعيشها ونرى ما يحصل في فلسطين، رغم معرفتي لأعمال العديد من الفنانين والفنانات الفلسطينيات منهم لطيفة يوسف، سليمان منصور، عبد الهادي شلّا وغيرهم كثيرون، لأقول ان المأساة ليست فلسطينية فقط إنما انسانية تمس الانسان في كل مكان وكل زمان.