سعيد غريّب
أضع هذه الواقعة بتصرّف الرأيّ العام اللبناني عموماً، والموارنة بصفة خاصّة، ليس الّا للدلالة على التخبّط لدى المسؤولين والقادة الموارنة، والذي تعيشه الطائفة، منذ عقود ثلاثة، ويضعها في حال من الضعف والاحباط، بحيث لا يبقى منها سوى بضعة مرشّحين للرئاسة، يتناحرون ويخوّنون بعضهم بعضاً، فيما الباقون، أي أبناء الطائفة ينتشرون في بلاد الله الواسعة.
ففي العام 2004 وقبيل التمديد ثلاث سنوات للرئيس اميل لحود، استضفت، في برنامجي التلفزيوني، النائب غطّاس خوري، المقرّب من الرئيس رفيق الحريري. في الحلقة، أعلن خوري، بوضوح، أنّه لن يصوّت للتمديد شارحاً الأسباب. سألته: «ألا يتعارض موقفك مع موقف الرئيس الحريري؟ فأجاب أنّ الرئيس الحريري يترك حرية الاختيار لأعضاء كتلته، وما من مشكلة. اتّصل بي الرئيس الحريري، وأنا أقود السيارة عائداً إلى منزلي، قبيل منتصف الليل، وسألني: «هل صحيح أنّ غطّاس هاجمني على الهواء؟» أجبته مشدوهاً: «أبداً دولة االرئيس، لم يتناولك بأيّ كلمة مسيئة، بل على العكس، أشاد بك وعبّر عن رأيه الشخصي، والحديث مسجّل، إذا أردت الاستماع إليه. أجاب «أصدّقك ولا داعي لذلك. يا سعيد الموارنة جنّوا». وكانت تلك اشارة إلى أنّ المتّصلين به، هم من المرشّحين للرئاسة، وهدفوا إلى البلبلة والاثارة والتحريض على غطّاس خوري.
واليوم، وبعد سنوات عشرين على هذه الواقعة، حفلت بالتطورات الكبرى والمخاطر الداهمة والاستحقاقات المهملة، ماذا تغيّر؟ يبدو وكأنّ لا شيء تغيّر. هم هم قادة يتناحرون ويزايدون. هذا فيما أبناء الطائفة ومعهم اللبنانيون كافة، أنهكتهم الحروب على أنواعها من سياسية واقتصادية ومالية، يدفعون الأثمان ويتفرجون على القدرات المحدودة الآيلة إلى تسليم البلد دائماً إلى المجهول. ماذا بقي؟ كأنّه لم يبق في المدار سوى بضعة مرشحين للرئاسة غير عابئين بتحديات المصير وابهامات المستقبل.
هل أنّ التاريخ يعيد نفسه؟ الفيلسوف الألماني Emmanuel Kant يقول في هذا المجال: «انّ التاريخ يعلّمنا أيضاً أنّنا لم نتعلّم منه شيئاً. ما هذا الدرك الذي بلغه وطننا؟ ما هذه الحالة المرضية التي يتخبّط بها معظم أبنائه؟ المسألة مسألة وطن ودولة، وليست مجرّد قضية كرسي يجب ملؤه استقتالاً وحسب! هل يدرك المستقتلون أنّ ما من انسان أنجز أمراً عظيماً وكانت عينه على كرسي، وأنّ صانعي التاريخ مجهولون في الخبايا.
انّ المطلوب جمهوريّة لا رؤساء من دون جمهوريّة، خصوصاً أنّ الموارنة كانوا أوّل المتمسّكين بقيام لبنان، ويجب أن يظلّوا آخر المتمسّكين ببقائه بقيادة حكيمة، وإن لم يكتب لها أن تظهر حتى الآن. نعم، الموارنة يستطيعون انقاذ لبنان، بكنيسة ملتزمة وقيادات فكريّة تعيدهم إلى دورهم الطليعي. فهم يجب أن يعرفوا أنّ أيّ رئيس ضعيف يمكن أن يكون قويّاً جداً، اذا التفّ قادتهم حوله، ودعموه بطاقاتهم، متنازلين له وللدولة عن أنانيّتهم. انّ الموارنة جزء- ركن من شعب لبنان، وجدوا في الأساس في لبنان ليبقوا فيه، ومن هاجر لم يفكّر طويلاً ليعود اليه. هم اليوم متمسّكون به لكنّهم غير متمسّكين بالبقاء فيه. أسّسوا لبنان الحديث، لأنهم كانوا سادة الحوار.
أمّا اليوم فالخشية، لا سمح الله، أن يكون الملح قد فسد، أو على وشك أن يفسد، لانّهم مختلفون فقط على من يمسك دفة القيادة من فوق كرسي ونفوذ. إنّ الجميع يعوّلون على اتّفاقهم، لأنّه من اتّفاقهم يبدأ لبنان من جديد، شرط أن يكون الاتّفاق على انقاذ لبنان، ولا شيء غير ذلك. حتى هذه اللحظة يقال «في رأس كل ماروني كرسي». أمّا المطلوب فأن يكون في رأس كلّ لبناني دولة.
***
*نداء الوطن 27-1-2024