بقلم: كلود ابو شقرا
نكرّم أجسادهم ونحترم تعاليمهم ونسير على خطاهم ونتشفع بهم طالبين العون منهم للتغلب على الشر والأشرار… إنهم القديسون الذين قهروا الممالك الأرضية وماتوا بحد السيف وذاقوا أشد انواع الهوان والعذاب، فثبتوا في إيمانهم، وأضحوا مثالا للقداسة وباتت ذخائرهم صلة الوصل بين الإنسان والله يطلب بواسطتها نعمة أو شفاء أو خلاصاً أو حلاً لوضع مؤلم أو لعقبات ومصاعب… منذ العهود الأولى للمسيحية انتشر تقليد تكريم ذخائر القديسين، ودرج الناس على اعتبارهم شفعاء لهم لدى الآب السماوي، لأن نعمة المسيح شاءت أن تصل إلى البشر مشفوعة بتعاليم هؤلاء القديسين وصلواتهم وآلامهم واستشهادهم…
تنقلت ذخائر القديسين في العالم أجمع على مرّ التاريخ، سرق بعضها وحفظ بعضها الآخر باعتبارها أثمن عطايا الله، أحدث هذه الذخائر تلك العائدة للطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني التي تعرضت للسرقة منذ فترة قصيرة وما زالت مفقودة إلى اليوم، رغم المناشدات بإعادتها قبل إعلانه قديساً في 27 نيسان المقبل.
يوحنا بولس وبادري بيو
فوجئ العالم في أواخر كانون الثاني بخبر سرقة ذخائر الطوباوي يوحنا بولس الثاني، من كنيسة القديس بطرس ديلا يينكا (الأكويلا)، وهي عبارة عن قطعة قماش تحمل دم الطوباوي، موضوعة ضمن صليب، وبعد أيام القي القبض على سارقي الذخائر، ووجد رجال التحري الصليب وحامل الذخيرة في حفرة في الأرض، في منطقة كوليماجو، فيما بقيت الذخيرة مفقودة. وقد اعترف الشبان الثلاثة البالغة أعمارهم: 18 و23 و24 سنة، وهم مدمنون، بأنهم رموا قطعة القماش التي تحمل ذخيرة دم الطوباوي لأنهم لم يعرفوا قيمتها.
أما الذخيرة المفقودة، فهي واحدة من أصل ثلاث فقط في العالم، قدمها إلى الكنيسة رئيس أساقفة كراكوفيا ستانيسلاو دشيفيش. وكان الكاردينال البولندي أطلق نداءً لمن سرق الذخائر، طالبًا إعادتها إلى المزار قبل إعلان قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، لأن “لا قيمة تجارية لها، لكنها تحمل قيمة عاطفية كبيرة جدًا لدى المؤمنين”.
سرقة ذخائر الطوباوي يوحنا بولس الثاني ليست الأولى ، فقد تعرضت ذخائر الأب بيو للسرقة أيضاً، إذ حاول اللصوص سرقة صندوق الذهب، الموضوع في سرداب كنيسة سانتا ماريا دل غراتسييه، حيث ضريح الأب بيو في مدينة سان جيوفاني روتوندو، قرب فوجيا – شمال إيطاليا، إلا أن محاولتهم باءت بالفشل بفضل الزجاج المقوى الذي يحمي ضريح القديس والصندوق. يذكر أن صندوق الذهب يحوي ذخائر القديس بيو، منها: قطعة من القماش لإزالة الدم، وقفازان.
في الكتاب المقدس
تعود أصل التسمية إالذخيرة إلى السريانية، وهي جزء من جسد أو ممتلكات قديس أو شخصية مقدسة يتم الاحتفاظ بها لغاية التبرك أو التعبد. في الكتاب المقدَّس دلائل على تكريم ذخائر القديسين، فقد ورد في العهد القديم أن عظام يوسف الصدّيق حفظت بعناية واهتمام (يشو 49: 15 ). والله نفسه كرّم جسد صفيّه موسى بشرف عظيم إذ دبّر أن تدفنه الملائكة في أرض الموآبيين، ويذكر عن ذخائر القديس اليشع أنَّه ما كاد جسد أحد المتوفين يمسّ عظام النبي في قبره حتَّى يعيش…
في العهد الجديد، جاء في إنجيل متى أن قبور الأنبياء في أيام المسيح كانت مبنية في أورشليم ومدافن الصدّيقين مزيّنة تكريمًا لذخائرهم المقدسة. وفي الأزمنة المسيحية الأولى، كُرمت ذخائر الشهيد بوليكاربوس (حوالي 156-157 ) فبقاياه توصف بأنها “أغلى من الأحجار الكريمة وأثمن من الذهب”، وكان المؤمنون يحرصون على جمعها بكل انتباه ويكرمونها أجلّ إكرام يليق بالقديسين.
خلال الاضطهاد المسيحي ازداد إكرام ذخائر الشهداء. في منتصف القرن الثالث أثبت كبريانوس القرطاجي إكرام أدوات تعذيب الشهداء بقوله: “إن اجساد السجناء من أجل المسيح تقدّس سلاسلهم” (الرسالة 13 )، وفي القرن الرابع خبّر باسيليوس القيصري عن الاحتفال الرسمي الذي كان يحصل في تذكار يوم استشهادهم.
اختلفت ممارسة اكرام ذخائر القديسين والشهداء في الشرق عنها في الغرب. ففي الشرق كانت أجساد القديسين تكشف، وتقسم أجزاء وتنقل من مكان إلى آخر، كانتقال ذخائر القديس “بابيلاس” (351)، وفي القرن الرابع كان نقل البقايا يتم باحتفالات مهيبة، على غرار نقل بقايا القديس نيقولاوس إلى “باري”، ونقل بقايا القديس يوحنا الذهبي الفم إلى القسطنطينية.
اختلفت ممارسة إكرام الذخائر في الغرب، لأن قانون الثيودوسيان الذي أصدره الامبراطور ثيودوسيوس الثاني (435 )، كان يعاقب بقساوة من ينبش القبور، لأنه يعتبر أن نقل البقايا وكشفها انتهاك وتدنيس لحرمة القبور. وقد دافع البابوات عن هذا الرأي بقوة واعتقدوا أن نقل بقايا القديس أمر شاذ ولا يسمح به إلا لأسباب قاهرة وجوهرية، ولكن هذه القساوة ما لبثت أن خّفت في القرن الثامن، وسمح البابا بولس الأول (757- 567) وباسكال الأول (817 – 824 ) بنقل البقايا، ونتيجة ذلك بدأت في ايطاليا عملية تقسيم أجزاء من أجساد القديسين وتوزيعها. وفي عهد شارلمان تقرّر إكرام البقايا…
في الشرق، وبعد الصراع بين مؤّيدي الأيقونات ومحاربيها تطور إكرام بقايا القديسين والأيقونات. فالقديس يوحنا الدمشقي دافع عن عقيدة اكرام بقايا القديسين في الشرق مستندًا إلى تعليم: أن الله أعطى بقايا القديسين للكنيسة كمعنى خلاصي، وقد أصبح هذا الرأي نقطة انطلاق في الفكر الأرثوذكسي عموماً مع العلم أن بقايا القديسين تأخذ اكرامًا ثانويًا من الإكرام المعطى لله.
سمى المجمع المسكوني السابع (787) ذخائر القديسين “ينابيع الشفاء”، وحدّد أن توضع الذخائر المقدسة في الكنائس وتبخر متوعدًا بالحط من الرتبة الأسقفية، في حال عدم القيام بذلك، إذ قال في قانونه السابع: “إننا نحدد أن يتمم بالصلاة المعينة وضع ذخائر الشهداء المقدسة في تلك الكنائس التي تكرست بدون أن توضع فيها يوم تكريسها. والأسقف الذي يحتفل من الآن بتكريس كنيسة بدون ذخائر مقدسة فليحط كمتجاوز التسليمات الكنائسية…”
تكريم الذخائر
لمناسبة اختتام “سنة الإيمان” 2013 عرض الفاتيكان، للمرة الأولى على الملأ، عظاماً تخص القديس بطرس. وقال رئيس الأساقفة رينو فيزيكيلا، رئيس المجلس البابوي لتعزيز الكرازة الجديدة بالإنجيل، إن عرض الذخائر في الفاتيكان طريقة مناسبة لاختتام سنة الإيمان في 24 تشرين الثاني، وأن الملايين من الناس حجوا في هذه السنة إلى قبر القديس بطرس.
يذكر أن عظام القديس بطرس اكتشفت أثناء الحفريات التي أجريت تحت كاتدرائية القديس بطرس في أربعينيات القرن الماضي، بالقرب من النصب التكريمي له الذي أقيم في القرن الرابع الميلادي. ولم يعلن أحد من البابوات أن هذه العظام أصلية، ومع ذلك، خضعت لاختبارات علمية في خمسينيات القرن الماضي، أعلن خلالها اكتشاف قبر القديس بطرس استناداً إلى معطيات داخلية ضمنية، منها التقليد الكنسي وروايات المؤرخين.
بمباركة من البطريرك كيريل الأول، بطريرك موسكو وسائر روسيا للأرثوذكس، جالت “كنيسة عائمة” في رحلة نهرية، من منبع نهر فولغا حتى موسكو، تحتوي ذخائر ثمانية من القديسين عاشوا قبل الانشقاق الكبير بين الكنيستين الغربية والشرقية، مهداة من الكنيسة الكاثوليكية إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، من بينهم برثلماوس الرسول، الشهيد اسطفانوس، القديس جاورجيوس، ومعلم الكنيسة يوحنا ذهبي الفم.
محطات تاريخية
تشكّل المذاخر أولى الأغراض الثمينة التي وصلت من بيزنطة إلى الغرب. بعد غزو القسطنطينيّة ونهبها، أرسل الدوغا أنريكو داندولو إلى البندقيّة ذخيرة الدم الثمين جدّاً، وصليب المسيح في مذخر خاص لذخائر صليب المسيح، ورأس القديس يوحنّا المعمدان ويد القديس جرجس. ونظراً إلى الحاجة الملحّة للمال، باع بلدوين الثاني، امبراطور لاتيني في القسطنطينيّة، أثمن ذخائر الآلام، وهي إكليل الشوك، إلى تاجر من البندقيّة يدعى نيكولاس كويرينو. قبل أن ينضمّ إلى مجموعة الذخائر المسيحيّة المهمّة التي جمعها لويس الثاني، مرّ إكليل الشوك أوّلاً في البندقيّة ثمّ بلغ باريس في إناء من الذهب الخالص، ومنها نُقل الإكليل، والصليب الحقيقي، والحربة، وكلّ الذخائر القسطنطينيّة تقريباً إلى مذاخر جديدة، قبل أن توضع في المذخر الكبير الذي أُعد في الكنيسة المقدسة لاستقبالها.
من الذخائر الثمينة أيضاً تلك التي يضمها دير فيلوثيو، مبني على منحدر في منطقة كثيرة الشجر في وسط شبه جزيرة آثوس إلى الجهة الجنوبية، من بينها: ذخائر للذهبي الفم، وهي هدية من الأمبراطور أندرونيكوس الثاني، وقطعة من العود المحيي هدية الأمبراطور نيقيفوروس الثالث..
كذلك يحتضن دير ديونيسيو الذي يقع في جنوب غرب شبه جزيرة آثوس، كنوزاً مهمة من بينها: اليد اليمنى للسابق المجيد التي عمّد بها الرب يسوع المسيح في الأردن، بالإضافة إلى صليب فيه قطعة من الصليب المحيي، قطع من عظام القدّيس نيفون موضوعة في علبة ذخائر مغطاة بالفضة والذهب مزخرفة بشكل مميّز. إلى جانب قطعة من سلسلة الرسول بطرس الذي حرره منها الملاك بشكل عجائبي عندما كان هيرودوس الملك مُزمعاً أن يقتله (يُعيَّد للسجود للسلسلة في 16 كانون الثاني).
قديسو لبنان
بورك لبنان بقديسين ارتفعوا على المذابح منذ منتصف القرن العشرين لغاية اليوم، من شربل إلى رفقا إلى نعمة الله الحرديني والأخ اسطفان نعمة والأب يعقوب الكبوشي والأب بشارة أبو مراد، والسلسلة مستمرة على أمل تطويب البطريرك الدويهي والحبيس أنطون طربيه… لهؤلاء ذخائر في الأديار التي دفنوا فيها وهي عبارة عن جثمانيهم وقطع من ثيابهم ، يتبرّك بها المؤمنون. ويستقبل لبنان باستمرار ذخائر قديسين من العالم: القديسة تريزا ووالديها، دون بوسكو… كذلك استقبل منذ سنوات نسخة طبق الأصل من كفن السيد المسيح (المحفوظ في تورينو) عرضت في كنيسة سيدة الأيقونة العجائبية في بيروت
يوضح الأب بولس قزي، طالب دعاوى القديسين في الرهبانية اللبنانية المارونية، “أن هناك ثلاثة أنواع من الذخائر: “إكس أو سيبوس” وهي الذخيرة التي تؤخذ من عظم القديس، “إكس كوربوري” تؤخذ من الجلد والشعر والأنف وغيرها، “إكس أندو منتيس” من ثياب القديس أو ما يسمى من جثمانه، وكل هذه الذخائر تكرم لأنها تعتبر عن حضور القديس في قلب الذخيرة، وإكرامها هو إكرام له نفسه، من هنا علينا تكريم هذه الذخائر والحفاظ عليها في أماكن خاصة في دور العبادات أو في المنازل في أمكنة تليق بها ويصلى أمامها وتطلب من خلالها شفاعة القديس”.
على هامش الاحتفالات بالذكرى السنوية 1600 لميلاد القديس مارون في السماء (2010)، احتفلت الرعية المارونية في روما بوضع ذخائر قديسي لبنان الثلاثة: شربل، رفقا، الحرديني، في كنيسة القديس مارون في المدرسة المارونية في روما. “قلب هذا الاحتفال هم قديسون من أرضنا، ومن وطننا، من شعبنا، من لحمنا ودمنا”، حسب قول الأب بولس قزي، الوكيل العام للرهبانية اللبنانية المارونية في روما، في عظته خلال الاحتفال.
أجساد قدّيسين لم يصبها الفساد
وجدت أجساد ما يزيد على 250 قديساً في الكنيسة الكاثوليكية لم يصبها أي فساد ولا تزال محفوظة إلى اليوم من بينهم: شربل، الأخ اسطفان نعمة، القديسة أغاثا، القديسة كاترين لابوريه، القديسة برناديت، القديسة سيسيليا، القديسة كلارا من أسيزي، القديسة ماريا غوريتي، القديسة ريتا، القديسة كاثرين، القديس جان- ماري باتيست فياني (خوري آرس)، القديسة تريزا من أفيلا، بادري بيو…
كلام الصور
1- ذخائر الطوباوي يوحنا بولس الثاني
2- سرقة ذخائر يوحنا بولس الثاني
3- ضريح بادري بيو
4- ذخائر القديس بطرس
5- ذخائر يوحنا فم الذهب
6- قديسو لبنان
7- جثمان القديسة كاثرين لابوري