سيتّفقون على اللصوص

 

   سعيد غريّب

 

نحتفل بأعيادنا، منذ تسعة وأربعين عاماً، على وقع الأزمات المتلاحقة والمشاكل المتراكمة والتسويات غير الناضجة والحلول شبه المستحيلة. بعد تسعة وأربعين عاماً، لم يعد لدينا من الوقت ما نضيّعه. لقد ضاق الزمن وكل لحظة فيه، قياساً إلى ظروفنا، تعادل عمر انسان.

قبل ثلاثة وثلاثين عاماً، قالوا لنا إنّ الحرب انتهت، ولكننا خفنا من السلام لأنّ الحرب هي تحدي الموت فيما السلام هو تحدي الحياة، ولأننا لم نكن بعد جاهزين للسلام.

تسع وأربعون سنة مضت، وكأننا نحاول المستحيل. نحاول، وعند كل نكسة، نعود فنبدأ من الصفر، كما النملة التي تحمل حبة تكبرها حجماً ووزناً، كما Sisyphe يحمل الصخرة إلى أعلى الجبل، لتعود فتتدحرج من جديد. ولكن ماذا في الجانب الآخر من الصورة؟ نحتفل منذ تسعة وأربعين عاماً، ونتحدى الدنيا بإيمان، ساطع كالثورة، بأننا مقبلون على لبنان جديد يخرج من التجربة. إنّه مشهد عظيم ليس له مثيل في العالم، هي قوّة لا تفسير لها تبقي لبنان على قيد الحياة، ورسالته مفتوحة أمام العالم الخارجي. هي عدوى «لبننة» العالم أجمع، إذا أراد هذا العالم أن يبقى على قيد الحياة. إنّ لبنان الذي عانى الكثير من ظلم الدول، ينظر اليوم إلى هذه الدول وهي تعيش الظلمات. ولبنان الذي دفع غالياً ثمن نقل مشاكل العالم إلى أرضه، ينظر اليوم إلى دول هذا العالم، وهي غارقة في البحث عن حلول لمآسيها. ولعلّ في اللبننة الشفاء.

فعلى الرغم من مساوئ الخطاب الطائفي حيناً والمذهبي حيناً آخر، لما له من انعكاسات سلبيّة على الساحة السياسية، وعلى الرغم من صعوبة شفاء الذاكرة وتنقيتها من رواسب الحرب، تبقى طوائف لبنان مصدر غنى ديني وثقافي حتى يقال إنّ أعياد لبنان، بل الأصح طوائف لبنان هي سرّ خلاصه واستمراره على قيد الحياة، ولولاها لكان لبنان تاريخاً.

لقد استطاعت هذه الطوائف بفعل انصهارها، ولو البطيء، أن تتواصل وتتفاعل وتتناغم، بحيث ترى المسيحي منغمساً ومشاركاً فاعلاً في احتفالات أعياد المسلمين، فتراه مثلاً مبادراً إلى اقامة افطارات والدعوة إليها، كما ترى المسلم يسارع بكل فرح إلى وضع شجرة الميلاد وتشييد مغارة الطفل يسوع في منزله.

أما شباب لبنان فهم اليوم أكثر انفتاحاً واندماجاً في المجتمعات المختلفة، لا يرضون بالتقوقع ويرفضون التخلّف، وهم سيكونون في العام 2024 وما بعده قدوة لشباب العالم، لأنّ عجينتهم ممزوجة بخميرة صالحة، منبتها الأجداد الذين أنجبوا ثلاثة قديسين يشفون المرضى المسلمين والمسيحيين على حدّ سواء. وليس تقاطر النساء المحجبات خصوصاً، والمسلمين عموماً إلى سيدة لبنان في حريصا ومقام القديسين الثلاثة شربل والحرديني ورفقا سوى عيّنة عن تلاحم الديانات السماوية.

إنّ لبنان المستقبل سيكون عظيماً في شبابه المؤمن والذكي، لا المتعصب، هؤلاء الشباب هم مدركون اليوم أكثر من ذويهم في ما مضى أنّ المال لن يفسدهم وكذلك الخوف. وأنّ المهزلة لن تتكرّر لأن المتراسين، أي 8 و14 آذار، يزولان ولن يكون كذباً على النفس ولا استقطاباً لجمهور ولا غريزة ولا تعصباً ولا شراء ذمم، ولن يسمحوا بأن «يتمقطع» بهم أحد كما هو حاصل اليوم. سيطهّرون الشاشات، وستكون حرية التعبير ضد التبعيّة لا عنها، حرية التعبير ضد الانصياع الجبان لارهاب المتراسين والرشى المفعمة بالروائح.

إنّ شباب لبنان سيأخذون شعب لبنان إلى حيث لا خضوع ولا خمول. سيتخرجون غداً من المدارس والمعاهد والجامعات ليتفوقوا بعد غد على اللصوص. إنّ شباب لبنان يرددون في يوم النور وبمساعدة الأنبياء والقديسين: «لن نكون ضحايا بعد اليوم. سنأخذ لبناننا ونعيد إليكم لبنانكم».

***

*نداء الوطن  28 كانون الأول 2023

اترك رد