من العميد إلى العماد أو البيك

 

 

   سعيد غريّب

 

 

«إنّ الذين غيّبوا ريمون اده عن أرضه وهو بعد حيّ فعّال انّما كانوا، وعلى تعدد مشاربهم وتضارب مصالحهم، يريدون ألّا تكون للبنان الرئاسة التي تنقذ استقلاله وديموقراطيته وسيادته من حروبهم ومعاصيها والمآسي» (غسان تويني).

لقد اختار العميد ريمون اده المنفى الفرنسي في العام 1977 واستمرّ فيه حتى وفاته في العاشر من أيّار عام 2000. بالإضافة إلى مواقفه الناقدة بحدّة لمسار السياسة والشأن العام في لبنان ومواقف القيادات وتصرفاتهم، كل ما استطاع أن يفعله، على مدى الأعوام الثلاثة والعشرين، أنه تمكّن من أن يفرض رفع العلم اللبناني، على مداخل الفنادق التي أمضى فيها بقية حياته، في فرنسا ولا سيما فندق «كوين اليزابيث» في باريس وفندق «الصيف» في منطقة Beaulieu على شواطئ جنوبي فرنسا.

كنت أحرص على زيارته كلّما سنحت لي فرصة الذهاب إلى فرنسا، لأغرف من مخزونه وأعيش ولو من بعيد، الزمن الجميل الذي أغناه العميد بالنزاهة والنظافة، والتشريع والديموقراطية، والشجاعة والنقد القاسي والأحكام الصائبة، وهو النائب الوحيد بين زملائه الذي لم يتقدم من دوائر المجلس النيابي بفواتير الاستشفاء، لاستعادة ما أنفقه.

«يا أخي أنا مسدّد كل شي في بيروت وغير بيروت، حراسة وكناسة وضريبة دخل، الله بيحبني وحوّلت مصريّاتي إلى الفرنك الفرنسي، عندما كان بثمانين قرشاً، والّا كيف كنت بدي عيش هون بباريس. بعت معظم أملاكي وأعيش بكرامتي».

عندما تسأله عن مصير لبنان يقول: «لا أعرف. هل أنت تعرف؟ الدول منصرفة إلى مصالحها، لا أحد يهمّه أمرنا. هذه البلاد ليست أجمل من لبنان، ولكن عندهم الأمن والانسان. انظر هذا يخت لبناني، كل ما استطعت أن أفعله انني رفعت العلم اللبناني في الفندق». يضيف من دون أن أسأله: «انظر إلى هذه الطائرة التي تشفط المياه من البحر، لتطفئ حريقاً في المنطقة. كم من مرة طالبت أن تمتلك دولتنا العلية ثلاث طائرات مماثلة، ولكن لا حياة لمن تنادي».

لا ينتهي النقاش مع العميد، كان يبدأ ولا ينتهي لأنّ عدم اليأس هو تصرّف طبيعي للبقاء. أين مشكلتنا برأيه؟ يقول: «إنّها مع الخارج، فلا أمل من أميركا، مع أنني لا أزال اعتقد أنّ الخارج يستطيع أن يعمل شيئاً للبنان، لانّه هو الذي أوصل لبنان إلى وضعه الحالي»، ويسأل: «ماذا سيكون مصير الاجيال اللبنانية الجديدة؟ يا أخي لقد عسكروا مجتمعنا. حرام ما فعلوه بأولادنا، بس لو سمعوا مني». ويتابع: «بقيت وحيداً ضد اتفاق القاهرة وطالبت بالبوليس الدولي، ولكن لا حياة لمن تنادي».

قبيل معركة رئاسة الجمهورية التي لم تحصل في العام 1988، سئل العلامة محمد حسين فضل الله: ما رأيك بالعميد رئيساً للجمهورية؟ فأجاب: «اسألوا الناس، الكبار والصغار يقولون: العميد. أنا أؤمن بعفوية حبّ الشعب له وتفضيلهم اياه، كلّ الشعب يتكلّم عنه كأنّ كل فرد يعرفه شخصياً. من حظ لبنان أن تولى العميد «تظبيط تركيبته».

العميد اده لم يكن يسعى وراء منصب على الرغم من أنّه كان المرشّح الدائم والأوفر حظّاً للرئاسة. تخلّى عن وزارة الداخلية في العام 1959 اعتراضاً على تعسّف الحكم والتعرّض للحريات، وعن أربع حقائب وزارية ليلة رأس السنة عام 1968، اثر الاعتداء الاسرائيلي على مطار بيروت، وتدمير ثلاث عشرة طائرة تابعة لطيران الشرق الاوسط، كتصرّف مسؤول لمن لم يستطع منع الاعتداء.

الاستقالة منذ ذلك الحين، أصبحت نادرة في حين أنّ التخلّي عن المنصب قوّة لا يمتلكها الا من اتصف بمؤهّلات القيادة. ويعيدنا ذلك بالذاكرة إلى واقعة يعود تاريخها إلى العام 1966، عقب انهيار بنك انترا.

حينها، امتثلت حكومة الرئيس عبدالله اليافي أمام المجلس النيابي المنتخب، في العام 1964، للمساءلة والمحاسبة، وتولى الرئيس اليافي المرافعة، مشدداً على أنّ حكومته تعمل ليل نهار، لمعالجة ذيول هذه الكارثة التي حلّت بوطننا. طلب النائب أديب الفرزلي الكلام، وقال لرئيس الحكومة: «كنا نودّ يا دولة الرئيس لو وصلتم الليل بالنهار، للحؤول دون وقوع هذه الكارثة. أما وقد وقعت الكارثة فما جدوى الكلام اليوم ولا لزوم لمزيد منه». والتفت الفرزلي إلى النواب ليقول: «أيها الزملاء، انظروا إلى هذه الحكومة. انها ليست على مستوى الاستقالة».

نعم، الاستقالة أحياناً من شيم القادة وليس كل القادة قادرين على الاستقالة. فعلها العميد واستمرّ معارضاً طوال حياته، وكان الجميع يخشى من أن يطالهم تصريح من تصريحاته اللاذعة. كان رجل مبادئ من الدرجة الاولى، مع الحليف ضد العدو، ومع المبادئ ضد الحليف. رحم الله العميد ويمكن أن يكون ما تقدم بعضاً من ضوء للعماد أو البيك.

***

*نداء الوطن 20 كانون الأول 2023

اترك رد