بقلم: الباحث خالد غزال
قدم الرئيس الجزائري الحالي عبدالعزيز بوتفليقة ترشيحه لولاية رابعة تمتد خمس سنوات مقبلة. كان القرار مفاجئاً، عندما أعلن عنه قبلاً، لا سيما انه أمضى معظم العام الماضي في مستشفيات فرنسا للعلاج، وتحدثت الأخبار غير مرة عن إعاقات تمنعه من ممارسة مهماته الرسمية، ووصلت الأنباء الى حد توقع وفاته. هذا الهوس بالسلطة ليس ميزة جزائرية بمقدار ما هو «طبيعة عربية» تعيش في عقل كل عربي على حد تعبير عالم النفس المصري مصطفى صفوان: «في رأس كل عربي يسكن فرعون».
يقدم العالم العربي لوحة مشابهة لطبيعة الحكام الذين تولوا السلطة فيه، بحيث اعتبر كل واحد منهم انه امتلك البشر والحجر، وأن سلطته لا تنتهي إلا بوفاته الطبيعية او الاغتيالية. في سورية انتهت ولاية حافظ الأسد بموته، وعندما ثار الشعب السوري على ابنه بشار وطالبه بالرحيل، كان الجواب: «إما أنا او تدمير سورية».
ولم يكذّب خبراً، فها هي سورية تتحول أنقاضاً بفضل استخدام ترسانته العسكرية لهدم بناها التحتية وتشريد شعبها وقتله. قبله، تصرف الرئيسان المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي على المنوال نفسه، نسي كل منهما انه قضى في السلطة أكثر من ثلاثين سنة، وعندما تحرك الشعب ضدهما في بلديهما، خاطباه بأنهما سيتنازلان عن حقهما المكتسب في السلطة ولن يترشحا لولاية جديدة. أمّا الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، فاحتاج الى عملية اغتيال ليقبل بتسوية تزيحه عن سلطته بعدما ظل يراوغ لأشهر عدة للبقاء في موقعه، وتأمين وراثة أولاده من بعده. حتى في لبنان، البلد الذي تحكمه قوانين دستورية تمنع تجديد الولاية الرئاسية، أبت سلطة الوصاية السورية إلا ان تلحقه بالوضع العربي العام فمددت الرئاسة لرئيسين هما إلياس الهراوي وإميل لحود، بعدما أجبرت مجلس النواب على تعديل الدستور مرتين.
تتضمن معظم الدساتير العربية نصوصاً تركز على الديموقراطية واحترام مبادئها وخصوصاً منها تداول السلطة. يسود انفصام بين النص وممارسته، فالنصوص موضوعة بصفتها ديكوراً، وموجهة الى الخارج لإظهار وجه السلطة المواكب للتقدم واحترام حق الشعب في التعبير عن ممارسته للسلطة. وتنص الدساتير على حق اختيار الرئيس بالاقتراع الشعبي، لكن النتائج تأتي دائماً بنسبة مؤيدة للرئيس تكاد تستقر على 99 في المئة من المقترعين، هذا فيما يجب ان يمتنع أي مرشح عن منافسة الرئيس احتراماً للهيبة المطلقة.
لا تستعصي التفسيرات الاجتماعية والسياسية عن قراءة ظاهرة الرئاسة الأبدية التي يضعها كل متولٍ للسلطة في رأس اهتماماته. لم تصل الدول العربية الى مرحلة من تكوّن مؤسسات دستورية ذات سيادة تفرض قوانينها على الحياة السياسية. يعود ذلك الى كون هذه الدول لم تحقق من الحداثة سوى قشرة رقيقة، فيما ظل السائد هو الموروث العصبوي المتمثل بالعقلية العشائرية والقبلية والطائفية، ما جعل السلطة المركزية تنجدل بهذه البنى، مما يجعل ذهاب الرئيس او طلب إقالته مسّاً بالعصبية التي ينتمي اليها، وليس الى الدستور الناظم لعمل مؤسسات الدولة. لذا لم يكن غريباً ان تتحول مطالبات الشعوب بالتغيير الى حروب أهلية بين البنى العصبية القائمة، ولا تنتهي – اذا ما انتهت – إلا بتدمير ما يكون البلد قد حققه من حد من العمران او التحديث.
وعندما تعجز المؤسسات الدستورية عن إدارة البلاد وفرض القوانين، يصبح الاستبداد البديل عن هذه المؤسسات، ويصبح الهم المركزي للحاكم بناء الأجهزة الأمنية والمخابرات وتسليطها على الشعب وقمع أي معارضة ضد الحاكم، بل زج المعارضين في السجون او تشريدهم في المنافي او ترحيلهم الى القبور.
يشهد تاريخ الأنظمة العربية منذ قيام دول الاستقلال على أبشع أنواع الاستبداد الذي مورس ضد الشعوب العربية. لعل الانتفاضات العربية التي تشهدها بعض البلدان العربية هي النتيجة المنطقية والإبنة الشرعية لهذه الأنظمة، التي أعاقت تطور هذه المجتمعات، ومنعت شعوبها من حقها في العمل السياسي، فأنتجت احتقاناً ما لبث ان انفجر حروباً دموية وفتناً طائفية ومذهبية.
عندما يمعن المواطن العربي في النظر الى حال المجتمعات الغربية، لا يعثر على بلد تطالب فيه قوى سياسية او حزبية بتمديد ولاية الرئيس او تجديدها. تجاوزت هذه المجتمعات سلطة الحاكم الفرد، وباتت دساتيرها هي الحكم الفاصل في الممارسة السياسية. لا احد ينكر ان ثمناً باهظاً دفعته هذه المجتمعات لتصل الى هذه المرحلة من التداول السلمي السلس للسلطة. قد يكون على مجتمعاتنا العربية ان تمر بمطهر الحروب والفوضى والعنف المنفلت من عقاله قبل ان تتكون لديها ثقافة احترام القوانين والاعتراف بالآخر وترك السلطة عندما تنتهي فترة الحكم. انه مخاض بعيد جداً حتى الآن ويقع في دائرة المجهولات واللامرئيات.
كلام الصور
1- الرئيس بوتفليقة
2- زين العبدين بن علي