“المقامات الصوفيّة في شعر ربيعة أبي فاضل” للدكتورة نتالي الخوري غريب في قراءة للدكتورين يوسف عيد ونبيل أيوب

لمناسبة صدور  “المقامات الصوفيّة في شعر ربيعة أبي فاضل” الدكتورة نتالي الخوري غريب، نظمت الحركة الثقافية أنطلياس ندوة حول الكتاب ضمن rabyiaالمهرجان اللبناني للكتاب (1- 16 مارس) شارك فيها: الدكتورة ربى سابا والدكتور نبيل أيوب، وأدارها الدكتور يوسف عيد. في ما يلي كلمتا الدكتور يوسف عيد،  والدكتور نبيل أيوب.

 

د. يوسف عيد

أن تشدّك بقعة ضوء في ظلام الوطن

أن  تتظلّل شجرة وارفة تحمي

أن تلفى نفسك في حراك فكري محاطاً بأعلام الشعر والفكر والأدب

أن تكّل خركة ثقافية في قلب الأزمات مهرجاناً للثقافة ودفءاً بعد ابتعادك عن صقيع الجامعة

أن تتحمّل مسؤولية دعوة الناس الى الإلفة والتلاقي في ظلّ سيف الخوف المسلّط

أن تقرأ في نشاطها تكريماً لعشرات الكبار من بلادنا ومئات الندوات والتوقيعات

أن تشعر كم أنت بحاجة ماسّة الى هذه الرئة النظيفة بعد أن امتلأت رئتاك من غبار الإصلاح في كلّيتك

أن تحثّك على ثورة بيضاء لتحافظ فيها على شرف الإنسان والقيم

أن تأخذك الى أمان الفطرة فتشعر أنك وسط عاميّة طاهرة

أن تنسيك ولو لفترة ترف السياسة وأهلها وفساد الحكم وأحزابه، أي أن تشلطك شلطاً من واقع أسود نتن ، وترميك في مساحة نور وإشراق ،

لعمري ، هذه هي الحركة الثقافية في إنطلياس ، حكومة بلادي وهذه ناسها . تعيد لنا ثقافة الفكر لمواجهة ثقافة الموت ، وتزرع السلام في مواجهة العنف ، فليس غريبا على عائلتها أن تمثّل الوطن ! كلّ فرد فيها يستحق التحية والشكر ، خصوصاً للمفاعل النووي فيها أمينها العم الدكتور عصام خليفة الذي لا يرضى إلاّ باحتضان الجميع تحت علم الثقافة . هذه الروح المناضلة هي قيمة من قيم أهل الصوفية.yousefeid

وكتاب السيدة ناتالي الخوري غريب ، المقاملت الصوفية في شعر ربيعة أبي فاضل ،دار سائر المشرق ،هو محاولة جادّة في طرح رؤية كلاسيكية حول شاعر غير كلاسيكي . هذا يعكس مرآة نظرتها الى الحياة ، فناتالي تعيش الحالة التي تكتب بصدق وعمق وطهراة نفس تنوجد فيها فتنقلها بأمانة الى قلوب القارئين . هذه الصادقة في قولها تحاول إمساك عصا التوازن في نصفها ، وهي تمشي على حبل دقيق مشدود بين ضفّتين الصوفية القديمة  والمفهوم المعاصر . لقد أحسنت توقيع خطواتها ووازنتبين المقبول والمعقول ، ورسمت صورة الصوفي الملتزم بمقامات أهل الذكر . إنه كتاب يدعو القارىء الى الإبحار في هذا العباب وسأترك لزميليّ تقييم ذلك . المسألة الصوفية دقيقة وعميقة وغارقة في التاريخ ومتشعّبة وشاملة ومطلّلة على مختلف التيارات الفكرية والسياسية والفلسفية والشعرية . هذا كتاب ناجح لأن الباحثة صادقة ونلجحة في عرضها . ولكن امحوا لي أن أسجّل رأيا ،قد لا يكون صئبا في هذا الموضوع ، وهو أن ربيعة أبي فاضل ، ليس صوفياً بالمفهوم الكلاسيكي الذي يتفق عليه العارفون أو كما حاولت عرضه الباحثة .

  لأنّه يؤمن بأنّ المسيحية ترهّباً وتنسكاّ وقداسةً، وليس تصوّفاً بالمفهوم الاسلامي ومقاماته . قد يتخلّق ببعضِ فضائلِ الصوفيين ، وبخلطةٍ لاهوتيةٍ ناسوتيةٍ تكنزُ الانسانَ وتسمو به مراتبَ في القيم.

وإذا اعتبرته الباحثة صوفياً ، ولها ما شاءت ، فإنّي اعتبره من أهل ِ الصفوةِ ، متصفياً ،مصطفياً. أمّا وقد ألبسته طربوش الصوفية فإنّي أسأل :

–   أين تأثيرات ” جان دو لاكرواه“، وقراءات “تريزيا الأفيلية“، ووشمات ” فرنسيس الأسيزي“، وتأملات”أغوسطينوس” اللاهوتية ؟ أين ذلك كلّهُ من المقامات الصوفية الظاهرة في هذا الكتاب؟.

لئن تحدّثَ”ربيعة “عن” الحلّاج” فإنّهُ قد تناوله من بابِ الواقعِ الانفتاحيّ .، لأنّ” الحلّاجَ” قد مات على دينِ المصلوبِ.

ولئن تناولَ ” الغزالي” ، فلأنّهُ تتلمذ على يدِ الرهبانِ .

هذا ” الربيعةُ ” المشرقيّ لا يمكنْ أنْ يكونَ صوفياً لأنّهُ يحمل صداقةَ المسيح ، ومصيرَ المسيحيينَ في الشرقِ المعذّبِ.

إنّ النصَّ الذي أوردهُ في كتابهِ “ألحانَ السكينةِ” ص(71) تحتَ عنوان ” تأمُلات” ، يختصر بالماذيّة التي ملأتِ النصَ هذا الإصطفاءَ الذي أتحدّثُ عنه .                                                                       –  فماذا قالَ البدو لسمعان العمودي المشتعلَ شوقاً فوقَ عمودهِ؟

  –  وماذا قالتِ العزلةُ في كهوفِ الشهداءِ للمغولِ والأكرادِ واليهودِ والعثمانيين في ديارِ بكرٍ وماردينَ والموصلَ  وطورِ عابدينَ….؟

  – ماذا يقولُ النصُّ للتكفريينَ عندما يغرقونَ في ليلهمِ الحزينِ ، ويطاردونَ الأزهارَ والربيعَ والشمسَ حتّى القتل  ؟

  -ماذا يقولُ الشرقُ لأهلهِ وهمْ يرحلونَ؟ ماذا قالتِ المحبّةُ للحاقدينَ باسمِ الدينِ ؟

 – ماذا قالتِ البحارُ والرمالُ للأطفالِ الجائعينَ؟

 – ماذا قالتِ طيورُ نينوى لدموعِ عمانوئيلَ الثالث، وداعاَ يا سنونوات الديمقراطيةِ والقيمِ في هذا الشرقِ ؟

 – ماذا قالتِ أرواحُ الشهداءِ في لبنانَ للأشباحِ والعفاريتِ ، وهي تسافرُ من جبلِ الأرزِ الى بلدِ اللهِ؟.

عفواً سيدتي ، لقدِ اختصرْتُ لأقولَ بأنَّ هذا المتنكِّبَ صليبَ الشرقِ في كتابِهِ لا يستطيعُ أن  يكونَ محصوراً في صوفيةٍ أضحت متهالكةً ، متداولةً عند أهلِ الذكْرِ والطرابيشِ والبخورِ والدورانِ والنهنهةِ وغير ذلكَ .

لقد تصفَّى ” ربيعة” بالمحبّةِ . تصفَّى منْ غبارِ الإنسانِ فكتبَ لنفسهِ لذةً لا تزول.

 صفاءُ الرّوحِ نشيدُ أناشيدِهِ ، وخبزاتُ حياتِهِ ، ومقاماتُ التصفّي لا تدور في فلكِ المتصوفينَ ومقاماتهم. قد أبدلّ مقاماتِه الصوفيةَ بمقاماته المصفّاة ِ  وهي غربلةٌ لمياهِ العمادِ ، وقدْسٌ لميرونِ اللحمِ والدَّمِ ، ورحمةً للحواسِ.

هي سبعٌ تخّصُّ الحواسَ السبْعَ للمتصفِّي : فأبعدُ منَ البصرِ البصيرةُ ، ومنَ اللّمسِ الإدراكُ، ومنَ الشمِّ التَّرفُّعُ، ومنَ السمعِ الانصاتُ ، ومنَ التّذوّقِ الاختيارُ  ومنَ التجمُّلِ السلاميةُ ومنَ الإيمانِ القناعةُ .

إنَّها جراحاتُ المبدعِ الأزليّ حفرها المتصفِّي بتأنٍ أخلاقيّ ليطلقَ مدرسةً في أدب السياسةِ . ألحانُ السكينةِ نذورٌ رهبانيةٌ غيرُ معلنةٍ. أدبُها ينشرُ الطُمَأنينةَ وسيرتَهُ تزرعُ الطُمَأنينةَ ، وفكرُهُ يُنْتجُ الطُمَأنينة َ ، وبينَ الصوفيّ والناسك يقفُ هذا المصطفى الذي يؤمنَ الطمأنينةَ .

لست من جبلِ إيلَ ولا حرمونَ ولا من شكيمَ الى بلوطةِ مورا حيث بنى الرّبُّ مذبَحَهُ لطائرِ السيمَرَغ . وأنتَ لستَ سمعان العموديّ الذي قضى عمره على عمود القداسةِ.إنّما أنتَ بما عليهِ ستقضي عمرَكَ حاملاً عمودَ الشرقِ المسيحيّ . أنتَ ربيعةُ أبي فاضلَ المستصفي.

ربَّما أكونُ فيما حاولْتُ كونَهُ أنْ أُكوِّنَ نظرةً خاصةً عن الشاعرِ ، لكنَّها نظرتي ورأيِ ، ويبقى للكاتبة الطيّبة المجيدة ِ الباحثةِ المغزارِ ناتالي رأيها وقد عرضتْهُ في هذا الكتاب . أمّا رأي الأستاذين فكلّنا شوقٌ الى سماعِهِ والتبصُّرِ به.

******

د. نبيل أيوب

 

أستهلّ بقراءة وصفية لمبحث الدكتورة ناتالي، ثمّ أقدّم قراءتي لهذه القراءة، وقراءة موجزة لأناشيد ربيعة

في القراءة الوصفية للمبحث…

يُستهلّ هذا المبحث بمدخلٍتُقدِّم الباحثة فيه موضوعَه، وتَعتبر أنّ مسيرةَ الشاعر “الحياتية والزهدية والفكرية والأكاديمية تسير على طريق التصوّف سلوكًا ونتاجا”(الكلام لها)، وتعرّفُبالمقاماتِ والأحوالِالصوفية التي يشملُها طريقُ التطهّرِ والمعراج. وإذِ اختلفَ عددُ المقامات عند منظّري الصوفية ما بين سبعةومئة،اختارَتِ الباحثةُ عشرةً منها دمجتها في ثمانيةهي بالتدرّج: “التوبة -الزهد-الشكر-الذكر -التعظيم -السكينة والطمأنينة–المحبة -المكاشفة والمشاهدة -المعرفة -الفناء والبقاء…” وقد جعلت في كلّ مقام عشرةَ أبوابٍ عدّدتها…

وإذ قدّمَت موضوعَها وطرحَت إشكالياتِه،اختارَت منهجَها ، وهو “الموضوعاتية”Thematiqueالتي، على ما تقول،تُشتقُّ من theme، وتتابع: “وترد هذه الكلمةُ بعدّةِ معان مترادفة: كالموضوع، والغرض، والمحور، والفكرة الأساسية، والعنوان، والحافز، والمركز، والنواة الدلالية…” (والكلام لها) ويقابلها الrhemeبمعنى “التعليق”، وتخلص إلى القول: “ليس هناك ما هو أكثر إبهاما من الموضوعاتي” …nabilayoub

أمّا في خطّةِ مبحثها فتخصّص لكلّ مقامٍ فصلا تستهلّه بتقديمِ مفاهيمِه استنادا إلى الصوفية العربيةالقديمة،وبذلك، تكون قد أعدّت قالبا يستوعب مختلف الآراء حول المقام، لتنتقل إلى مكتوبِ ربيعة الشعري تستلُّ منه الشواهدَ التي تلائم كلَّ قالب، وإن تكن من تواريخَ مختلفة، فلا بأسَ عندها إن ورد مقامُالتوبة الأدنى، ، في الديوان الأخير 2009، وإن ورد المقامُ الأعلى أي الفناء والبقاء في دواوينهالأولى، علمًا أنّ معظمَ شواهدِ المبحث استُمِدّت من ديوانَيِ التسعينيات “همسات روح”، و”عودة الحلاج”…  ولترسيخ الفهم،أقامت الباحثةُلباب أو أكثرَ منكلّ مقام ترسيمةً تبيّن فيها المقدّماتِ، والعلامات، والغاية، والثمار… وأنهت المقامَ باستنتاج… وقد أقفلت مبحثَها بخاتمةٍخلصت فيها إلى أنّ الشاعر مرّ بثلاثِ مراحل: الأولى هي مرحلةانتقاله من التشتّت والبحث عن الله، إلى تبنّي جوهر الفكر اللاهوتي المسيحي.والثانية هيمرحلة التأثّر بالحلاج والغزالي والتراث الصوفي العربي والغربي. والثالثة هي مرحلة نضجه الحالي،أي “المرحلة الصوفية الخالصة”. وختمت بلحظها “تنامي التجربة الصوفية في زمان الحداثة وما بعدها”،معتبرةً أنّ تجربةَ أبي فاضل أقربُإلى جبران وفؤاد سليمان وفؤاد رفقة ويوسف الخال وبول شاوول، منها إلى مجايليه من شعراءِ الحداثة والغموضِ”اليايس”الكلام لها)…

في قراءة القراءة البحثية

أوّلا، في العمل البحثي: أكاديميا، هو منهجي من حيث التزامُه بالخطّةِ المعدّة، وبالتدرّج والتماسك والترابط، وشديدُ الفائدة في الكثير من جوانبه… غير أنّ قراءتَه تطرح تساؤلاتٍ مربكةً لايمكنُ لقراءة نقدية التغافلُ عنها…

أ‌-        في العنوان: “المقاماتُ الصوفية في شعرِ أبي فاضل”، عنوان فضفاض،يصحّ للكلام على متصوّف منقطع عن العالم ومتطلّباتِه الدنيوية، إلى الزهد والورع والصلاة والصبر والتوكل والسكينة والصمت والاستغراق في التأمّل، والتسبيح والتعظيم وصولا إلى الحلول والشهود والفناء في الواحد المطلق الكوني، وربيعة ليس متصوّفا في سلوكه… فضلا عن ذلك، الصوفي إسراريّ، نادرًا نادرا ما ينزاحُ الحجاب من أمام بصيرته، ونادرا نادرا ما يتمكّنُ من لمحِ السرّ خطفًا في اللوح المحفوظ، وهو إن لمح وانخطف لا يقول…وماأعرفه أنّ صديقَنا قد أعلن هو نفسُه في أحدِ أناشيده أنّه وجدَ طريقه في الشعر وليس في التعليم والكتابات الأخرى، فأفصحَ في أناشيدِهومناجياته، ولم يمارسْ ترقّيه عمليّا ليصعدَ درجاتِ الصوفية الإيمانيةحتّى الشهود والدهش والانخطاف والفناء.. ولكانالكلامُعلىتأثيرات التصوّف ومذاهب الحلول في أناشيد ربيعة،أجدى وأنفع…

ب‌-     في المنهج الموضوعاتي:إنّ تسريبَ آراء وأحكامٍ خاصّة، في مجالِ مفهوم المنهج، يسيءُ إلى الأجيال المنخرطة في العمل البحثي. فليس الموضوع مترادفا مع الغرض ولا مع الحافز ولا مع غيرهما مما أوردته الباحثة… أوّلا، كلُّكلامٍ على موضوعيحمل قصدية ما، والقصدية هي الغرض من الكلام على موضوع ما وليست هي مترادفَهُ، وثانيا، الRhemeلا معنى له وحدَه، وهو العنصرُ الأوّل من ثلاثية المؤوّل عند بيرس، والذي لا يصبح علامةًذاتَ دلالةٍإلا باكتماله بعنصرٍ من ثلاثيةِ الموجودة وعنصرٍ من ثلاثية الممثّل. وكذلك، ليس الموضوع Themeمترادفا مع Motifالذي توهّم مترجموه أنّه الحافز، إنما هو في الموضوعاتية عنصرُ تشكّلٍ حسّي من ضمن مجموعة تؤدّي إلى صدور الموضوعالذي نبلغه من “موتيفات”، أي عناصر تشكّل حسية… لينمو نموّا خطّيا، أو شبكيا، أو متشظيا إشعاعيا… كاشفًا عن تجسّداتِ الأنا الحلمي المبدَعِ عند الشاعر، ولا يرتبط مطلقا بأناه المعيوش، وهذا ما فعله باشلار وجان بيار ريشار في قراءاتِهما الموضوعاتية التي تتطلّب معرفة معمّقة بالظاهراتية والوجودية وعلم النفس… أما ما أنجز في هذا المبحث فهو منحى مارسَه عبد الكريم حسن في أطروحته عن “الحب والموت” عند السياب، سمّاه الموضوعاتية المعجمية، ولا علاقةَ له مطلقا بالموضوعاتية الأدبية، والواقع، إنّما يحتاج إليه شعرُ ربيعةهو قراءةُ أناه الحلمي المكتوب وتحوّلاتِه ونموّه…

ج- في المرتكزات والمعايير: تمثّلتِ المرتكزات بأسسٍ استُدعِيَت من زمن التصوّف العربي القديم وحده، لتستمدَّ الباحثةُ الشواهدَ الشعريةَ الملائمة للمقام من شعر أبي فاضل، وقد ذكّرني ذلك بسرير “بروكريست”قاطع الطرق الأسطوري، حيث كان يخطف الآخر، ويضعهفوق سرير هو رمزُ القالب الجاهز، فإن كان أقصرَ من السرير مطّهليناسب السرير، وإن كان أطولَضغطه… فماذا فعلنا بأناشيد ربيعة ومناجياته؟ لقد تحوّلت في هذه القراءة المعجمية إلى جثّة…

د-في تصنيف شعرية أبي فاضل: لم أفهمِ الدافعَ الذي دعا الباحثةَ في ختامِ مبحثها إلى وضع تجربة ربيعة إلى جانب تجارب فؤاد سليمان ويوسف الخال وبول شاوول، في الإشارة إلى النزعة الصوفية الحداثوية.كما لم أفهم الحكم العنفي ضدشعراء ما بعد الحداثة لوسم شعرهمبالغموض “اليابس”… فلا فؤاد سليمان شاعر، ولا الخال ولا شاوول من شعراء التصوّف، ولا الإفصاح الواضح مزيّة شعرية.أمّا شعر ما بعد الحداثة فهوالكثيف المتعدّد المتسائل الشكّاك الخارج على كلّ السلطويات والمركزيات…

في قراءة أناشيد أبي فاضل

قال هولدرلن: “بطريقة شعرية يسكن الإنسان الأرض”. وهكذا يسكنُ ربيعة عالمه الأرضيَّ غيرَ المحتمل ببشاعاته وعهره وشروره، إنّه سكن شعريّ بامتيازوليس صوفيا. وكذلك، نصح هيدجر عندما قرأ أناشيد هولدرلن، بعدم الاقتراب منهابالفكر البارد، وتاليا، ما على القارئ سوى خلع ِكلّ اهتماماته وانشغالاته ليؤذنَ له بالدخولِ إلى منطقة نفوذها، وتحتفظَ بتوهّجها وحرارتها، فتحملَ منها الذات؛ ذلك أنّ الحقيقةَ تقومما بين الكائن والكينونة،في موضع الاختلاف، وهي لا تكاد تشعّ حتّى تعتم، ولا تكاد تنكشف حتّى تحتجب، فتبقي المتأمّل في حيرة ما بين مراوحته الثقيلة السفلية ومحاورته الكيانية العليا. ومن ذلك، قول الصوفيين بضيق العبارة أمام الإشارة، فلم يفصحوا إنما ألمحوا وأشاروا بدهشورمز بعيد محيّر كثيرِالدلالات، أمّا ربيعة فأنشد وألمح، ومكتوبُه للإصغاءِ والحملِ وليس للفهمِ الذي يجعل الشعريَّ يفرّ إلى ليومي المألوف، وبالإصغاء تنفتح الأناشيد كسرّ. وما السرّ فيها سوى الحنان الكينوني، ما يعني أنّ جوهرَما هو شعرٌ لا يكاد يكشفُ السرَّ إلا بالإصغاء والتأمّل والسكينة…

ثمّ إنّ لربيعة آباءَه الطيفيين الكثرَ الذين ينتظمون في خطّ تطوّريّ رؤيوي متكامل، يتدرّجون من المسيح، إلى آباء مذاهب الحلول ووحدة الوجود والتصوف العربي والمسيحي، بدءا من الفيتاغورية والأورفية والأفلاطونية، مرورا بالأفلوطينية، انتهاء بكلّ الأبرار والأرواح الخيّرة، وقد أوقعوه في شبكة عنكبوتِ التصوّفِ المرتبطِ بما هو خفيٌّ وغيبيّ، فعلِقَ حتى رفضَ هذا العالم وهو في قلبِه. والاتّجاهُ إلى التصوّف ناتجٌ من عجزِ العقل والعلم والشريعة عن تقديمِ أجوبةٍ مرضيةٍ عن أسئلةِ سرّ الإنسان والله والكون، وعن ذلك الذي لم يحلَّ ولم يعرفْ.كما أنّ هدفَ الصوفي هو التماهي مع المطلقِ غيرِ المنكشف. والسفرُ إليه سفرٌ إلى داخلنا، وتوغّلٌ أكثرَ فأكثر فينا، من هنا نشدانُ المعرفةِ القلبية والرؤية بالعين الروحية… ووعيُ ربيعة الشقيُّ أدرك َكلّ ذلك، فضاق عليه جسده، وكره شرّ عالمه، ووعى غربته ومنفاه، وتضخّم وجده وهيامه وولهه إلى أصله الكوني المطلق، وعلقَ بين مكانين: جنّة مسيحه وجنّة الصوفية الحلولية. وليخرج ممّا علقت به روحه اصطفى من آبائه ما لاءم معتقده الإيماني، فكان مكتوبه هو الداء والدواء، أو هو الفارماكون الأفلاطوني: السمّ والبلسم، فلا يستريح ويطمئنّ إلا إذا أفرغ شحنات هجرانه واشتياقاته العليا،وعبّر عن مأموله الذي يسدّ نقصانه، في مكتوبه.ومع ذلك، قلت له في حوار عابر: لن ترتاح، لن يريحك حتّى الشعر…

في القراءة عن طريق البناء

إذًأ، يصدر ربيعة شعره من نغم الروح التي وعت مبكرا مأزقيتها وضيقها في سجنها الجسدي، وتاقت إلى الاندماج بمصدرها. ويبني أناشيده بناء يوافق رؤيته، موظّفا الإيقاعات،حاشدا المتوازنات والمتوازيات، مطلقا من بؤرٍ أمواجا مؤتلفةمع التدرّج الصاعدِ من الكثيفِ في سفليته إلى الشفيف في علويته وبهائه وروحيته، دافعا المتناقضات إلى الانحلاليتوسّطُها بَرزخُها أو وسيطُ تحوّلها،  لاحظا تعاضدَهافي التصفيةِ والترقية،ولاجئا إلى الرموز لعلّها تُلمحُ إلى ما لايمكنُ أن تحملَه العبارة؛ على أنّ سفرَه والكائناتِ  كلَّها يصبّ في المطلق الكوني الكلي. وهنا، لابدّ من القول بأنّ ما سمّي شعراصوفيا عنده إنّما هو لغة شعرية بامتياز، إنّها لغة حبّ وقلب، كلّ شيء فيها رمز: الزهرة والماء والسحابة والفراشة والسماء والأرض صور من تجليات المطلق، هي هي وشيء آخر، وبذلك يتناقض القول الشعري ذو النزعة الصوفية مع القول الديني. وفي أناشيد ربيعة ترجّح بين الاثنين معًا، وذلك، لأنّ منزعه الصوفي إيماني، إنّه شاعر رومنسيّ حالم؛ في أناشيده ومناجياتِه تناصٌّ معجميّ محاكٍللصوفية حينا، وللمسيحيةمعظمَ الأحيان. وفي كلّ الحالات  أناشيده شديدة التوقيع، فيها بصمتُه وإمضاؤه الخاص.علما أنّ القارئ قد يجد كلّ بدايات المقاماتِ والأحوال في نشيد واحد من أناشيده. ومثاله “نداء السكينة” و”الدنيا معك آخرة” ، و”قلب القلب”…

ومثال المتوازيات المتضافرة:

هذه توبتي على قدميك، دموعها تغسل التراب، ولا ترفع إلى الفضاء عينها لأنّها تنتظر رحمتك

هذا صمتي… هذه تأملاتي… هذا كياني… هذا عشقي… (ستّة أضلاع من التوازي تتحرّق لبلوغ المطلق…)

يليها خمسة أضلاع من توازيات تسير فيها كائنات الطبيعة في طريقه عينه:

هذه الزهرة الطالعة من ظلمة المكان، تهتف متلهّفة، تنحني حالمة، تصلي وتبكي، دموعها تروي التراب

هذه السحابة الطالعة من الوادي… هذه الفراشة… هذا النسيم… هذه الشجرة…

ومثال التدرّج الصاعد المنطلق من تعبير مولّد، والمتعاضدمع المتوازنات:

“أنت البهاء:في البحار يذكر/ وفي الصحارى يكون/ وفي غابات الأرض يظهر

ومثال انحلال المتناقضات، وبرزخها أو وسيط تحوّلها، وتعاضدها في التصفيةوالترقية:

في النار ذابت القلوب/ في النور قامت القلوب/ سبحان روح كلما في الحبّ غابتْ زهّرتْ…

ومثالالبؤرة التي تطلق أمواجا متوازية ومتدافعة بتدرّج صاعد متبادل بين العاشق والمحبوب:

أ‌-        أعطني من قلبك قلبا، ومن حلمك حلما، فقد تعب قلبي وتاه حِلمي

لك العبارة والإشارة والهمس والبيان والصمت والكيان والابتهال قبل إطلالة كلّ فجر يخبر عنك

ب‌-    أعطني عافية الرؤية/ يقظة الهمّة/ حياة الاشتعال/ انكشاف النفس/ حقيقة التوحيد والمشاهدة

لك المغامرة والطيران والإبحار والتحليق والغوص والتأمّل والغناء، كلما طلعت شمس رحمتك يا سيّد البهاء

ج- أعطني أن أتألم معك/ أن تجذبني القيامة/ أن يعشقني الملكوت/ أن تغسلني النقاوة/ أن ترفعني الوداعة إلى سرّ عذوبتك

لك الترك والزهد والانفراد/ لك الشوق والعشق والاستوحاد/ لك الصلاة والصوم والجهاد/ قبل كلّ غروب يحمل إليّ شروقك…

علّمني أن أقطف زهرا من ألمي/ أن أحصد سحرا من ندمي/ أن أمزج أوجاعي بالميرون والنغم…

علّمني أنّ ربيع سروري من سقمي/ أنّ حياة الصبر تقيم شموسا في الظُّلَمِ/ أني طفلٌ عاد إلى الرَّحِمِ

وأخلص من ذلك آخذابدعوة هيدجر للإصغاء إلىأناشيد الروح ومناجياتها،والدخولِ إلى منطقة نفوذها والحملِ منها، لينتقلَ إلينا دازينُها الشعري بمعنى جوهرِها، وليس مقاربتها بعقل بارد يحوّلها إلى جثة.

كلام الصور

 1- المشاركون في الندوة

2- د. يوسف عيد

3- د. نبيل أيوب

اترك رد