بقلم: الصحافي يوســـف دياب
إنه لشرف عظيم لي أن أقف في هذا المكان .. وفي حضرة كبار من لبنان.. تميزوا بالفكر والعلم والمعرفة، وأن أتحدث عن علمٍ من أعلام لبنان عنيت به الدكتور عبد الرؤوف سنو، الذي شرفني مع القيمين على هذا المركز الكريم، بالدعوة الى المشاركة في هذه المناسبة المحببة الى قلبي .. بقدر محبتي لصاحبها. وأن أشارك في مناقشة كتاب يصلح برأيي أن يكون هو كتاب التاريخ الحديث للبنان الذي يتصارع الساسة والمسؤولون ليس على مراحله وحقباته ومحطاته، إنما حتى على مفرداته.
صدقاً لا أعرف من أين أبدأ، لكني وأنا أقلّب صفحات هذا الكتاب وأتمعن في سطوره، رادوني سؤال أجده جوهرياً أقلّه وفق منطقي وفهمي للأمور. إذا كان في لبنان رجالات على هذا القدر من العقل والفهم وتشخيص داء هذا الوطن، لماذا هم الآن بعيدون عن السلطة، لا بل مبعدون عن موقع القرار؟. هل لأن أمثالهم قادرين على فضح عيوب من يحكمنا إما بإرادتنا التي أوصلتهم الى موقع الحكم، أم بإرداة وصاية من هنا وإحتلال من هناك، كان ينصّب لنا حكامنا وفق قاعدة”لا تفكّر .. نحن بنفكّر عنك؟”.
قد أكون متطفلاً وربما متطاولاً، إذا قلت أنني اليوم أقف هذا الموقف لأناقش معكم كتاب “لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف” من باب النقد أو التصحيح أو التصويب، الا أني أطلب أن تعذروني، إذا قلت لكم إنني في أيام قليلة من قراءتي السريعة لهذا الكتاب، إستشرفت حقبات من عقود عايشت بعضها وقرأت بعضها الآخر، وسمعت ببعض وفير منها من قصص وروايات الآباء والأجداد، لكن في كلّ منها كان يعتصرني ألم فقدان الحلم الضائع.. حلم الوطن الذي عمل من أجله زعماء من وطني .. ضحوّا بأرواحهم من أجله.. لكن حلمهم بقي حلماً، ووطنهم لم يرق الى مشروع وطن، إنما كان ولا يزال صندوق بريد للرسائل الإقليمية والدولية .. تارة بطبعة سياسية.. وتارة أخرى بصبغة دموية.. لأنه الضحية الدائمة للعبة الأمم، والساحة المفتوحة أبداً لحروب الآخرين على أرضه كما قال المرحوم غسان تويني ذات يوم.
لقد أنعش هذا الكتاب ذاكرتي وأعادني الى سنوات خلت ظننت أن مآسيها إندثرت.. لا سيما في الحقبة السوداء من تاريخ لبنان..بدءاًالعام 1983 الذي تلا الإجتياح الإسرائيلي للبنان، حيث بدأت أشعر بالملموس تطاحن مصالح الدول الكبرى على أشلاء وطني، وصولاً الى العام 1989 الذي ظننا في نهايته نهاية للمأساة مع التوصل الى وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، التي أضحت دستور لبنان.. فكان المؤلف موفقاً في تسليط الضوء بشكل كبير على الرعاية السورية للأزمة اللبنانية، وسهرها الدائم على توسيع الشرخ بين أبناء البلد الواحد، ليس بين مسلميه ومسيحييه فحسب.. إنما بين أبناء الطائفة الواحدة .. المذهب الواحد، وحتى في مراحل كثيرة بين العائلة الواحدة على قاعدة فرّق تسد.
لا خلاف على أن قراءة الماضي والإعتبار من تجاربه، هي افضل الهدي لإستشراف المستقبل، ولعلّ إحاطة هذا الكتاب بمرحلة ربما كانت غائبة بتفاصيلها عن كثير من اللبنانيين، حيث أمسك النظام السوري بالملف الأمني ليس فقط من باب رعاية الإقتتال بين المليشيات المتحاربة.. وتوسيع رقعة التوتر بينها.. إنما وقوفها وراء الإغتيالات التي طالت القادة اللبنانيين … من قادة سياسيين وروحيين ومن أصحاب الفكر والرأي،فضلاً عن إمساك نظام الوصاية بملف الرهائن الأجانب، الذي سمح له بالتكافل والتضامن مع النظام الإيراني بإبتزاز الغرب .. وفرض نفسه كلاعب اساسي في المنطقة..وربما فرض بالقوة مسألة تفويضه الإمساك بالملف اللبناني.
طبعاً كلنا نتفق مع الدكتور سنّو على أن تراكمات الأخطاء السورية في لبنان… وتمادي آل الأسد في السيطرة على القرار السياسي .. ومصادرة الإرادة الشعبية اللبنانية، حتى وصل به الأمر الى إغتيال القادة السياسيين والتجرؤ على إغتيال شخصية بحجم رفيق الحريري.. أدى الى خروج الجيش السوري من لبنان. وكلنا يتفق معه أيضاً على أن ثمة قراراً عربياً ودولياً ساعد ثورة الأرز على إخراج السوري من لبنان بعد ثلاثة عقود من الإحتلال والهيمنة على كل شيء… الا أنني أسمح لنفسي أن أضيف وبحكم معايشتي القريبة ومواكبتي لهذا التحوّل المصيري في تاريخ لبنان… بأن القرار الخارجي لم يكن يوماً بهذا التأثير والحسم، لو لم يصل الى قناعة بأن الشعب البناني هو من يفرض هذه المرة خياراته وليس الحكام.
من هنا ليس من باب المغالاة القول إن ثورة الأرز كانت هي الشعلة التي أطلقت شرارة الربيع العربي.. وأوقدت جذوة الثورة في قلوب الشباب العربي.. بغض النظر عن المرحلة التي حاولت إجهاض ما حققته ثورة 14 آذار أم لا. وليس أدل على ذلك من مشاهدتنا للقرار الدولي كيف تبدل عندما إشتعلت ثورة شعبية حقيقية في تونس وفي مصر وليبيا واليمن … وفرضت على دول القرار الإستجابة لخيارات الشعوب … وكيف أرغمت حكامها بدءاً من زين العابدين بن علي الى حسني مبارك وعلي عبدالله صالح الذين رسّخوا دعائم حكمهم بالقرار الأميركي، أن يتنحوا ويستجيبوا لنداءات الشعوب.
طبعاً بخلاف ما يحصل اليوم في سوريا، حيث لا يزال العالم يتفرّج على ذبح الشعب السوري يومياً .. تارة بالمجازر الوحشية، وتارة أخرى بالسلاح الكيميائي.. وطوراً بالبراميل المتفجرة والصواريخ البالستية والطائرات الحربية… لا شكّ بأن الغرب وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية يدركون بأن الشعب السوري إتخذ قراراً لا رجعة فيه باالتخلص من حكم الديكتاتور… الا أن التردد رهن بالقرار الإسرائيلي الذي حتى الآن لم يرفع الغطاء عن الأسد حامل لواء الممانعة… لأن هذا النظام وحده القادر على إبقاء جبهة الجولان هادئة لأكثر من أربعة عقود، ولأن الدولة العبرية تخشى نظاماً يخلف الأسد ويفرض تغييراً في قواعد اللعبة في الجولان المحتل.
أما تجربتنا الداخلية فهي تجربة من لا يقرأ التاريخ ليكون منطلقاً لبناء المستقبل. لقد إستفادت أوروبا من تجارب حروبها، وتعلمت من أخطائها لتؤسس مستقبلاً واعداً لشعوبها، فإتخذت من مآسي تلك الحروب عبرة لتتجنّب تكرارها والإنزلاق الى أتونها من جديد.. فإختارت البناء عوضاً عن الإقتتال… والتطور بدلاً من التزمّت… والإنفتاح مكان الإنغلاق والتقوقع… لقد أسست لدول ديمقراطية وحديثة، وهيأت مجتمعاتها على الإنفتاح…وبنت إقتصاداً هائلاً مرتكزاً على العلم والمعرفة والإختراع والصناعة… وصوبت الإهتمام الى مصالحها ومصالح شعوبها المشتركة… فكانت ثمرة تلك النجاحات الإتحاد الأوروبي، الذي بات قوة سياسية وإقتصادية وعسكرية هائلة لها كلمتها المؤثرة في المجتمع الدولي، وغيرت في القرار الدولي الذي بقي في القعدين الماضيين حكراً على الأحادية القطبية… خصوصاً بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، ومرحلة ما بعد الحرب الباردة.
أما نحن في لبنان، فلم نتّعظ من حروبنا ومآسيها وويلاتها… لم نتعلّم تجاوز الإنقسامات فإتخذنا من إتفاق الطائف الذي أوقف المدفع، مجرّد هدنة أو إستراحة محارب… لنؤسس الى حروب جديدة أكثر حقداً وبغضاً، اين منها ما كان يعرف بالشرقية والغربية، حرب تُرفع اليوم متاريسها النفسية بشكل مخيف…وتشحن فيها الناس مذهبياً بشكل غير مسبوق.. فلم تقتصر هذه المتاريس على المناطق إنما إنتشرت في الأحياء والأزقة وحتى بين البيوت.. إن أمراء الحرب الأهليةيستنسخون الماضي الأليم بصورة أكثر بشاعة وأشدّ سواداً. كنا نعتقد أن دماء رفيق الحريري التي وحدتهم يوماً ما وجمعتهم على طاولة حوار واحدة…بدأت تؤسس لبناء وطن يحلم به شباب لبنان… فإذا بخلافات زعماء المصالح وأدعياء النضال المزيف، تمعن في هدم ما صوّر لنا على أنه مشروع دولة… أو صحوة قد تؤسس لإزالة الفوارق وبناء جسور التواصل … والتسليم بأن لبنان لا يبنى الّا بسواعد كلّ بنيه… وعودتهم جميعاً الى كنفه، بدل التبعية والإستتباع والإستلحاق بالمحاور الخارجية.
لقد تعمّق الدكتور سنّو في معالجة هذه الأخطاء والخطايا التي إرتكبها اللبنانيون بحق أنفسهم أولاً … وبحق وطنهم ثانياً… وأصاب في تأكيده أن الخارج أي خارج سواء كان شقيقاً أو صديقاً أو عدواً… لا يقدّم خدماته لهذا الفريق أو ذاك أو لهذه الطائفة أو تلك مجاناً…مطلبه مقابل ذلك أنيجعل من لبنان ساحة لتصفية حساباته، سواء كانت إقليمية أم دولية… لبنان لم يعد في هذه المرحلة التي نعيش مجرد ساحة.. لقد تحوّل ويا للأسف الى محرقة وقودها أبناؤه، وأكثرهم على وجه التحديد من لا ناقة لهم ولا جمل في صراعات المحاور والأحلاف… وبهذا لم يرتكب حكام لبنان خطأهم الفادح كما يقول الدكتور سنو فحسب، إنما يرتكبون خطيئة تاريخية افقدت شعبهم حلم الوطن الذي أرادوه على قدر طموحاتهم وآمالهم… وطن لا فضل فيه لطائفة على أخرى أو لفئة دون سواها … ولا لمواطن على آخر، الا بقدر ما يعطي هذا الوطن، لا بقدر ما يسلب وينهب ويكدس ثرواته ويوسّع محمياته الطائفية والفئوية البغيضة.
إن فكرة التعايش بين اللبنانيين لم تكن ولن تكون خياراً… إنما هي قدر لا مفرّ منه … ولو كانت مجرّد خيار يرتضيه من يشاء ويلفظه من يشاء… سنبقى في دوامة الصراعات، وداخل حلبة الإستنزاف… وستبقى فكرة الغالب والمغلوب سمة الطوائف حتى الكبرى على أقليتها… ولبقينا في حروب مفتوحة لا مستقبل فيها لأحد مهما كبرت سطوته أو قوي سلطانه، أو زادت ترسانته، ومهما هدد وتوعّد… وما المشاهد الدموية التي نعيشها اليوم بالتفجيرات المتنقلة، والقلق الذي يطارد الناس في الشوارع والإحياء الا نتيجة حتمية لخيارات مدمرة إتخذها البعض… وظنّ نفسه أنه أكبر من الدولة وأقوى منها.. وبإمكانه أن يخوض حروبه في الداخل والخارج وأن يساهم في إشعال الحريق في بيت جاره من دون أن يتوقعإمتداده الى داره ويلتهم بيته وأطفاله أيضاً.
نعم أيها السادة.. ما أشبه اليوم بالأمس.. ها هو التاريخ يعيد نفسه.
صحيح أن مشكلة لبنان بدأت منذ منتصف القرن الماضي مع السلاح الفلسطيني الذي لم يكن فقط سلاحاً مخلاً بالتوازنات الدقيقة.. أو لأنه سلاح مرتبط بالقرار الإقليمي أو لأنه كان يرى أن طريق القدس تمرّ في جونيه أيضاً… بل لأنه علاوة على كل تلك الموبقات… كان يحلّ مكان الدولة اللبنانية ويغتصب سيادتها ويهيمن على قرارها… ولأنه كان يقهر جزءاً كبيراً من اللبنانيين الذي رفضوا إستقواءذاك السلاح عليهم… بحجة القضية الفلسطينية التي كانت يومها وما تزال اليوم ذريعة دول وتنظيمات تمارس التخوين والقتل والإرهاب بإسم هذه القضية.
وها هي المشكلة تتجدد اليوم مع سلاح “حزب الله” الذي مهما حاول القيمون عليه تقديس دوره … وتصويب وجهته … وتبرير أدائه… ومهما قدموا من ذرائع لتشريع إستمراره وديمومته الى أن يرث الله الأرض ومن عليها كما يشتهون… فإنه سيبقى سلاحاً فئوياً ليس مخلاً بالتوازنات أيضاً، إنما مهيمناًعلى الدولة… سالباً لقرارها السياسي… مستقوياً على سلطاتها الأمنية والعسكرية… ومصادراً للإرادة الشعبية التي تفرزها صناديق الإقتراع… هذا السلاح الذي تجاوز خطايا السلاح الفلسطيني الى حدود كثيرة، يشقّ في هذه المرحلة طريقه الى القدس أيضاً… عبر إجتياح بيروت في السابع من أيار 2008 … يتمدد الى الجبل وطرابلس وعرسال … ويغزو سوريا فيحتلّ القصير ويدمرها … ويسفك الدماء في دمشق والغوطة… ويزهق الأرواح في حمص وحماة وحلب… ويتحضّر لمذابح جديدة في القلمون وعلى إمتداد الأراضي السورية .. كلّ ذلك تحت شعار “الواجب الجهادي المقدس”… ومن دون الإلتفات الى إرادة الجيش والشعب اللذين حملهما وزر شراكته لهما في البيانات الوزارية.. بينما هم من يحصد نتائج خياراته الكارثية.
إذا كان السلاح الفلسطيني سبباً في سقوط أكثر من مئتي ألف قتيل في لبنان… وعشرات آلاف المعوقين والمفقودين … وأضعافٍ مضاعفة من المهجرين داخل الوطن وخارجه… فهل نحتاج الى مئات آلاف الضحايا أيضاً يريد “حزب الله” أن يقدمهم قرابين على مذبح المصالح الإقليمية… وفي بيزار صفقات البرنامج النووي الإيراني… ليقتنع بعدها هذا الحزب أنه دخل وأدخل لبنان وجمهوره وبيئته في حريق كبير… شهدنا وجهاً من وجوهه في حرب تموز 2006 المدمرة… ونشهد اليوم الوجه الآخر منه عبر التفجيرات الإرهابية وإستيراد ظاهرة الإنتحاريين، ولا نعرف غداً ماذا يتربص بوطننا… نتيجة هذه المغامرات التي لا يحصد اللبنانيون نتائجها الا شلالات من الدماء والدموع.
أيها السادة
إسمحولي في الختام وليسمح لي الدكتور سنّو أن أستعير العبارة التي ختم فيها هذا الكتاب الموسوعة… لأقول معه وبقين صادق أنه “لن يرسّخ أي حلّ للأزمة في لبنان، ولن يتحقق أي إستقرار سياسي أو أمني.. ولن ينعم هذا البلد بأي سلم أهلي أو إستقلال حقيقي أو إزدهار إقتصادي.. ما لم يحدد اللبنانيون خيارهم الوطني …وما لم يجدوا بأنفسهم حلولاً لمشاكلهم… ويتجهوا الى بناء دولة مدنية ديمقراطية… وقبل كل هذا وذاك ما لم يتصالحوا مع وطنهم.
******
محاضرة ألقيت في الندوة حول كتاب عبد الرؤوف سنو: “لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف إشكاليات التعايش والسيادة وأدوار الخارج” ضمن المهرجان اللبناني للكتاب الذي تنظمه الحركة الثقافية- أتطلياس. وشارك فيها: الدكتور الياس قطار، د. دعد أبو ملهب، الصحافي يوسف دياب.
كلام الصور
المشاركون في الندوة