الحداثة والسلاح الأشد فتكاً

 

 سعيد غريّب

 

 

في بدايات القرن الماضي، قرّرت شركة «تابلاين» للبترول تعيين محام لها، عبر إقامة مباراة. وحدّدت يوماً كاملاً للمقابلات السريعة، بالنظر إلى العدد الكبير من المتقدمين إلى هذا المنصب. دخل أوّل المتبارين، فسأله مدير الشركة الأميركي «كيفك بجدول الضرب؟» أجابه «أعرفه عن ظهر قلب». «عظيم، كم لنا من مضروب ستة بخمسة؟» أجابه» ثلاثون». قال له المدير «شكراً».

خرج المحامي المتباري مشدوهاً ازاء نوعية السؤال، ولم يصدّق ما جرى. دخل المتباري الثاني. السؤال: «كم لنا من مضروب سبعة بسبعة؟» أجابه: «تسعة وأربعون». «شكراً». وهكذا دواليك، توالى الداخلون إلى جدول الضرب والخارجون منه، والعجب من علاقة هذه العملية الحسابية الآلية بدور المحامي في الشركة، إلى ان وصل الدور إلى المحامي حبيب ابو شهلا. «كم لنا من مضروب ثمانية بستة؟» أجابه ابو شهلا: «الجواب في ما تقتضيه مصلحة الشركة. فاذا كانت مصلحة الشركة أن يبقى المضروب ثمانية وأربعين يبقى. واذا المصلحة تتطّلب أنقص ننقصها، واذا المنفعة بزيادتها نزيدها». نظر المدير إلى أبو شهلا باعجاب وقال: «أنت منذ هذه اللحظة محامي التابلاين!»

هذه الرواية المتناقلة تتقاسم بطولتها شخصيتان: الأولى لمدير حريص على مؤسسته، والثانية لمحام بارع لبّاه بالحرص نفسه، بعيداً من قيود الحسابات التقليدية. إنّه منطق الشركات الذي يغزو العالم اليوم، ليقيس الدنيا بحسابات الربح والخسارة. لكنّه أيضاً اشارة لمن يريد أن يتولّى أي مسؤولية في التفكير بعيداً من الأساليب التقليدية، أو ما يسمى بلغة الحداثة thinking outside the box.

وعلى الرغم من اننا نستذكر بهذه الرواية رجالات كانوا يعملون وفقاً لما تقتضيه مصلحة الوطن، كما فعل ذاك المحامي الحريص على مصلحة المجموعة التي يمثّلها، ووفقاً لما تتطلّبه مهمته كمحام مخلص، ونطمح إلى استعادة قامات تغلّب المصلحة العامة بأي ثمن، إلّا أننا في المقابل نندفع إلى التفكير عميقاً بأسئلة كثيرة: هل انّ مفعول هذه الحداثة في التفكير يسري أيضاً على منطق الأوطان؟ وهل فيها ما يتعارض مع قيم الأوطان والمؤسسات والعائلات التي طالما آمنّا بها، نحن جيل الورقة والقلم المتمسك بتقاليد الآباء والأجداد؟ قد يكون الجواب في سؤال حول ما اذا كنا يجب أن نطلب ممن هزئوا بنا لعقود طوال بالاساليب التقليدية، أن ينقلونا بالشروط نفسها إلى منطق الحداثة من أجل مصلحة الوطن؟

لم يعد صعباً علينا، نحن الشعب اللبناني أن نصف بلاءنا ممّن أمسكوا مقدّرات حياتنا بعدما تمكنوا أن يجرّوا وراءهم شعباً بكامله تارة إلى هذه الجهة، وتارة أخرى إلى تلك، فيما هو ينصاع. وفي ظل الأزمات والتقاتل والتنافس العنيف الذي تحكمه الغرائز والمخاوف، منذ أكثر من نصف قرن، برع هؤلاء في تحصيل زعامتهم وتحصينها!

ما شروط الزعامة في بلادكم؟ سألني مرة صديق فرنسي. فأجبته باختصار مرّ: يلزمك خمسة آلاف قتيل لتصبح زعيماً مكرّسا مدى الحياة! وها هو شعبنا الأسير، يغرقونه حتى اليوم بالكذب المفضوح والوعود الواهية والخطابات الفارغة، وهو السلاح الأمضى والأشد فتكاً.

إن مصلحة حكام هذا الزمن، ومن بينهم علمانيون ورجال دين من صف أول، أن يكون لهم وجهان وموقفان وخطابان. يبرزون لزوارهم أحد الوجهين والموقفين والخطابين. أمام المنابر شيء، وفي الصالونات شيء آخر. في الخطابات العامة والعظات نقد لاذع، وفي التجمعات الخاصة حب واعجاب وكلام من ذهب. لقد أسهموا في زوال القيم وأشبعوا الزمن ضياعاً، فلم يعد متوافراً البحث عن أي شيء جميل سوى باستعادة الزمن الجميل بالأسود والأبيض، لأن الألوان أصبحت فاقعة. وحيال اغتيال مستقبل الشباب، يسارعون فقط إلى تقديم واجب العزاء مرفقاً بانحناءات مسرحية.

فهل يجدي أن نطالب هؤلاء بالحداثة؟ أم ترانا نكتفي عبثاً بالمطالبة بحماية الأبرياء والأطفال مثل الكسندرا ونايا ولين؟ فهل من يضع حداً للوجع؟ إنّ قمة الوجع حين تعجز الكلمات عن رفع الظلم، وأقسى درجات الظلم حين يهبط قاتلاً على الأطفال الأبرياء ويدمي الأطفال وأهلهم والانسانية جمعاء. متى يتوقف هذا العنف القاتل بغباء واستهتار وقلة ضمير؟ هل يجدي بعد أن نطلب من المسؤولين وضع حد لفتك السلاح المتفلت بحق الناس؟ أم أنهم اصبحوا مجرد شهود زور على العنف والجريمة والقتل العشوائي؟

***

*نداء الوطن 30-8-2023

اترك رد