ضحى عبدالرؤوف المل
يُرسخ الفنان التشكيلي “تحسين الزيدي” الحركة في المجتمعات التي يرصدها، وفق اجتهادات وتأويلات تتناسق معها المزاجية البصرية، والصياغات التأليفية تشكيلياً المتفاوتة في المعاني الحياتية التي تميل الى التصدع في المناخات الإنسانية المقاومة لوجود البقاء بصمت ضبابي، وكأنه يخلق معادلة تمثل التصدع المُتعثر بنتوءات المواضيع الشعبية، والطفولة في الشوارع التي تُشكل عشوائيات للكثير من الأطفال الذين يلعبون بفطرة.
هي رمزيات متعددة ما بين الفرح والبؤس، وبين الجمال والقبح، وبين الإكتمال والتشرذم ضمن الفترات المعيشية التي تؤثر على ريشة الفنان” تحسين الزيدي” بعيداً عن الغربة التي تتجدد رغم الإزدحام المُحاكي للفقدان لفطرة الحياة التي تتكون منها المجتمعات، وفي طليعتها المحاكاة التي تتخطى من خلالها قدرات اللون على اختراق الحواس بجمالية هي نسيج فني تشكيلي مشدود للإنسان في مجتمعاته الإنعزالية، ليعكس ما تترنم به القريحة الفنية بمعنى خلق العالم الخاص في لوحات تعيد اثيريا الدهشة المفقودة أثناء خصوبة الحياة بعيداً عن الأوبئة والأمراض والحروب.
وبرؤى هي من فيض الأحساس بالوجود، ومن فيض الواقع الراسخ في ذاكرتنا المتعددة، وبمشاهدات مختلفة ضمن مراحل مختلفة تتضمن ما يوائم المواجهات الذاتية التي يعكف على تحقيقها من خلال المتأمل، وما يختلط في لوحاته من تكوينات تتطور مع المراحل كافة. ليؤلف من خلال ذلك عدة معاني لونية، وكأنه يستجمع الألوان. لتكون بمزاج مؤاتي للقريحة التشكيلية دون العبث بالخطوط التي ترتكز على التخطي الزمني لمفردات التهجير أو العزلة أو حتى المُترائيات الجمالية التي تقودنا إلى الإكتشاف.
فالأمر التشكيلي في لوحات الزيدي تنبع من احساسه بالحياة الجارفة نحو البقاء بعيداً عن التفاصيل التي نتركها رغماً عنّا، وهي من الأساسيات التي ساعدت في تكويننا النفسي والأخلاقي وغيره. فهل نُخرج ما في الذاكرة في لحظات العزلة المفروضة من الأحداث التي تضرب الفترة الزمنية التي نعيشها كالحروب والتهجير والكورونا التي نفقد من خلالها قوة التواصل الاجتماعي الحقيقي؟ أم أن الزيدي ترك لخلجات الألوان تلميحات تجعلنا نغوص بشكل مضموني أولا ومن ثم أسلوبي في ذاكرة هي نشأة اجتماعية نفتقدها؟
يحصر الفنان” تحسين الزيدي” لوحاته ما بين الفن والحياة، وفق خصائصه الحساسة بصريا، وإدراكيا في التكوين التشكيلي. ليجمع بطرق جمالية بين مرارة الحياة الآنية، وحلاوتها في الماضي، بمعنى يستخرج ما في الذاكرة بموضوعية فنية. لتكون في العزلة هي التفاصيل التي يستمتع بها الفنان، وبحميمية لونية تُمثل الأبعاد المجتمعية المُختلفة. ليجعل الزيدي من لوحاته نوافذ أو شاشات تنعكس من خلالها حساسية الفرد في المجتمعات التي تئن تحت مشكلات متعددة صحية سياسية اجتماعية وغيرها. فهل نقاوم ضغوط الحياة بتفجير ضغوط الألوان للتماشي مع الإحساس بالحياة التي نفتقدها أو التي خرجنا منها في مجتمعاتنا الموروثة؟ أم أننا نتخطى الحدود الإنسانية بالفن الذي تكرر تفاصيل الحياة فيه بمعاني مختلفة للإلتزام بالهوية الإنسانية بشكل عام؟
تندلع ألسن الألوان بضبابية في لوحات الزيدي التي يطمسها بالبيض، لتكون كالحلم الذي يستفيق منه الإنسان على متاعب الحياة التي قطعها كالمتسلق للجبال، وبمعاناة لا تخلو من جمال خاص لا يدركه إلا من عاشه. ليكون لحظات ولادة متجددة تميل إلى ترجمة الأحساس بالجمال حتى في الأزقة والشوارع الشعبية، وبعيدا عن التعقيدات العصرية التي ترفعنا عن كاهل المُثل العليا في التربية والوجود. لأننا وبكل بساطة نتذبذب بين الذوق الشخصي والذوق العام في التربية والتعليم والنشأة الطفولية البعيدة عن الأسس المقيدة والمُتحررة حتى في فترات العزلة التي تفرضها الأوبئة أو حتى الحروب. فهل ألتزم الزيدي بالمُثل الكونية والوجودية من خير وجمال وما الى ذلك؟ أم انطلق بريشته نحو الآفاق الانسانية المفتوحة في كل زمان ومكان؟
***
*الصور من مجموعة متحف فرحات
*جريدة المدى الإلكترونية