قراءة في رواية “معبد الغريب” للأسير الفلسطيني رائد الشافعي

 

 

 

 عفيف قاووق – لبنان

 

   رواية معبد الغريب للأسير الفلسطيني رائد الشافعي، رواية تنتمي إلى أدب السجون جاءت مكثفة تلامس المشاعر الوطنية وتهز الضمير العربي والفلسطيني بعد النتوءات والجراحات التي أصابت جسد القضية الفلسطينية وحولته للأسف إلى جثة هامدة  وفي أحسن الأحوال إلى جسد مقطع الأوصال نتيجة ما خلفته اتفاقية أوسلو من تداعيات كارثية على الشعب الفلسطيني حسبما جاء في هذه الرواية وتبعا لما يعتقده كاتبها،الذي أصيب غريب بطل روايته كما يبدو بخيبة أمل كبيرة بعد خروجه من المعتقل ليجد نفسه من جديد أسير قناعات لم يعد قادرا على ممارستها، وأنّ أحلامه أصبحت بعيدة المنال بعد أن تنازلوا عنها.

    معبد غريب المقدّس هو ذلك الركـن البعيـد بـن أشـجار الزيتـون يلجأ إليه كلما شعر بالحاجة إلى الإنفراد بنفسه بعيدا عن ضوضاء وصخب الناس فيجلس على ذاك الحجر يتخّذه مقعداً، ذاك الحجر الـذي لـم يُمَّـس ولـم يتغيـر أو يتحـرك مـن مكانـه منـذ تلـك الطفولـة البعيـدة.

    في هذه الرواية يشير الكاتب إلى أهمية الكتابة والدورالذي تلعبه في حفظ الذاكرة الجمعيّة لهذا الشعب، فهو يكتب بلسان الجماعة وعنها  يقول:” نحـن نكتـب حتـى نتخلـص مـن أعبائنـا مـا دمنـا نعيـش في حقـل ألغـام لا نعلم متى تصدر عنّا كلمة تُفجّر لغمًا  تحت أقدامنـا، أو تُنهـى علاقتنـا بالآخريــن ممــن يخشــون الحريـّـة والنقــد وتقبــل رأي معاكــس، وأنا  أسـعى إلـى تخليـد الذاكـرة الجمعيّة ولا أكتـب عـن ذاتـي.(ص31). أمّا رفيق زنزانته أبو عماد يحثه على أن يضمـن سـلامة مــا يكتبــه حتــى لا يضيــع تعبــه ســدى.

   اللافت في هذه الرواية  اعتماد الكاتب بشكل ملحوظ على الحوارات بين شخوص روايته لإيصال ما يريد إيصاله، أكثر من اعتماده على السرد الذي يكون مملاً في بعض الأحيان، وكتب روايته بأسلوب سلس لامس فيها وجدان القارىء وجعله ينجذب وبتلقائية للإستزادة من هذه القراءة الممتعة والهادفة.

 أفرد الكاتب مساحة لا بأس بها  في تناوله لإتفاقية أوسلو وتداعياتها ويبدو أنّه من رافضيها من وجهة نظره على الأقل، وفي حوار غريب مع جاره ابو حسن تتم الأشارة إلى إنقلاب الصورة وتبدل في القيــم الوطنيــة، أبـو حسـن يصف أوسلو بسلام الخرفان وينبه من مخاطرالثقافـة المضـادة التـي تولـدت وانتشـرت وإلى حالة الإحبــاط الــذي تفشــى بين جموع الأسرى المحررين خاصة،  بعد أن أصبح شرط خروجهم من السجون التوقيـع علـى وثيقـة تُجَـرّم النضـال وتدينـه وتعتبره بمثابة الإرهاب  ضـد الكيان الإسرائيلي،  وبقـي معتقـلًا مـن رفـض التوقيـع علـى ذلـك الشـرط المـذل. وفي إشارة الى التعاون المقنَّع بين السلطة الوطنية والإحتلال يذكر أبو حسن واقعة إستدعاؤه إلـى أحـد مراكـز الأمـن الفلسـطيني، وهو والد لشهيدين مما أشــعره بالإســاءة والحنــق والقهــر. أما سبب إستدعائه والتحقيق معه فهو حيازتـه قطعـة سـلاح غيـر مرخصـة، ويجب عليه  تسـليمها حتـى ينتهـي كل شـيء. يقول أبو حسن لقـد داسـوا علـى جثـث شـهدائنا حيـن اقتادونـا إلـى مقراتهـم كالمجرميـن واللصـوص، هكـذا كافـأوا آبـاء الشـهداء،  وبحسرة وغضب يكمل أبو حسن الحديث عن أوسلو ويصفــه بالجريمــة التــي جلبــت العــار والخيانــة .لقـد أبـادوا القضيـة والحلـم بعـد أنّ أبيـد الشـعب وقـراه ومدنـه (ص52).

 وفي حواره مع رفيق سجنه أبو عماد يستذكر غريب كيف إقتيد إلى أروقـة مكاتـب التحقيـق وإتهامه  بمحاولــة تقويــض عمليــة الســلام وممارســة مـا مـن شـأنه تهديـد الأمـن القومـي الفلسـطيني. وهنا يتمنى غريب ليته لم يتحرر ويخرج من معتقلات العدو ليدخل إلى مقرات التحقيق للأمن الوطني التي تشبه بكل تفاصيلها مقرات التحقيق الصهيونية  لولا لون العلم الذي كان يخفق باستحياء وهو مشبع بالرطوبة.

   لقد أصبح  غريب كإسمه غريباً ومنكسراً كأي مواطـن عربـي هتكـه نظامـه الحاكـم. وبأن كل  أحلامه عن الوطن، العودة والتحرير تحولــت بجــرة قلــم ولحظـة استسـلام إلـى كابـوس مزعـج بعد أن شـهد بعينيه كيف َ بيـع الحلـم في بـث حـي ومباشر (64). 

كما تظهر الخيبة أيضا في حوار غريب مع صديقه يوسف الذي يقول : منـذ “سـلام الشـجعان” يـا غريـب لـم أذكرأن تلفظــت باســم فلســطين أصبحــتُ مــن المثلــث وحســب لا مــن فلســطين.(ص69).  لقـد تنازلـوا عـن الوطـن يـا صاحبـي، وعندمـا قبلـوا باسـتعادة جـزء منـه، ً قدّموا أثمـن ممـا اسـتعادوه؛ قدّموا أحلامنـا نحـن ودفنوهـا  تحت مقـرات شـيدوها،(ص71). وفي تبريره لإنقلاب حاله من حال إلى أخرى وإنغماسه في اللهو والملذات يقول يوسف لقد باعونا وأحالونــا بموجــب الاتفاقيــة الجديــدة  رعايــا لـدى هــذا  الكيـان الصهيونـي، لـم يكتفـوا ببيـع الوطـن بالجملـة، فباعونـا بالمفـرق.ومنـذ أوسـلو يـا صاحبـي سـيطر علـيَّ شـعور بـأن الوطـن لـم يعـد لـه معنـى. لقد صرنا “عرب إسرائيل”  مواطنـي دولـة طيبـين أو سـيئين. ذلـك حسـب اقترابــك مــن حلمــك وابتعــادك عنــه. ألقونــا خــارج الزمــان والمــكان.

أما سماح تلك الفتاة التي صادفها في حيفا فتقول: “أتعلـم يـا غريـب!! لـم ينجـح الحكـم العسـكري بـكل مـا بـه مـن قهـر وإذلال في إخراجنـا مـن أرضنـا، بينمـا أوسـلو لـم يقتصـر علـى تحويـل الوطـن إلـى مزرعـة خاصـة ، لقـد أخرجنـا نحـن فلسـطينيو الدّاخـل مـن الهويـة الوطنيـة، حتـّى إنـه لـم يعتبرنـا جـزءا مـن هـذه المزرعـة”.

وفي لغة لا تخلو من المرارة  وتُبّرز حجم الضياع والألم الذي يعيشه غريب يخاطب نفسه قائلا: “تخلـص مـن بعـض المفـردات المهترئـة والصدئـة ذلـك لا يتناسـب وشـروط المواطنـة الســعيدة والقيــم الحداثيــة والعصريــة.

 الوطــن: هوأينمــا وجــدت مصلحتــك وسـعادتك وأمنـك.

 الحريـة: هـي حـدود بيتـك.

 الكرامـة: أن تجـد لقمـة العيـش. 

 الوفــاء: غبــاء لا حــدود لــه، ضعــف تجــاه الآخريــن. 

الصداقــة: ملهــاة للوقــت، مشــاعر خادعـة تنتهــي أمــام أصغــر مواجهــة مــع المصلحــة الذاتيــة.

 الحــب: وهــم يخلقــه النــاس ينتهــي في الفــراش. 

الحلــم: ثمنــه باهــظ لكنــه خبــز الفقــراء.

 الســعادة: التخلــي عـن الأحـلام الكبيـرة .

الديـن: عبـادة الـذات وتقديـس المـال. 

الضميـر: عـبء ٌ ومازوشــية، مــرض خطيــر يجــب الشــفاء منــه.(ص73).

    وفي موضع آخر يتطرق الكاتب إلى الشأن الثقافي وجمهرة المثقفين، وقد أبدى دانيال شريك غريب في زنزانته خشيته من أن يتحول المناضل إلى مثقف عقلاني ســرعان مــا يبــدأ بإطــلاق توصيفــات غريبــة علــى المقاومــة والنضــال، إمــا مغامــرة أو رومنســية أو عبثيــة.  وفي إدانة واضحة لما آل إليه بعض الوسط الثقافي يقول دانيال  لســنا بحاجــة إلــى مثقــف آخــر، يكفــي مــا لدينــا مــن مثقفيـن بعقــول مأجــورة، وأقــلا م مرتزقــة.(ص104).

 محور آخر تتناوله الرواية وهي موضوع الإحتلال وما تبعه من دعوة للتعايش وقبول الآخر وهذا ما يظهره الحوار الذي جرى بين غريب وصديقته هلا، تلك الفتاة التي هي ثمرة زواج هجين بين أم يهودية وأب فلسطيني، ثمـرة تـزاوج الحـق والباطـل، وهي ثمــرة لأبويــن شــرعيّين اعتقــدا أنهمــا بارتباطهمــا ســيضعان حدًا  لصـراع ٍ مديـد ٍ وقـاس لمجـرد التقائهمـا، فهي مجرد طفلـة ولـدت علـى الحـدود بيـن الأنـا والآخـر. فوالدتها اليهوديــة تــرى أنهــا صاحبــة الحــقّ وأنهــا هــي المظلومــة، ووالـدها الفلسـطيني يـرى أنـه هـو صاحـب هـذا الحـق وأنـه هـو المظلـوم.  وكل واحــد منهمــا يشــدّها  إلــى طرفـه حتـى انقسـمت نصفـين، ليأتيها الردّ من غريب بأنّ عليها الاختيـار فـلا يمكنـها البقـاء في المنتصـف، ويسألها كيــف لا تزالـيـن مؤمنـة بفرضيـة التعايـش والسـلام وهـذه الأوهـام وأنـت أكبـر دليـل علـى فشــلها.(ص211).

  أيضا كانت العمليات الإستشهادية محور النقاش بين غريب وهلا، هذه العمليات  تدينها هلا وتعتبران من يقومون بها  لم يعطوا فرصة للسلام ، وتسأل لقـد فجَّـر نفسـه ومـات. مـاذا اسـتفاد؟ ويجيبها غريب بأنّه تحـول مـن إنسـان طبيعـي إلـى كائـن مقـدس، فهــو لــم يفجـّـر نفســه عبثــا بل حبًا بالحياة،  إنـه بـذاك العمـل الشـجاع إنمـا يعيـد تكويـن ذاتـه عبـر أشـلائه، فيصبـح هـو الـكلّ ونحـن الأجـزاء. 

       كما ذكرنا فقد أفرد الكاتب مساحة لا بأس بها للمرأة والحوارات المكثفة التي أجراها غريب معها، وقدَّم لنا نموذجين عن المرأة، نموذج هجين جسدته هلا او هيلانة المتلطية وراء دعوتها للسلام والتعايش ولكن في حقيقة الأمر كان دورها المشبوه  هو إصطياد الشريحة الصلبة من الأسرى المحررين بغية غسل دماغهم وإيهامهم بعبثية النضال والمقاومة، أمّا النموذج الآخر فهو المرأة الفلسطينية المناضلة على طريقتها والمؤمنة بعدالة وأحقية قضيتها والذي تمثَّل في كل من أمل التي رسمت على كتفها وشما يرمز إلى حنظلة الذي تعتبره ملاكهـا الحـارس وأنـه يعبـرعـن هويتهـا وثقافتهـا وهو بمثابة وطنها الصغير، وكشفت الرواية أن أمل وصديقتها دنيا تقومان بالإشتراك مع رهـط مـن أصدقائهمـا المثقفين بنشـاط  يهـدف للتعـريف بالقـرى المهجّـرة، البعـض يرسـم معالمهـا المتآكلـة، والآخـر يقيـم على أنقاضها خيامًا يتـم دعـوة نشـطاء أجانـب إليهـا لتعريفهـم علـى آثـار التطهيـر الشـامل الـذي تعـرض لـه سـكان هـذه القـرى. وكثيرا ما كانت أمل تحثُ غريب على أن يبقى علـى قيـد الحلـم  ولا يُفــرّط بحلمـه.تقول له :” إيــاك أن تُهــزم وتســمح لهــم بكســرك. انكســارك ســيجعلك شــريكا  في ً مأســاتك”. وهي بذلك تتماهى مع والدته التي خاطبته قائلة:” اسـمعني جيـدا كلّ الذيـن حققـوا أحلامهـم يـا بنـي كانـوا بشـرا وكلّ أم تخـاف علـى ولدهـا مـن المـوت أو الأسـر، لكـن مـا هـو أقسـى، أن ترى الأم ابنها مكسوراً ومهزومـا إن لم نناضل لاسـتعادة ما فقدنا سنخسر أنفسنا أيضا وحينها لن نختلـف عمـن باعـوا القضيـة وأورثـوك كل هـذا اليـأس والإحبـاط” (ص56).

    وككل روايات أدب الحرية، لا بد من ان يُعرّج الكاتب على الحركة الأسيرة ومواجهاتها مع السجّان وأيضا الإشارة إلى معركة الإمعاء الخاوية التي خاضها الأسرى، وكيف يتم التضييق على الأسرى ونقلهم من سجن لآخر بغية كسر إرادتهم في تنفيذ إضرابهم عن الطعام.

في إشارة تحذيرية مما يحاك لأجل طمس الحقوق وتسطيح القضية يشير الكاتب إلى ما تلجأ إليه بعض المنظمات غير الحكومية والتي غالبًا ما يكون جــلّ أعضائهــا يهــود إســرائيليون، وبعـض الفلسـطينيين الذيـن التقـت مصالحهـم وأهدافهـم مـع أفـكار هـذه المنظمـة التـي تدّعي العمل على إشاعة السلام والتلاقي بين الشعوب، ولكن حقيقة ما تعمل له هو إصطياد النواة الصلبة من الأسرى المحررين خاصة وثلة من النُخَب الفلسطينية المثقفة عامة لأجل تفتيتهم ظنًا منها  أنّها بذلك يمكـن هزيمـة الذاكـرة الجمعيـة لشـعب لـم يتبـق لـه غيرها بعـد أن فقـد أرضـه. وبعبارة أخرى تهدف مثل تلك المنظمّات تحويـل الصقـور إلـى حمائـم وقطـط بيتيـة ووكلاء للرفاهيـة الوهميّـة والسـعادة المزيفة..  ولمجابهة هذا النوع من التحركات تقول دنيا صديقة غريب وأمل بأنّهما تعملان ضمن حــراك شــبابي فلســطيني عابــر للاديــان والطوائــف والعــرق والجنــس، والأهــم أنــه عابــر للأحــزاب السياســية، يجمعنــا هـدف واحـد هــو الحفـاظ علــى الذاكـرة الجمعيـّة ضـدّ التزويـر والنهـب (ص342).  

  ختاما نقول ان الأسير رائد الشافعي قدّم لنا في روايته هذه ما يشبه المطالعة السياسية لتبيان وجهة نظره وربما وجهة نظر الكثيرين مما حصل ويحصل في الوطن الفلسطيني، وإذا كان الشاعر نزار قبّاني يقول “إنّ الثورة تولد من رحم الأحزان” يمكننا القول أيضا أن أدب الحريّة يولد من قمع السجّان، وإذا كان للسجن والإعتقال من منقبة ما فهي ولادة تلك الجمهرة من الكُتّاب الأسرى مثل رائد الشافعي وغيرهم، وما كانت انتاجاتهم وإبداعاتهم لتصلنا لولا الجهد الذي بذل ولا يزال من قبل المحامي حسن عبادي صاحب مبادرتّي “لكلّ أسير كتاب” و”من كلّ أسير كتاب”، وأختم بما قاله الأستاذ عبادي عن هذه الرواية “حين قرأت المخطوطة وجدت كلماته تفجّر لغمًا تحت أقدام كلّ من تسلّح بالسراب والوهم الأوسلوي لتخلّصه من عبء يرزح تحته. عادت القيادة من الشتات بأضغاث أحلام لتخلق وطناً من وهم وفرقة وطنية وعبث وفراغ”

 مبارك للأسير الحُر رائد الشافعي هذا الإبداع الذي وضع من خلاله الإصبع على الجرح  آملين ان يتوقف هذا النزيف العبثي ويتم إعادة توجيه البوصلة في الاتجاه الصحيح، في اتجاه فلسطين القضية المركزية مهما حاول المهرولون نحو التطبيع  وتقديم خدمات مجانية مقابل بعض الفتات من المكاسب الزائلة. 

اترك رد