وقائع الجلسة الحواريّة حول كتاب الأديب د. جميل الدويهي “المتقدّم في النور” (14)

 

 

الأستاذ طارق طالب

 

١- النصّ من الكتاب

 

وصل المعلّم وتلاميذه إلى سهل كبير، لوّحته الشمس بلون ذهبيّ. وكان الحصّادون يحمّلون أكياسهم على ظهور البغال والحمير، ويأخذونها إلى المطحنة القريبة.

كلّ الناس فعَلة في حقل الوجود. بعضهم يعمل كثيراً ويعطي كثيراً، وبعضهم يعمل قليلاً ويعطي قليلاً. أمّا الذي يعمل ويأخذ لنفسه فقط، فذلك هو غير العامل من أجل الحياة. فكم من الناس يجمعون القرش على القرش، ويخبّئونه في الأقبية وداخل الجدران، بينما جار لهم يئنّ من الجوع، ويشتهي أبناؤه كسرة من الخبز! فما فائدة المال إذا لم يكن سبباً للفضائل وفرح الناس؟

عرفت أناساً لديهم أموال طائلة، لا تتّسع لها خزائن المصارف، ولن يعيشوا لكي يتمتّعوا بها كلّها. وإنّ القرش المخبّأ يشفق على صاحبه، ويسأله: متى تنتهي أيّام الضجر ولياليه، فأرى النور، وأنا محتجَز في ظلمة كظلمة القبر؟… ولا تظنّوا أنّ التهافت على المال هو من أجل الغنى فوق الغنى، فالثريّ يدرِك أنّه لن يصرف أمواله كلّها. والأبنية التي يبنيها ويتفاخر بها ليست له، بل هي للذين يرثونه فيما بعد… لكنّ تجميع المادّة يُشعر صاحبه بالطمأنينة. أمّا الفقير فيخاف من الموت جوعاً، وبرداً ومرضاً.

والفكر هو الذي يحدّد للإنسان مدى رغبته في المال أو في شيء آخر، فلو وضعنا أمام طفل صندوقاً من الذهب، وقطعة حلوى لا يتجاوز ثمنها بضعة قروش، فإنّه سيأخذ الحلوى بشغف ولا يلتفت إلى الذهب. فعقل الطفل الصغير حدّد له أنّ حاجته هي في الحلوى، بينما الكبير يحدّد له عقله أنّ حاجته تكمن في الذهب وليس في الحلوى.

كان في إحدى القرى حقل فيه أثمار طيّبة، وكانت الطيور تأكل منه كلّ صباح، فتضايق صاحب الحقل، ووضع سياجاً يحمي أرضه من الطيور، كما أقام شراكاً لتقع فيها العصافير وتموت. وبعد سنة، يبس الحقل، وجفّت عروقه، وامتنع أن يعطي ثمرة واحدة، ما عدا تلك التي تهترئ على أمّاتها قبل أن تنضج…

ولكن حذار أن تقولوا إنّ الكروم كلّها تتشابه. فهي تأخذ من أيديكم التعب والعرق، وتعطيكم من تعبها وعرقها أيضاً. وإذا كانت لكم شجرة لا تثمر، فاسألوا أنفسكم: ماذا أعطيتم لها، وكم ضحّيتم من أجلها؟ ولا تطلبوا بالمجّان إلاّ إذا أعطيتم بالمجّان. ولا تقولوا إنّ الأشجار كلّها ذات قيمة واحدة. فكيف تتساوى نبتة يابسة مع نبتة خضراء؟ وكيف يتساوى النبع الجافّ مع نبع غزير يسقي العطاش؟

 

٢- مطالعة الأستاذ طارق طالب

 

كل الناس فعلة في حقل الوجود، عبارة بدأ بها الدويهي الجميل الأديب الفذّ النص الشّيِّق من كتاب “المتقدّم في النور”، وهو فعلاً متقدّم. وطرح التساؤل الفلسفيّ المنطقيّ بأسلوب سهل ممتنع، غيّاض بحب المعرفة، وفيّاض بالعطاء، تماماً كالهدف من النصّ: العطاء، الإيمان، الخير، حبّ الناس والحياة.

الحياة عمل، والعمل جهاد وعطاء، وعلى قدر عملك يكون إنتاجك وعطاؤك، إمّا كثيراً أو قليلاً، ومنهم من لا يعطي رغم أنّه يعمل. هذا النوع آثر إكتناز المال، وطمره تحت الأرض، وإلصاقة بالزوايا المنسيّة كي لا يستفيد منه أحد، سوى الورثة الذين سيحصلون على كلّ شيء، دونما تعب أو مشقّة، إلاّ عناء انتظار الساعة. فما قيمة المال؟ وما الفائدة المرجوّة منه إن لم يكن سبباً ودافعاً لبثّ الخير، ونشر المساعدة، وإحقاق الشعور بالسعادة بين الناس؟!

حتّى أنّك تجد المال متضجّراً من نفسه، لأنه بغير فائدة معلنة، فمن كان غنيّاً ومحبّاً لتجميع مادّة المال، شعر بالطمأنينة، لأنّه برأيه يحقّق ما يصبو إليه. فهو يعمل لنفسه فقط التي حرمها لذّة العمل الصالح، ومساعدة الغير. وهناك الفقير الذي جُلّ همّه تأمين قوت يومه. وأحلامه أن يكون مستوراً، وأن يمرّ يومه دون مضاعفات ليست بالحسبان، تثقل كاهله المثقل أصلاً، ودوماً يخاف من الغد وتقلّبات الزمن.

إنّه الفكر عند الإنسان يا سادة، فهو ما يرسم له خريطة ما يريد، ولماذا. وكلّ يفكّر بحسب إمكانيّاته أو رجاحة فكره… فلو وضعنا الذهب وقطعة حلوى مثلاً أمام طفل ما، بالتأكيد سيأخذه عقله إلى أكل الحلوى وتجاهل الذهب، لأنّ عقله أوحى له أنّه يحتاج إلى الحلوى وليس إلى الذهب الذي هو طبعاً من إهتمامات عقل الإنسان الكبير.

العطاء والإيمان به، فضيلة سامية من أرفع مقامات الفكر الرشيد. فلا تمنع ذلك. فكلّما أعطيت كان المردود في ازدياد، وكلًما أحجمت يبست أغصان أيّامك، وتداعت للسقوط. فلا يمكننا المقارنة أو المساواة بين نبع دفّاق غزير، وآخر جافّ أو يكاد.

ركز فيلسوف النهضة الإغترابيّة وأديبها الجميل، على قيمة الفكر، وشأنه، وكيفيّة عمله، ومردوده… لدرجة الإيمان بأنّ الفكر هو ما يبني الإنسان، وهو الصواب الساطع نوراً، كما أحرف أبجديّة “المتقدّم في النور”، في عصر الشتات والآفات والموبقات.

مبارك الإصدار الثاني عشر، وإلى المزيد من التقدّم، والنجاح، والإزدهار والتوفيق، خدمةً لجاليتنا الكريمة، ولِلُبناننا البديع وأستراليا العزيزة.

اترك رد