المهندس طوني سركيس
1- النصّ من الكتاب:
كان يؤلم المعلّمَ شيء واحد، هو أنّ الكثيرين يرون في أفكاره ضرباً من الجنون، فقد دأبت فطرتهم على تصديق ما هو خطأ، أمّا الصواب المتطرّف فقلّما يلقى آذاناً صاغية. وهذا الصواب المتطرّف وحده كفيل بأن ينأى بالمجتمعات عن العبث والغوغائيّة.
وما يصرّح به المعلّم من آراء ينتهك الفهم المشترك للناس، ويبدو غير مُقنع، بالمقارنة مع ما درجت عليه الطبيعة الإنسانيّة في عصور طويلة. والأمم ليست مضطرّة لتبنّي قيَم تتناقض مع المألوف لديها، وإن كان هذا المألوف غير مجدٍ ومميت. والأفكار القديمة التصقت بالعقل كما يلتصق الصدأ بالآنية المتروكة في قبو مظلم، وتحتاج إزالة الصدإ عن النحاس زماناً طويلاً جدّاً، يتجاوز حياة إنسان.
فهل نظرتم إلى الفقير الذي أصبح بغتةً ملكاً على مدينة، وصار الملك خادماً عنده؟… فإنّ الفقير سيظلّ أيّاماً يعتقد أنّه فقير وليس ملكاً، والملك سيظلّ أيضاً مدّة يعتقد أنّه ملك وليس فقيراً. فتطوّر الاقتناع بحال من الأحوال يحتاج إلى زمن، ولا يكون في وقت قصير، مثلما تتغيّر تلك الحال في وقت قصير.
والغريب في الكائن البشريّ أنّه يرتاب في أيّ شيء إيجابيّ، إنْ يكن طارئاً عليه، لأنّه جرّب الشرور وباتت معروفة عنده، أمّا الحديث عن الخير الكلّيّ فموضع ريبة، لأنّه طرْح جديد ويحتاج إلى حذر وتجريب قبل التأكّد من صلاحيّته. ألم تكن فكرة كرويّة الأرض مدعاة للاحتقار والسخرية لأنّ البشريّة اعتادت على أنّ الأرض مسطّحة… وأيّ اعتقاد ثوريّ، وإن يكن صحيحاً، لا يجد قبولاً على الفور؟ أوليس من قَبيل الجنون أن يقول أحد الآن إنّ سكّان الفضاء قد يهبطون غداً في المدن الكبرى ويحتلّونها؟
الإنسان في حالة عدم التصديق، والاعتقاد أنّ بعض الحقائق جنون، هو كطفل صغير. فالطفل في السنة الأولى من عمره لا يفهم كيف أنّ العصفور يطير، والشمس تشرق، والباب ينفتح… وتلتبس عليه أمور هي عاديّة في نظر الكبار. ولو عرضتَ أمام هذا الطفل عندما يكبر، شريطاً مصوّراً عن ردّة فعله، ودهشته، وتعجّبه من العصفور عندما يطير، والشمس عندما تشرق، والباب عندما ينفتح، لضحك من نفسه، وسخر من سذاجته.
2- مطالعة المهندس طوني سركيس:
يحدثُنا الدكتور الأديب د. جميل الدويهي بالامثال، ويستفيدُ من خبرتِه في كتابةِ القصّة القصيرة، ليقدّمَ لنا فلسفتَه في الحياة، بأسلوبٍ سهل، وطريقةٍ إبداعيّةٍ فريدةٍ من نوعِها.
ونحن نعرفُ أنّ السيّدَ المسيح قد تحدّثَ بالأمثال، وكذلك الكتبُ الدينيّةُ والفلاسفةُ والمفكّرون، لأنّ الفلسفةَ التي تلامسُ علمَ الاجتماع تكونُ أسهل، لو جاءت بصيغةِ القِصص.
وهذا النصّ يبدأُ بالقول إنّ الفطرةَ هي نوعُ من المعرفةِ الملتصقةِ بعقل الإنسان. ومن الصعبِ تغييرُ المألوف. وهذا جعلَ البشريّةَ تعتنقُ مفاهيم خاطئة، لم تتغيّرْ إلى الأفضل أو إلى الصواب. وهذا الصوابُ يسمّيه الأديب بالصوابِ المتطرّف. لأنه غيرُ مقبول من الغالبيّة. على الرغمِ من أنّه يُخلّصُ المجتمعات من الفوضى.
لذلك يقولُ المفكّرُ الدويهي: الأممُ ليست مضطرّة لتبنّي قيَمٍ تتناقضُ مع المألوفِ لديها، والأفكارُ القديمةُ التصقت بالعقلِ كما يلتصقُ الصدأُ بالآنيةِ المتروكةِ في قبوٍ مُظلم، وتحتاجُ إزالةُ الصدإ عن النُحاس زماناً طويلاً جدّاً، يتجاوزُ حياةَ إنسان.
وأضيفُ هنا الإشارة إلى تقاليد نعرفُها، كالثأر، والعنف، والعنصريّة، والطائفيّة… فهل تَمكّن البشرُ من التخلّي عنها، وهم يعلمونَ أنّها مُدمّرة؟
ولماذا يطرحُ الأديبُ هذا السؤال: هل نظرتُم إلى الفقيرِ الذي أصبح بِغتةً ملكاً على مدينة، وصار الملكُ خادماً عنده؟… فإنّ الفقيرَ سيظلُّ أيّاماً يعتقدُ أنّه فقير وليس ملكاً، والملكُُ سيظلُّ أيضاً مُدّةً يعتقدُ أنّه ملكٌ وليس فقيراً.
هذا السؤالُ ليس عبَثاً، بل يضعُنا أمامَ حقيقةٍ، هي أنّ التغييرَ في الأحوال قد يحدثُ بسرعة، لكنّ تصديقَ الحالة يحتاجُ إلى زمنٍ طويل. ويُشَبّهُ الأديبُ الإنسانَ بالطفلِ في السنةِ الأولى من عمره، لا يَفهمُ كيف أنّ العصفورَ يطير، والشمسَ تُشرق، والبابَ ينفتح… ولو عَرضتَ أمام هذا الطفلِ عندما يكبر، شريطاً مُصوّراً عن ردّةِ فعلِه، ودهشتِه، من العصفورِ عندما يطير، والشمسِ عندما تُشرق، والبابِ عندما ينفتح، يضحكُ من نفسِه.
وكلُّ ما يريدّ أديبُنا أن يقول، هو أنّه يخشى على أفكارِه أن تضيع، ولا يأخذُ بها أحد. وهذا هاجسٌ عند المفكّرين. وهل نحن فعلاً صدّقنا ما جاء به العظماءُ من قبل، مثلَ المحبّة، والتسامُح، والعدل، والرحمة… ونعيشُ ضمنَ هذه القيم. أم نفعلُ العكس؟
شكراً للأديب الدويهي المتقدّم في النور، وكم أرجو أن تتقدّمَ الانسانيّةُ كلُّها على دروبِ الخير، فننجو من الخوف، ونعيشُ أمّةً واحدة، تسْتهدي بنورِ الخالقِ العظيم، ولا تضيع.
شكراً جزيلاً.
***
*مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع.
* تنشر وقائع الجلسة في كتاب يصدر قريباً من “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي