قصص مختارة من كتاب “أصوات من تيرا أوستراليس” للدكتور جميل الدويهي(5)

 

 

ديكتاتور هولنديّ على جزيرة أستراليّة

 

 

سبق الهولنديّون بوقت طويل نظراءهم الإنكليز، في الوصول إلى تيرا أوستراليس. وفي المحيط حول أستراليا أكثر من ثمانية آلاف سفينة غارقة، بعضها تحطّم قبل تأسيس سيدني كوف، وبعضها غرق بعد نشوء الاستيطان الأبيض في أستراليا. ولا شكّ في أنّ بعض تلك السفن هولنديّة، فتلك الدولة كان لها باع طويل في الفتوحات البحريّة، والبحث عن أراض في جنوب شرق آسيا لاستعمارها، والحصول على البهارات التي كانت في زمن ما، مثل الذهب والفضّة.

منذ ما يقرب من ٤٠٠ عام، يقول الراوي، تحطّمت سفينة هولنديّة، تدعى “باتافيا”، قبالة جزيرة “بيكون” عند الساحل الغربي الأستراليّ.

كانت “باتافيا” واحدة من ثماني سفن، ومسلّحة بدزّينتين من المدافع، وعلى متنها بحّارة جبابرة، وصناديق من عملات فضّيّة، ولوازم بناء مخصّصة للمستعمرة الهولنديّة في أندونيسيا. وكانت السفينة ستعود إلى الوطن مع كمّيّة كبيرة من التوابل.

المسافرون هم ٣٤٠ مواطناً هولنديّاً، أكثر من ثلثيهم بحّارة وضبّاط، والباقون جنود ومسافرون متّجهون إلى المستعمرة.

ما إن وصلت مجموعة السفن إلى بحر الشمال، قرب بريطانيا، حتّى هبّت رياح زعازع، وهدر البحر مزمجراً، وارتفعت الأمواج بضراوة. فتقرّر أن تعود بعض السفن الصغيرة، وتتابع ثلاث سفن فقط الرحلة في المحيط، لتلتفّ عند رأس الرجاء الصالح، نحو غرب أستراليا، ومن هناك إلى وجهتها المعروفة. ولم تكد السفن الثلاث تغادر الساحل الأفريقيّ باتّجاه المحيط الهنديّ، حتّى غضب البحر مرّة ثانية، فانفصلت باتافيا عن رفيقتيها، وعبرت المحيط وحدها.

 

في وسط اليمّ العاصف، تحدّث بحّاران، أحدهما في مقتبل العمر، والثاني أكبر منه قليلاً، فقال الشابّ ويدعى ريتشارد:

هناك ما أتوجّس منه، يا صديقي هانز، في هذه الرحلة… فقد لا تنقضي على خير…

“أنا مثلك”… قال هانز، وأردف:

الخلاف بين قائد الحملة فرانسيسكو بيلسايرت، وقائد “باتافيا” إرين جاكوبس، قد وصل إلى حدّ لا يُطاق…

-ما حكايتهما؟ ولماذا هما في جدال دائم؟

-قيل لي إنّهما اختلفا في الهند قبل عامين… يبدو أنّ فرنسيسكو يخطّط لتمرّد على السفينة.

-هل تعرف؟ لقد أصبحتُ خائفاً على نفسي، وعلينا جميعاً… ولقد تركت وردة عند شبّاك حبيبتي في أمستردام، وأوصيتها بأن تسقيها كلّ يوم، ريثما أعود… قالت لي إنّ أجمل ما في الورود هو الدموع التي تتساقط عليها… والآن أفكّر في كلامها…

ما كاد الشابّ ينهي جملته، حتّى اهتزّت السفينة فجأة، وجنحت، فارتفع صياح، وتساقطت أعمدة، وتمزّقت أشرعة.

صرخ القائد: تشبّثوا… لقد علقنا في الشعاب المرجانيّة.

وسط الفوضى والدمار، لقي حوالي مئة من الركّاب حتفهم في الحادث الذي يعتبر من أوائل تحطّم السفن على الشاطئ الأستراليّ.

أمر القائد الناجين بالإبحار في مركب الإنقاذ إلى جزيرة “بيكون” التي تبعد كيلومترين عن موقع الغرق. وليس معروفاً إلى الآن، لماذا بقي نفر قليل على متن السفينة التي اختفت تماماً عن سطح الماء في غضون تسعة أيّام…

جزيرة الخوَنة هي جزيرة “بيكون” الصغيرة. ولم يكن عليها سوى القليل من المياه العذبة أو الطعام. وضرب القائد بيلسايرت أخماساً بأسداس. فسأل معاوناً له:

-ما رأيك في أن نبحر إلى البرّ الأستراليّ المجهول؟

-لست أدري يا سيّدي. أمّا أن نتوجّه على هذا القارب الصغير إلى أندونيسيا… فتلك مسافة تزيد عن ثلاثة آلاف كيلومتر، وقد لا ننجو.

فكّر القائد قليلاً، وقال:

لو تمكّنّا من بلوغ أستراليا، فقد لا نعثر على بشر… سأقترح على جاكوبس أن نغامر باتّجاه أندونيسيا لطلب النجدة.

فعلاً، غادر القائدان مع مجموعة من ٤٨ راكباً إلى أندونيسيا، فوصلوا إليها بأعجوبة بعد ثلاثة وثلاثين يوماً. وهناك اشتكى بيلسايرت من مضايقات جاكوبس له، فسجنت السلطات هذا الأخير. وتمّ الاتّفاق على إرسال سفينة لإنقاذ الركّاب الباقين في جزيرة “بيكون”.

في ذلك الوقت، كانت الفوضى قد عمّت الجزيرة. فقد أعلن ضابط يدعى كورنيليش، نفسه ديكتاتوراً، وبدأ بتقنين الطعام، ومصادرة مقتنيات مواطنيه. وأمر بالبحث عن أيّ شيء نافع قد يكون لفظه البحر من حطام “باتافيا”. وشكّل مجلس رئاسة من رجاله المخلصين.

وطالب كورنيليش بتسليم جميع الأسلحة إلى رجاله. وقسّم الناجين إلى مجموعات، ونشرهم في الجزر الصغيرة المجاورة.

وخلال أسابيع قليلة، أمر الديكتاتور رجاله بذبح كلّ الرجال الباقين الذين لا يجاهرون بولائهم له، فأجهز جنوده على المرضى والعجزة، واغتصبوا النساء. ويذكر المؤرّخون أنّ حوالي ١٢٥ رجلاً وامرأة وطفلاً قد قُتلوا على يد كورنيليش ورجاله خلال فترة حكمهم المرعبة. أمّا الحادث الأكثر ضرراً على حركة التمرّد تلك، فهو نقل ٢٢ جنديّا، غير راضين عن الحكم الأرعن، إلى جزيرة “ولابي الغربيّة” القريبة، حيث تُركوا ليموتوا. لكنّ بعضهم تمكّنوا من البقاء على قيد الحياة بأن أكلوا حيوانات الولاّب. وافترض كورنيليش أنّ الرجال سوف يموتون هناك، وفوجئ ذات يوم بأنّهم أرسلوا إشارة دخان.

كان ذلك المؤشّر الأوّل على نهاية عهد الإرهاب، فسرعان ما انتفض أحد الضبّاط الصغار، ويدعى ويبي هايز، على الديكتاتور، وأنهى حكمه.

عاد بيلسايرت من أندونيسيا مع فريق الإنقاذ بعد أكثر من شهر، فعلموا بما جرى من تمرّد، ورأوا أعتى الحكّام قسوة مع مناصريه يرسفون في أغلالهم. فقادهم بيلسايرت إلى جزيرة “سيل” لمعاقبتهم، وهناك قطع أيديهم اليمنى، قبل أن يشنقهم.

في ذلك الوقت، كان هانز يبحث عن صديقه الشابّ ريتشارد، فلم يجده. فأخرج من جيبه رسالة كان كتبها صديقه وسلّمها إليه، طالباً منه أن يعطيها لحبيبته في هولندا إذا بقي على قيد الحياة. فانهمرت دمعتان من عينيه.

هانز الآن في أمستردام، بعد رحلة تاريخيّة، يزور مارغريت ولا يجرؤ على الكلام. سألته عن ريتشارد، فلم يجب. كان واجماً، وفي يده المرتجفة رسالة… فتحتها بسرعة، وقرأت ما فيها، فغصّت، وشعرت بدوار، فكادت تسقط من الهلع. التفتت إلى الوردة عند النافذة، فرأت لأوّل مرّة دموعاً تنهمر على أوراقها الغضّة.

كاد المؤرّخ يسدل الستار على كتابه، عندما فوجئ بقصّة غريبة عن سفينة هولنديّة ثانية، تدعى “زايتدورب”، تحطّمت قبالة بيرث، ولم يبحث الهولنديّون عنها، في تصرّف يزيد القصّة تعقيداً. كما لا نعرف شيئاً عن ركّابها الذين قد يكونون نجوا، واختفوا كما يختفي الملح في الماء.

وفي الربع الأوّل من القرن الماضي، عُثر على حطام سفينة على شواطئ أستراليا الغربيّة، يُعتقد أنّه حطام “زايتدورب”… وقرب المكان بقعة تخييم، وآثار لإشعال حرائق.

ويعتقد الخبراء أنّ حوالي مئتي راكب نجوا من الحادث، الذي وقع في نقطة قريبة جدّاً من الشاطئ.

أمّا ماذا حدث لهؤلاء الناجين؟ فلا أحد يعرف. وقد يكونون انضمّوا إلى المجتمعات الأصليّة المحيطة بموقع الحطام، وهذا الامتزاج تطوّر إلى زواج مختلط بين الشعبين.

ثورة مشروب الرام وإسقاط النظام

 

 

ليس معروفاً في تاريخ أستراليا الحديث عن أيّ انقلاب عسكريّ، للإطاحة بالنظام، ما عدا مرّة واحدة.

فما جرى في أواخر كانون الثاني عام ١٨٠٨ جدير بالقراءة والتمعّن. إنّه ثورة فعلاً، ورغبة في إسقاط الحاكم ويليام بلاي.

فقد سار ضبّاط وجنود تابعون لحكومة نيو ساوث ويلز إلى مقرّ الحاكم، فاعتقلوه، ووضعوا مستعمرة نيو ساوث ويلز تحت الحكم العسكريّ.

كان الحاكم بلاي ممتعضاً من التجارة غير المشروعة لمشروب الرام في سيدني. وهيمن الجيش في المدينة على قطاع المتاجرة بالمشروب. وتورّط مدنيّون أثرياء مع الجنود، ومنهم جون ماكارثر.

في مكتب الرائد جورج جونستون، كان اللقاء مع ماكارثر على عجل، ولم يستغرق سوى بضع دقائق.

ماذا عندك؟

سأل جونستون زائره، الذي كان مقطّب الوجه، ويتطاير الشرر من عينيه… فأجابه:

ليس عندي سوى القلق ممّا وصلت إليه الحال. فالحاكم يضيّق

على مصالحنا.

-ماذا تريدني أفعل؟

-ننقلب عليه، ونعتقله… فالقضيّة حياة أو موت…

-ليس إلى هذا الحدّ. لا نريد للأمور أن تفلت من عقالها…

-كم أنت متردّد وخائف! هل فكّرت مرّة واحدة في أنّ تحالفنا سيقدّم إليك هديّة على طبق من فضّة؟

-ما هي تلك الهديّة؟

-ستكون أنت الحاكم العام، أو على الأقلّ نائباً له، وتحكم المدينة كلّها، وجميع البلدات التي تجاورها… هه… قل لي… ألا تعجبك هذه الفكرة؟

-أنت مجنون فعلاً… إذا كنت تفكّر بهذه الطريقة… نحن كلّنا هنا بأمر التاج البريطانيّ، والحاكم يمثّل التاج…

-لن أقول أكثر، فعندي مشاغل… خذْ وقتك، وفكّرْ في اليومين المقبلين بما اقترحته عليك… وكلّ النفوذ الذي أملكه سيكون في خدمتك…

أطفأ ماكارثر سيجاره الطويل، وسوّى قبّعته على رأسه، وخرج تاركاً جونستون في حيرة. كان الرائد في قرارة نفسه معجباً بما طرحه عليه حليفه الثريّ…

كان الضبّاط والجنود كلّهم حانقين على الحاكم، فزاد ذلك من اقتناع الرائد جونستون بأن يتحرّك في اتّجاه ما، فأمر الفرق بالاستنفار تحت جناح الليل، ونفّذ خطّته بتقنيّة عالية، ففي الصباح الباكر كان أكثر من ٤٠٠ عسكريّ يتوجّهون إلى مقرّ الحاكم بلاي، فدخل بضعة منهم عنوة إلى مكتبه، واحتجزوه لمدّة قصيرة، ثمّ أرسلوه مقيّداً إلى سفينة راسية في المحيط، قبالة هوبارت في تاسمانيا.

لم يكن بلاي حاكماً سيّئاً، بيد أنّه ارتكب أخطاء فادحة في نظر الأثرياء والنافذين، فقد أراد أن يمنع الاستيراد الحرّ من بريطانيا، وفرض عقوبات على التجارة غير القانونيّة، وتقنين المشروبات الروحيّة… كما توقّف عن منح الأراضي للأغنياء…

ودخل بلاي أيضاً في ورطة مع المنفيّين الأيرلنديّين، وهم كثيرون في الولاية، فقد اتّهم ثمانية منهم بمحاولة تمرّد، وبرّأت المحكمة ستّة، فرفضَ قرار القاضي، وأبقى على الثمانية في السجن. ووصل الضيق من ممارسات الحاكم إلى حدّ أنّ الرائد جونستون كتب إلى القائد العام للجيش البريطانيّ، رسالة يشكو فيها من تصرّفات الحاكم.

أمّا ماكارثر، فقد اختلف مع الحاكم، بعد أن منعته السلطات من بيع مشروب الرام للجنود، بأسعار زهيدة. كما حظرت عليه استيراد الكحول، وتعرّض للملاحقات القضائيّة. وقبل الانقلاب بعدّة أيّام أمر بلاي بحبسه، فسار صديقه الرائد جورج جونستون إلى السجن وأخرجه منه.

ولدى الرائد جونستون عريضة موقّعة من ماكارثر، يقول فيها:

“عزيزي الرائد جورج جونستون، أطلب منك بإلحاح، أن تلقي القبض على الحاكم بلاي، وتستلم الحكم نيابة عنه. وهذه العريضة التي بين يديك وافق عليها ووقّعها ضبّاط الفيلق، والمواطنون النافذون في سيدني. نفّذ فوراً لمصلحتنا ومصلحة الشعب.

المخلص جون ماكارثر”.

كما في محفوظات أحد الضبّاط الذين شاركوا في الانقلاب، رسالة من جونستون إلى الحاكم، مكتوب فيها:

“سيّدي الحاكم بلاي.

مع المحبّة والتقدير. أنت متّهم من قبَل السكّان المحترمين بجرائم، تجعلك غير لائق لممارسة السلطة العليا لحظة أخرى في هذه المستعمرة. وبسبب هذه التهمة انضمّ إلى التمرّد ضدّ حكمك جميع الضبّاط الذين تحت إمرتي”.

وصلت فرقة مدجّجة إلى مكتب الحاكم بلاي، ولم يكن الحرّاس موجودين هناك، فوقفت ابنة له عند الباب، وفتحت مظلّتها في وجه الجنود، معترضة على دخولهم، فطلب منها الضابط توماس ليكوك أن تتنحّى، وإلاّ عاملوها بالشدّة. وما هي إلاّ دقائق حتّى عثروا على بلاي، مختبئاً تحت سريره. فسخر منه الجنود لجبانته. وبرّر اختباءه بأنّه كان يلتقط بعض الأوراق.

احتجزت السلطة الثوريّة الجديدة الحاكم وابنته في مقرّ الحكومة، ووُضعا تحت الإقامة الجبريّة. وعندما طلبت السلطة الجديدة من بلاي ترك منصبه والعودة إلى بريطانيا، رفض بقوّة. فنقل للاحتجاز على متن سفينة راسية قبالة شاطئ هوبارت في تاسمانيا.

تولّى جونستون الحكم، فعيّن على الفور جون ماكارثر وزيراً للمستعمرات، وأعاد الاعتبار لعدد من الموظّفين البارزين الذين عزلهم الحاكم السابق.

بعد خمسة أشهر، عُقدت في لندن محكمة قانونيّة للنظر في ما حدث على بُعد آلاف الأميال من المملكة المتّحدة. وكان القاضي بحاجة إلى معرفة تفاصيل أدقّ عن الانقلاب، فطلب الحصول على لوحة كاريكاتوريّة، رسمها فنّان مجهول، تصوّر جنديّاً وهو يسحب بلاي من تحت سرير، ويبدو في اللوحة جنديّان آخران. وهذه اللوحة هي أقدم رسم كاريكاتوريّ ساخر وضع في أستراليا على الإطلاق. وبناء على هذا الرسم، اعتبر القضاء أنّ بلاي حاكم جبان، وغير نبيل، ولا يصلح للحكم.

عام كامل انقضى بين أخذ وردّ، ومحاولات يائسة من بلاي للعودة إلى الحكم، فذهبت محاولاته سدى، وظلّ منفيّاً على متن السفينة الراسية قرب هوبارت، حتّى قرّر التاج البريطانيّ تعيين حاكم جديد، هو لاتشلان ماكواري… وانتهت فترة الحكم العسكريّ الأوّل في تاريخ أستراليا، التي دامت عامي.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي أفكار اغترابية

النهضة الاغترابية الثانية –  تعدد الأنواع.

اترك رد