قصتان من كتاب “أصوات من تيرا أوستراليس” للدكتور جميل الدويهي(2)

 

يواصل الأديب د. جمبل الدويهي مسيرة أفكار اغترابية، ويقدّم  قصتين من كتاب جديد يصدر قريباً من مشروعه للأدب الراقي، بعنوان “أصوات من تيرا أوستراليس”، وينشر على موقع www.jamildoaihi.com

 

 

السيّدة ماري وأمّهات المهاجرين الأوائل

 

ما إن رأى الملازم رالف كلارك السفينة المكتظّة بالمنفيّين “لايدي جوليانا” ترسو في ميناء سيدني كوف، في ربيع ١٧٩٠، حتّى صاح مستنكراً وبطريقة لا شعوريّة: “لا! لا يا ربّي، بالتأكيد لا! لا نريد المزيد من هؤلاء العاهرات اللعينات. لم أعرف من قبل نساء أسوأ منهنّ “.

كان كلارك المولود في إدنبره – إنكلترا، قد وصل قبل عامين إلى أستراليا، على متن الأسطول الأوّل الذي حمل المنفيّين من بريطانيا. ولم يكن هو منفيّاً، بل كان في عداد مشاة البحريّة المرافقين للمدانين.

كانت لفظة “عاهرات” الثقيلة على السمع، والمستهجنة في عصرنا هذا، من اليوميّات المكرّرة في لغة المستوطنين الأوائل، فغالبيّة النساء اللواتي نفتهنّ السلطات البريطانيّة إلى تيرا أوستراليس، إمّا مجرمات، أو بائعات هوى. فليس غريباً إذن أن يصفهنّ كلارك بأنّهنّ “أسوأ بعشرة آلاف مرّة من الرجال المدانين، وأخشى أن يكون لدينا الكثير من المتاعب معهنّ “.

وصل الأسطول الأوّل إلى خليج بوتاني، وعلى متنه مجموعة من التجّار ومشاة البحريّة والمسؤولين الحكوميّين ورؤوس الماشية، وحوالي ٧٧٥ مدانًا، هم ٥٨٢ رجلاً و ١٩٣ امرأة. ولكنّ ما لم ينتبه إليه كلارك، الذي رأى بعينيه قوافل السفن من جزيرة نورفولك، أنّ أولئك النساء، على الرغم من تاريخهنّ الإجراميّ في وطنهنّ الأمّ، سيصبحن الأمّهات للجيل القادم من البيض في القارّة النائية.

احتار القضاة في بريطانيا، وتساءلوا بجدّيّة عن المكان الذي يمكن أن يُرسلوا إليه المدانين بالجرائم. فالسجون مكتظّة، والنظام ينوء بالعدد الكبير من المساجين الخطيرين. وكانت بربادوس، وبرمودا، وفرجينيا وجامايكا، هي المحطّات الأكثر أهمّيّة لتفريغ هذا الكم الكبير ممّن يوصفون بالأشرار. لكنّ جامايكا رفضت استقبال المزيد منهم في عام ١٧١٧ ، فاتّجهت أنظار السلطات البريطانيّة إلى أمريكا، حيث تكون العقوبة النفي إليها لمدّة سبع سنوات، بحقّ المحكومين بسرقة أشياء يقلّ ثمنها عن شلن واحد. ومن الواضح أنّ سرقات بسيطة مثل هذه، تدلّ على مقدار الفقر الذي كان ينهش جسد الكثير من البريطانيّين في ذلك الزمان.

إنّه العام ١٧٧٥، أي العام الذي انفصلت فيه أميركا عن التاج الانكليزيّ، ورفضت بعد ذلك قبول المنفيّين. فكان من الضروريّ أن تزدحم السجون مرّة أخرى، وتَحشر المحاكم مئات المجرمين في سفن على نهر التايمز اللندنيّ.

“إنّه الجحيم”، قال أحد القضاة لزملائه… فماذا نفعل بهم؟

أجابه آخر: سمعت من دوائر الحكومة عن اكتشاف بلاد جديدة، إلى الجنوب من شرق آسيا. وقريباً سيصدر قرار بنقلهم إلى هناك، فنرتاح من هذا الكابوس الرهيب.

-ليسمع منك الربّ… لقد أرهقتنا الأحكام وتراكم المتّهمين باقتحام المنازل، وسرقة المتاجر، وأعمال السطو على الطرق…

-ليت الأمر يقف عند هذا الحدّ… لقد مثل أمامي الكثير من الأشرار، وبائعات الهوى، ونساء قتلن أزواجهنّ طعناً… وحكمت على امرأة قتلت طفلها بضربة فأس على رأسه، وأخرى قطعت حلق زوجها بسكّين…

أخيرًا، في عام ١٧٨٦، قرّرت بريطانيا شحن المحكوم عليهم إلى تيرا أوستراليس. وكان عدد النساء أقلّ بكثير من عدد الرجال. ومن تلك السفن التي نقلتهم إلى الأرض الجديدة “اللايدي جوليانا”، وكانت محمّلة بأكثر من ٢٠٠ امرأة، كثير منهنّ إمّا حوامل أو أنجبنَ في البحر.

على السفينة “اللايدي جوليانا”، كانت مجموعة من النساء يتحدّثن، وهنّ مرهقات من السفر الطويل في اليمّ الهادر.

إنّهنّ راتشيل تورنر البالغة من العمر ٢٩ عامًا، والمدانة بسرقة صاحب عملها، وآن وود البالغة من العمر ٢٣ عامًا، والتي سرقت ملابس رجل أثناء نومه، وماري واد البالغة من العمر ١١ عامًا فقط وقد ألقي القبض عليها لسرقة ملابس طفل آخر، وحُكم عليها بالإعدام، ولولا اكتشاف تيرا أستراليس وقرار النفي إليها، لكانت الطفلة ماري في تلك اللحظة في عداد الأموات.

كان يبدو على السيّدات تعب وغمّ، بيد أنّهنّ شكرنَ الله على أنّ الأحكام التي صدرت بحقّهنّ قد تحوّلت إلى النفي، فربّما في البلاد الجديدة سيجدنَ نوعاً من الحرّيّة التي افتقرنَ إليها عندما كنّ وراء القضبان.

كانت الطفلة ماري تحمل صحناً من الطعام، وبعض الخبز. نظرت إلى راتشيل وآن، وقالت بصوت مبحوح:

أمضيتُ تسعين يوماً في السجن. ولست أدري إذا كنت متوجّهة إلى سجن آخر… وإنّ أقسى ما أشعر به غيابي عن أهلي وأصحابي.

“حظّك من السماء”، أمطرتها آن بوابل من المشاعر المطمئنة… هل تنظرين إلى أولئك الرجال؟ إنّهم يترصّدون بنا… وهذه السفينة- الماخور العائم، هي أفضل مكان تلتهم فيه الذئاب فرائسها الضعيفة…

قالت راتشيل: دعك من ذلك، فالحديث عن مثل تلك المواضيع

ليس لائقاً أمام طفلة…

أنا طفلة؟

سألت ماري، كأنّ صوتها طالع من بئر عميقة. ثمّ أردفت:

كبرتُ قبل أواني… أليس هذا ما يظهر على ملامحي؟… وقد تُفاجئني الأيّام بمزيد من المتاعب، وليس لي أحد في البلاد الجديدة ليساعدني…

-نحن سنساعدك. اصبري وستجدين رجلاً يهتمّ بك عندما تكبربن قليلاً… وستكونين أصغر أمّ في تيرا أوستراليس…

كان رجل يدعى جون نيكول، وهو من طاقم السفينة، يقترب من النساء الثلاث، ويكتب على دفتر صغير يحمله. صاحت به آن:

ماذا تفعل؟ أجئت لكي تتجسّس علينا، وتسجّل ما نتحدّث به؟

-معاذ الله أن أفعل ذلك. إنّني أكتب فقط عمّا يحدث في السفينة، حيث أنّ الرجال يتّخذون زوجات لهم، ويقدّمون للمنفيّات الملابس والطعام… وأنا أيضاً اتّخذت لي امرأة اسمها سارة ويتلام… أعرفها منذ أسبوع أو أكثر قليلاً، وكنت سأتزوّجها على الفور، لو وجدنا كاهناً على السفينة…

رست “اللايدي جوليانا”، في ميناء بوتاني الصغير، ونزل منها الرجال والنساء إلى اليابسة، بعد نزاع طويل مع الأمواج والعواصف العاتية. وكان بعض المنفيّين قد عثروا للتوّ على خليلات لهم، فراتشيل تورنر تزوّجت من خبير بناء القوارب والقاضي توماس مور في عام ١٧٩٧. وعاشت ماري واد منذ عام ١٨٠٩، مع المدان جوناثان بروكر بالقرب من نهر هاوكسبري، حيث ربّت أسرة من ٢١ طفلاً، وحصل بروكر على عفو بعد عامين. وحصلت ماري على العفو بعده بعام واحد. ثمّ انتقلت الأسرة إلى نواحي كامبلتاون.

ولم يتزوّج جوناثان وماري إلاّ في عام ١٨١٧.

توفّى الزوج في العام ١٨٣٣. وتوفّت ماري في ولونغونغ في العام ١٨٥٩، عن عمر يناهز ٨٤ عامًا. وتُعتبر في التاريخ الأستراليّ الحديث أصغر الأمّهات لأستراليا البيضاء. ومن ذرّيتها رئيس الوزراء الأسترالي الأسبق كيفين راد.

***

 

محاولة اغتيال الحاكم

 

من الصعب جدّاً أن نتقصّى المشاهد الماضية، وكأنّها تقع الآن تحت أبصارنا. فالشهود الذين رحلوا هم فقط القادرون على إخبارنا بما حدث في ذلك الزمان، أوائل الأيّام التي نزل فيها المستوطنون البيض على سواحل تيرا أوستراليس.

ومهما كنّا بارعين في السرد، فلا بدّ أن تسقط سهواً، بعض الحقائق، أو لا يكون التاريخ قد سجّلها بدقّة. ومن تلك الحقائق ما يُروى عن ويليمرينغ الأبورجينيّ الشجاع الذي أقدم على طعن الحاكم الأوّل أرثر فيليب، طعنة نجلاء كادت أن تودي به.

ويليمرينغ هو طبيب من السكّان الأصليّين أو رجل ذكيّ من رجالهم، موطنه قبيلة “غاراغال” في بروكن باي، إلى الشمال من سيدني اليوم.

وليس أمراً غير مألوف أن يُعتبر هذا الرجل بطلًا في ثقافة الأبورجينيّين، ويرتبط اسمه بأوّل محاولة لقتل الحاكم أرثر فيليب.

كان الحاكم قد سعى إلى مراضاة الأبورجينيّ بينالونغ، وأسكنه في مستعمرة للبيض قرب الشاطئ. بيد أنّ بينالونغ فرّ من تلك الحالة التي وُضع فيها، وعاد إلى قومه في مانلي.

وأراد آرثر فيليب استرجاعه بعد أربعة أشهر من فراره.

اليوم الموعود للقاء هو 7 أيلول 1790، وكان جمع كبير من السكّان الأصليّين، ومعهم بينالونغ على شاطئ مانلي كوف، يقتاتون من حوت جرفته الأمواج إلى الشاطئ.

وأرسل بينالونغ بعضاً من ذلك اللحم كهديّة إلى الحاكم آرثر فيليب. وصادف أنّ فيليب نفسه كان موجوداً في منطقة قريبة، حيث يخطّط لبناء منارة ملاحيّة.

وعندما وصل عدد من السكّان الأصليّين إلى موقع المنارة، وقدّموا الهديّة إلى الحاكم، أبلغهم بأنّه يودّ مقابلة بينالونغ، ومضى من هناك إلى مانلي، مع رجال من أتباعه، على متن قارب صغير.

كان من رجال الحاكم القاضي دايفيد كولينز. وهذا الأخير رأى بأمّ العين ما حدث في مانلي كوف، ودوّنه ليكون عبرة للأجيال.

كتب كولينز: “كان المكان مليئًا بالسكّان الأصليين الذين تغريهم وليمة من بقايا حوت. وما إن وصل الجمع من البيض، وألقوا التحيّة، حتّى طوّقهم نفر من الرجال السمر المسلّحين، فانكفأ أرثر ورجاله إلى قاربهم الراسي في المياه الضحلة. وكان مع بينالونغ مواطن من قومه شجاع، فرفع بقدمه حربة كان ملقاة على العشب، وثبّتها في غمضة عين على عصا الرمي، وأطلقها باتّجاه الحاكم، فدخلت الحربة في كتفه، وخرج طرفها من ظهره”.

وما لم يذكره كولينز، هو أنّ فيليب التقى مع بينالونغ والجمع الأبورجينيّ، وقدّموا له الطعام والنبيذ. وطلب فيليب الحصول على حربة أعجبته كانت ملقاة على الأديم، فرفض بينالونغ طلبه، وبدلاً من ذلك وضع الحربة بالقرب من مكان وقوف ويلمرينغ. وبعد حوالي نصف ساعة من الاجتماع، تقدّم ويلمرينغ من دون سابق إنذار، وهو ممسك برمحه.

توجّس الحاكم من الموقف العدائيّ المحتمل، فحاول تهدئة الوضع، وألقى بسيفه على الأرض، وصاح:” ويري، ويري”. وكانت تلك اللفظة تعني في لغة السكّان الأصليّين “سيّئ، سيّئ”. فازداد اضطراب ويلمرينغ، فثبّت الحربة على رأس الرمح، وسدّدها.

“أسرعوا إلى المركب، فإنّ الحاكم ينزف بقوّة”. صرخ أحد البيض، وهو ينظر حوله بقلق، ويخشى على حياته من طعنة رمح أخرى تصيبه هو أيضاً. فقد كان الأبورجينيّون يرفعون رماحهم، ويتبعون خطى البيض إلى القارب، ويهذرون بلغتهم الغامضة.

كان البيض مرتبكين، وهم ينظرون إلى ثلاثة من الرجال السمر، يقفون بقامات ماردة على صخرة فوق مانلي كوف. وكانت تلك إشارة كافية على أنّ الأمور لم تهدأ بعد، ومن العسير الإبحار في القارب من دون خطر.

“إنّهم يلاحقوننا”، قال رجل بريطانيّ قصير القامة، وهو يعاين عدداً قليلاً من الرماح التي أطلقت باتّجاه قومه.

قال آخر: انكفئوا إلى البحر… واحرصوا أن يكون قائدنا بخير.

-نّه ينزف، والرمح ما زال عالقاً في كتفه، وهذا يبطئ سيره، ويعرقل هروبنا معاً.

-قطعْ الرمح… إقطعه… واترك الحربة وحدها عالقة في كتفه… هيّا إفعل ذلك، لكي نتمكّن من الوصول إلى القارب…

كان رجال إنكليز يطلقون نيران البنادق باتّجاه الأبورجينيّين، لتغطية الهروب، إلى أن تحقّق بلوغ القارب، فابتعد رويداً رويداً تحت ضباب الشاطئ.

انفعل بينالونغ ممّا حدث. والصحيح أنّه لم يكن يريد أذى للحاكم ورفاقه. وفي صباح اليوم التالي، توجّه مع زوجته بارانغارو إلى مساكن البيض، والتقى بالعديد من الضبّاط، وأعرب لهم عن أسفه لما حدث، وقال إنّه لم يكن يعلم بأنّ رفيقه سيقدم على العنف ويصيب الحاكم في كتفه. فطمأنه البيض بأنّ أرثر فيليب ليس في خطر، فوعد بزيارته في سيدني كوف.

يقول كولينز في مذكّراته إنّ بينالونغ حاول كثيراً إقناع البيض بأنّه ضرب ويلمرينغ، عقاباً له على اعتدائه.

استقبل الحاكم أرثر فيليب صديقه بينالونغ، وهو على فراشه يتعافى من الجرح العميق. كان الزائر جامداً، لا يدرك ماذا عليه أن يقول، فابتسم فيليب، وخاطبه بودّ:

لقد نجوت والحمد لله. ونجح الطبيب ويليام بالمين في انتزاع الحربة من كتفي… ولا تعتب عليّ أيّها الصديق المحبّ، فإنّ قراري صدر بملاحقة ويلمرينغ وتسليمه إلى البريطانيّين، حيث سيواجه محاكمة عادلة.

-صدّقني يا سيّدي. لقد تشاجرت معه، وضربته بما فيه الكفاية، وكاد أن يموت… إذا كنت تحبّني، فلا تعاقبه بالمزيد.

فكّر فيليب قليلاً، وابتسم مرّة أخرى، وقال:

إذا كنت تجد ذلك مناسباً، فليكن لك… سامحته من أجلك. وسأطلب من رجالي على الفور أن لا ينتقموا، أو يطلقوا النار على أحد من أهلك. فاذهب، واخبر جماعتك بما سمعته منّي، واعمل على أن تهدأ الخواطر.

كان رجال الحاكم يلقّمون بنادقهم، استعداداً للهجوم على العشيرة الأبورجينيّة في مانلي كوف. وعندما وصلتهم الأوامر المشدّدة من الحاكم أرثر فيليب بأن يمتنعوا عن أيّ ردّة فعل، امتعضوا، واتّهموا بينالونغ بأنّه كان وراء المؤامرة على الحاكم، وهو الذي اتّفق مع ويلمرينغ على محاولة قتل زعيمهم، انتقاماً منه، بعد أن “اختطفه” واتّخذه رهينة، وأسكنه مع البيض في المستعمرة.

ولم يُعرف أيّ شيء آخر عن ويلمرينغ بعد تلك الحادثة، سوى أنّه اختلف مع بينالونغ، أثناء تشييع زوجة هذا الأخير، بارانغارو، في عام 1791، ونجح بينالونغ في طعنه في فخذه.

 

اترك رد