بقلم: الأديب مازن ح. عبّود
أمسكت “كوكو” فنجان القهوة. ارتشفت منه الشيء القليل، قلبته على الصحن . وراحت تنتظر بفارغ الصبر وصول دورها كي تفك “إيفلين” لها ما تخبئه الأيام. فالمستقبل لغز، و”إيفلين” للمستقبل خير ترياق. فهي المرأة الأكثر نفوذاً في كل “كفرنسيان” ونواحيها.
وافت “كوكو” إليها محملة بالفجل وتساؤلات. كما قدمت إلى هناك “لولو” المتفرنجة، ومعها قالب حلوى يشبهها، كما كانت تشتهي أن يقال لها. فهي ما زالت تظنّ بأنها جميلة وصبية ومتألقة. وكل همها إخفاء عمرها. لذا قررت الاستقالة من وظيفتها قبل أن تبلغ السن التقاعدية بأيام، كي لا يقال إنها كبرت. بل كي يقال إنها استقالت لأسباب وطنية. فتشغل “كفرنسيان”، كما دوماً، باناقتها ومعشرها وأخبارها ولغتها المطعمة بتوابل أمريكية ولكنة فرنسية وكفرنسيانية وعصفورية. حتى قيل إنّ علماء الألسنية أضحوا يتتبعون ما تقول كي يضيفونه إلى اللغة، كما كانت تقول.
أمسكت “إيفلين” فنجان “كوكو” وقلّبته. فحذّرتها من انفجار طنجرة ضغط في المطبخ، كما من تسريب معلومات. ثمّ رصدت الفنجان بتأنٍ مجدداً. حركته كأنها تحرك الكوكب الحاوي للمسكونة. تطلعت فيه حتى دخل إلى عمق عينيها. درست كل جزيئة بن علقت. وتتبعتها حتى نهاية الحكاية. فخرائط البن العالق، تكشف الأسرار. ودخلت النسوة في صمت مهيب بانتظار خروج الكلمات. في زاوية منزلها قبع تلفاز ظهر فيه بطريرك روسيا وبطريرك إنطاكيا يحتفلان معاً. رمت نظرة إلى التلفاز. وصرخت : “مسكينان لا يعرفان شيئاً”! شدّقت فمها، وانطلقت العلكة تدور في جنباته ما بين الأضراس. وتابعت: “أما أنا فبلا”.
وكانت “لبيبة” حاضرة. فعصفت من جوفها غازات دفيئة وغير دفيئة تسببت باحترار في الغرفة. فاهتزّ المنزل الذي كانت النسوة يجلسن فيه. فرحنّ يرسمن إشارة الصليب على صدورهنّ، خوفاً. انبرت “إيفلين” ورمقتها قائلة: “الغمة المحشية ما عادت تناسبك يا امرأة”. فهدّأت من روعهنّ. سألت”لبيبة” أن تعطيها فنجانها كي تقرأه لها وتصرفها. فالغمام المحشية في الفناجين لا تطاق. حملت الفنجان. تطلعت فيه عميقاً. استجمعت أفكارها، وصرخت: “الله يستر. أرى شباباً جائعين إلى العذارى في “كفرجهل” المتاخمة لناحيتكم. شباب يتحولون إلى قنابل بلحظة لقضاء ليلة مع حورية أو كي تتم دعوتهم إلى وليمة. ألا فافتحن لهم غرف نومكن يا نساء. قدمن لهم الحنان كي تسلمن. وأمرت “إفلين” حاكم “كفرنسيان” أن ينزل عسكره إلى الشارع. والعسكر كان كناية عن ثلاثة عناصر. أحدهم طويل وثانيهم قصير وثالثهم بصير.
وأخيراً، اختتمت الجلسة بفنجان”لولو”. طلبت إليها أن تخسر وزناً. فالموسم موسم صوم. والصوم في عصرنا يعني “ريجيماً”، أي حمية للحفاظ على المحاسن. فالمهم أن لا يدشر الرجال. كما طلبت إليها أن تعلق حذاء مقلوباً على الشباك الموازي لجارتها كي يزول شرها.
وكان يتردد على “إيفلين” أيضاً كل من كان يريد عروساً أو عريساً طالبا مشورتها. فبيتها كان منزلا بوظائف عديدة وموقعه استراتيجياً. قيل إنّ مشاويرها كثرت إلى العالم الجديد مؤخراً. فعلى ما يبدو أنها أضحت تجني فلوساً كثيرة. إلا أنّ مصدر أموالها كان مجهولا. أضحت المرأة الأكثر نفوذا في”كفرنسيان” وكل نواحيها. حتى قيل إنّ تأثيرها المعنوي على الناس فاق بكثير تأثير الخوري وخوريته. أاشيع أنها أضحت معروفة في نيويورك وباريس وكل عواصم القرار.
راحت تأخذ مقاسات جميلات “كفرنسيان”. وقد ساعدها ابنها “نيكي” في استعمال “الماسورة”. رفدتهنّ بخبراتها في المشي والحكي والتبرج والجمال. أرادت لهنّ أن يتقدمن لمباريات الجمال، ويساعدن الأهل في كسب مصروفهنّ. فتصير “كفرنسيان” بلدة الجميلات أيضاً. لمَ لا والله يحب الجمال!! “إيفلين” كانت بدلا عن ضائع. والضياع كان ابن الفراغ. والفراغ أضحى من سمات عصر الحرية الفردية حتى الانتحار. تألم “برهوم” من ذلك كثيراً. إلا انّ وحش الحضارة كان كبيراً، أكبر من أن يغلبه إنسان. لم ييأس فقدره كان أن يواجهه في داخله وفي كل مكان.