بقلم: محمود حيدر (*)
صورة النقد الغربي لـ”حضارة الميديا” تبدو شديدة الأهمية، وإن كانت غير حاسمة لجهة استحضار الميراث الأخلاقي لأزمنة التنوير. مع ذلك، فإن الجدل المحتدم منذ عقدين حول إمبراطورية الصوت والصورة، يفتح من جديد على سؤال المعنى، وإعادة الاعتبار لأنساق القيم في مجتمعات ما بعد الحداثة. لكن هل يحول ذلك دون أن يظل المجتمع العالمي، وإلى مسافة زمنية غير محددة، رهينة الالتباس والمراوحة بين حقائقه وأوهامه؟
لمّا رأى المفكر الفرنسي سيرج لاتوش إلى الإعلام المعاصر، كجزء من شبكة العولمة التكنو – اقتصادية والثقافية التي تجتاح العالم اليوم، لم يكن في هذا يصدر حكم قيمة. فلقد بيَّن كم لتقنيات ما بعد الحداثة من قدرة على زعزعة نظام القيم، ومن توليد هائل لأزمات أخلاقية على بنية المجتمع الدولي برمته. ومن هنا – كما يقرر لاتوش – تبرز ضرورة وجود “قانون للسلوك الحسن”، يكون مؤسساً على أخلاقٍ عالمية في الحدّ الأدنى. لكن الجانب النظري لدى المفكر والناقد الفرنسي سوف يتخذ حيّزاً أكثر تحديداً، حين يركّز على السؤال حول ماهية الأخلاق. إلا أنه سرعان ما ينتبه إلى الطابع الفلسفي للسؤال ليستدرك فيقول: “وبما أنّي لست فيلسوفاً في الأساس، فلن نبحث في التعريفات المعقدة. ما يخصّنا،هو أمرٌ يتعلق بسؤال الخير والشر.
لكن بالتأكيد توجد غايات أخرى للنشاط الإنساني تستحق التظهير، مثل الحق والجميل، وأيضاً الشجاعة والشرف والتضحية بالنفس”. ولغياب الضوء الكاشف المحدَّد، يمضي كثيرون من مثقفي الغرب إلى البحث عن معيارٍ للخير العام، فيستعيدون المبدأ الأولي في القاعدة الأخلاقية الكانطية (نسبة إلى الفيلسوف إيمانويل كانط): تصرّف كما لو أنك تستطيع أن تجعل من مبدأ فعِلِك قاعدة كونية”. لذا يجب على المعيار الأخلاقي أن يخضع لهذا المعيار من الكونية.
ما الوجه الأخلاقي لمجتمع الإعلام في عالم القرن الحادي والعشرين؟.. وكيف تظهر عمليات التوظيف الإعلامي بوصفها عمليات إعادة صياغة شاملة للثقافات والمجتمعات العالمية برمتها؟
كلنا يتأمل ويرغب أن يتلقّى خطاباً يُنبِئُهُ بخبر سعيد، أو بمشهد يبتعث في داخله جمال العالم من حولـه، أو بحكمة تمنحه الأمان وراحة البال وتنزع من نفسه غشاوة القنوط والضجر والتشاؤم؛ إلا أن واحدنا لا يلبث حتى يرى العالم من حوله ممتلئاً بما لا أمل يرجى منه، أو بما لا رغبة له به.
كأن الخطاب “الإعلامي” – كما يلاحظ الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو -، بدل أن يكون هذا العنصر الشفاف أو المحايد الذي تكتسب فيه السياسة طابعاً سليماً، هو أحد المواقع التي تمارس فيها هذه المناطق بعض سلطتها الرهيبة بشكل أفضل. يبدو الخبر الذي ينطوي عليه ذلك الخطاب – في ظاهره – شيئاً بسيطاً، لكن أشكال المنع التي تلحقه تكشف مبكراً وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة والسلطة. وما المستغرب في ذلك ما دام الخطاب – ليس هو ما يُظهر أو يخفي الرغبة فقط – وإنما أيضاً هو موضوع الرغبة. وما دام الخطاب – والتاريخ ما فتئ يعلمنا ذلك – ليس هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة فقط ، لكنه هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها…
ما لا يُشك فيه أن التحولات التي تعصف بالنظام العالمي منذ نحو ثلاثة عقود تعطي الكلام على ماهية الخطاب الإعلامي وثورة التواصل بعداً أكثر تعيّناً وشمولاً. ولقد أثبت الإعلام بتقنياته الهائلة أنه دافع التحولات الكبرى في السياسة، والاقتصاد، والفكر، والفن، والثقافة. بل هو محورها ومحركها ومحرّضها. وعلى هذه الدلالة سيكون لـه ذاك “الجبروت” في تشكيل المعرفة، وتكوين الأفهام والقيم في المجتمعات الإنسانية.
عالمنا الحالي أو “العالم الما بعد حداثي” – كما تقرَّر توصيفات الفلسفة المعاصرة – هو الصورة المكثفة للتحولات التي عكستها مرآة الإعلام. فقد بدا هذا العالم، عالماً ملتبساً، وتحكمه فوضى لا حدود لها من المنافسات، والصراعات، من دون أن يستقر على سياق آمن. فبقدر ما جاءنا الزمن الجديد بحقائق لا يجوز التنكر لها، بقدر ما بثّ أوهاماً ينبغي التعامل معها بطرق تفكيراستثنائية. وغالب الظن أن يظل المجتمع العالمي، وإلى مسافة زمنية غير محددة، رهينة الالتباس والمراوحة بين حقائقه وأوهامه.
إيديولوجية الصوت والصورة
الحاصل اليوم أشبه بفضاء مفتوح على احتمالات قاسية ومثيرة للهلع؛ تتداخل فيه قيم الماضي بقيم الحاضر، وكذلك بما ترنو إليه تحيَّزات المصالح الكبرى من قيم مفترضة في المستقبل. ومن ضمن هذا الفضاء بالذات يحتل الإعلام المادة الأولى، والرئيسة في التعبير عن الفوضى واللاّيقين. وهنا ترتفع العلامات التي تشير إلى اهتزاز البناء الأخلاقي العالمي وبؤسه.
لقد جُعل العالم بالإعلام مدينة كونية تتواصل فيما بينها بعروة وثقى. وهذا يعني أن حشداً من المفاهيم التي انتظمت العلاقة بين المجتمعات البشرية باتت الآن في دوائر الشك. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يعد مفهوم السيادة، الذي شكّل العنوان الأظهر لمقولة الدولة الأمة على حاله، ولاسيما بعدما تحولت الدولة القومية المغلقة إلى دولة مستباحة بفعل الأسواق المشتركة، والشركات متعددة الجنسيات، وثورة الاتصالات، والإعلام والمعلوماتية. كذلك الامر بالنسبة إلى مفاهيم أخرى، كالعقلانية، والأخلاق، وحقوق الإنسان، والديمقراطية وحق الاختلاف..إلخ. فهذه مفاهيم، وطرائق معرفة، لم تعد على صفائها الاصطلاحي كما ظهرت عند نشأتها الأولى. بل غدت أقرب إلى محمولات ذهنية تتصف بالنسبية، وتزخر بتأويلات أخذت بناصيتها إلى مطارح معاكسة لمقاصدها الأصلية.
مع سطوة الأثير اللاَّمتناهي، ولسنا نجد في الصورة ما يعصم الإنسانية المعاصرة، من الاستسلام لجاذبية “اللغة العابرة للفضاءات”، لا يبدو أن المشكلة العالمية ستسكن عند هذا الحدّ؛ كما لو أن المجتمعات الباحثة عن المعنى سيكون مكتوباً عليها أن تمضي في أطوار تالية من المنازعات، وسيكون عليها خوض منافسات لا هوادة فيها، من أجل الحفاظ على الهوية، وحق امتلاك الحرية…
لو أخذنا مشهد السجال الغربي القلق لمقاربة الإشكالية، لتوفّر لنا حشدٌ وازنٌ من الرؤى والثوابت. فالإعلام لم يعد مجرد عامل من عوامل التغيير التي تسهم في قلب أو في تثبيت موازين القوى بين الدول، أو في تحقيق التوازن داخل المجتمعات. وإنما غدا العامل الرئيس الذي تتجلى فيه وبواسطته، العوامل التي تتأسس عليها الولادات الحضارية المستأنفة.
وما دمنا نقارب الإعلام في حدود الأخلاق، سيكون كلامنا جائزاً على ما نسميه بـ “إيديولوجية الصورة والصوت”. تلك التي شُكِّلت عناصرها عبر التلفزة، ثم تحولت إلى أداة سيطرة هائلة تستحوذ على العقول والأنفس. ثم تتجه، بما تتمتع به من جاذبية، لتقبض على أنظمة القيم وتديرها كما يُدار الإعلان السلعي.
من الملحوظات التي يوردها عدد من المشتغلين في الصناعة الإعلامية، أن المعلق والمراسل وشريط “الخبر العاجل” على سبيل التذكير، تحولوا إلى صنّاع للعقول والمشاعر، بل إلى مصدر طمأنينة حتى بالنسبة إلى المشاهد الذي تدور الأحداث في بلاده هو بالذات.. إلى درجة بات الجالسون أمام الشاشات الصغيرة بخشوع وترهُّب أشبه بمريدين لوعّاظ يرسمون لهم الحدود الفاصلة بين الخير والشر.
وإلى هذا، فقد أمست التلفزة معادلاً تكنولوجياً للإيديولوجيات الصارمة، التي تُظهر جاذبيتها وسحرها في صورة محمومة. إنها أشبه بتقنية أسطورية تستند إلى جماهير عريضة، تتكاثر كلما تطوّر سلطانها المعنوي. ولو أشرنا إلى العقل الذي يديرها، لوجدنا أننا إزاء ناظم إيديولوجي لـه استراتيجياته الثقافية، والفكرية، والأخلاقية.
كتمثيل لعمل هذا الناظم الإيديولوجي، لم يتورَّع أحد منتجي البرامج التلفزيونية الفرنسية عن البوح بطريقة إدارته للإنتاج، ليقول: «كلما كان مستوانا متدنياً ومادياً، جلبنا عدداً أكبر من المشاهدين. هكذا هي الحال. فهل من اللازم أن نلعب دور الأذكياء ضدّ المشاهدين؟ هم على الأقل لا يفكرون، فلنتوقف نحن عن لعب دور الوعّاظ». على هذا التمثيل لتقنيات الفاعل الإيديولوجي، تستهل أخلاقيات الاستحواذ رحلتها من دون نزاع. كل شيء في هذا الفضاء اللاّمتناهي ينبغي أن يهبط إلى دنيا التسليع، وقيم السوق. وهو يوظف لهذه الغاية كلّ ما يشجع على القبول، والإذعان، والطواعية، والامتثال. الأمر الذي أدّى إلى ظواهر ذات آثار مدمرة في وقائعها ومعطياتها، ليس على بلدان الجنوب فحسب، وإنما أيضاً وأساساً، على المجتمعات الغربية نفسها.
ذلك ما لفت إليه الفيلسوف الفرنسي الراحل روجيه غارودي، وهو يأوي في غربته المؤلمة في بداية التسعينيات. فقد بيّن أن فلسفة الإعلام في الغرب تنطوي على تحريض دائم وحاسم من أجل تجنيد المشاهدين بالإغراء، ودعوة إلى الغوغائية، وإلى الخمول الدائر تجاه رأي عام تتلاعب به الدعاية والإعلانات، وأدوات نقل الثقافة الجماهيرية. التلفزيون نفسه لا يقصّ حكاية التاريخ، ولكنه يصنعها بالتلاعب بها. بمعنى أنه يستسلم إلى انحرافات السوق، وإلى تهديم كل روح نقادة، وكل فكر يشعر بالمسؤولية.
المرارة التي أفصح عنها غارودي، وكثيرون غيره، حيال واقع الإعلام في مجتمعاتهم، مردها إلى استشعارهم أن الحضارة الغربية تنحو بسرعة مذهلة نحو الاضمحلال الأخلاقي. حتى أن منهم من وصف مستهل القرن الحادي والعشرين بأنه عودة متجدّدة لعصر فساد التاريخ وتدهوره، كما كان الأمر زمن انحطاط الرومان. وأن هذا التدهور الموسوم بهيمنة تقنية وعسكرية ساحقة، لا يحمل أي مشروع إنساني قادر على إعطاء معنى للتاريخ وللحياة.
*******
(*) مؤسسة الفكر العربي، نشرة افق
(*) باحث في الفلسفة، رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة- لبنان
كلام الصور
1- سيرج لاتوش
2- ميشيل فوكو
3- روجيه غارودي،