بقلم: د. هاجر خنفير
ما برح وضع النساء العربيات في مجتمعات تنشد التحديث والانفتاح على جميع الأصعدة وتتشبَّث بمنظومة العلاقات التقليدية بين الجنسين وضعًا مثيرًا للجدل وجديرًا بالتحليل والنقد. وينطبق هذا الوضع على ما وسمه الأستاذ عبد المجيد الشرفي بحالة الانتماء المتأزم، وهي أيضًا حالة الخطاب النسوي العربي انطلاقًا من منتصف القرن الماضي لاسيما بالنظر إلى سيل الاتهامات التي تُوجَّه للنسويات إمَّا بالتبعية للغرب وتفسخ الهوية أو بالاستكانة والتمجيدية الفجَّة للخطاب السائد.
ومهما كان نوع الحضور النسائي في المجتمعات العربية فإنه بات عرضة لهجمة مضادة يقودها الإعلام الدعوي، وهو إعلام يتبرقع المقدس من أجل بثِّ ثقافة كره النساء وإقصاء المرأة لتكون خارج مدار التاريخ. ذلك ما دفع الحركات النسوية اليوم إلى رفع نسق الاحتجاج والعمل على جوهرة ثقافة المواطنة والمساواة بين الجنسين. ولا مراء أنَّ هذا المسعى يحتاج إلى الفكر النسوي، وإن اختلفت مساراته ومرجعياته، حتى تكون لهذه الحركات أرضية معرفية كفيلة بمجابهة العتاد الثقافي الأصولي من جهة ورؤية دقيقة ومتعدِّدة الزوايا عن مختلف الأوضاع التي تعيشها النساء في المجتمعات العربية.
تلك بعض الدوافع الموضوعية التي جعلتني أتطرَّق إلى مجاهل هذا الخطاب النسوي العربي المعاصر مهتدية في ذلك بتوجيهات دقيقة من أستاذتي الفاضلة رجاء بن سلامة وذلك في نطاق إنجاز أطروحة الدكتوراه تحت عنوان إشكاليات الخطاب النسوي العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولئن تعدَّدت الدراسات المعنية بالخطابات النسوية العربية المعاصرة، فإننا ألفيناها أحادية الاهتمامات مركِّزة على إشكالية بعينها (الحجاب/المشاركة السياسية/الجنسانية…)، أو متخذة زاوية نسوية محدَّدة، أو هي دراسات مونوغرافية تتناول خطاب إحدى الباحثات بالتحليل والنقد. ونظرًا إلى ذلك تأكَّدت ضرورة السعي إلى المجازفة بتجاوز الرؤى المبتسرة ومحاولة لمِّ شتات صورة الخطاب النسوي العربي. وقد اقتضى الأمر انتخال مدونة البحث فكان التركيز على ثلاث نماذج تمثيلية لأبرز المنظورات الفكرية التي تميِّز هذا الخطابَ في هذه الحقبة وهنَّ نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي وهبة رؤوف عزت. وقد بنينا اختيارنا على معيارين:
– عمق الخطاب وثراؤه كما تشكل في الدراسات النقدية الغزيرة وخاصة في العقود الثلاث الأخيرة من القرن الماضي.
– تنوُّع الخلفيات العلمية المؤثرة في توجهات هذا الخطاب. فبين الطبيبة والباحثة الاجتماعية والمختصة في العلوم السياسية تتباين ملامح الفكر النسوي وإن توافقت الأهداف العامة.
إضافة إلى ذلك فقد مثَّل اختلاف الظروف الموضوعية الحافة بالمفكِّرات الثلاث عاملاً أساسيًا في تحديد توجهات الخطاب. فثقافة المرنيسي المغربية وواقع الحريم الذي نشأت فيه يطبع اهتماماتها بشكل مغاير عن تلك التجارب التي مرَّت بها السعداوي في حياتها الخاصة والعامة وكانت دافعًا محوريًا لبحوثها النسوية. أمَّا هبة عزت فتُعدُّ نموذجًا مختلفًا بانتمائها إلى الجيل التالي للمفكرتين السابقتين، وبين معاينتها لإفرازات الخطاب النسوي العربي في عتباته الأولى ومعايشتها لتنامي الحركات الأصولية المناوئة لدعوات تحرير المرأة تعيش الباحثة حالة مخاض فكري ممَّا يخوِّل للقارئ مواكبة توجُّهات الخطاب النسوي العربي.
وقد أفضى بنا تنوُّع هذه المنظورات الفكرية إلى طرح إشكالية أساسية تتمثل في تبيُّن مدى نجاح هذا الخطاب في التأسيس لقطيعة مع التصوُّر التقليدي للعلاقات بين الجنسين وتشكيله لحراك فعلي يقضُّ آليات السيطرة الذكورية. والحديث عن حدود فعالية هذا الخطاب يفرض الكشف عن مواطن الهشاشة والضعف التي تخلُّ بشروط إنتاج خطاب نسوي يشمل كلَّ القراءات، ذلك ما شرَّع لنا توظيف منهج تحليلي مقارني يقوم على توصيف خطاب الباحثات الثلاث وإبراز مرجعياته وأدواته النقدية.
ولإجراء هذه المقاربة كان النظر في بواعث الدينامية التي شهدها الخطاب النسوي العربي في النصف الثاني من القرن العشرين ضرورة معرفية، فلا مراء في فرادة تلك المرحلة الانتقالية التي شهدها الخطاب المتعلِّق بالمرأة من مجرَّد ركن من أركان الخطاب الإصلاحي في مشروع النهضة العربية إلى خطاب دفاعي عن المرأة وحقوقها بقلم المرأة. وقد تمخض عن هذه النقلة تحرُّر مسألة المرأة من الرؤية الانتفاعية التي وسمت فكر النهضة وتصعيد المطالب إلى المستوى الحقوقي، وذلك في تناغم مع الاتفاقيات الدولية والمواثيق العالمية التي نافحت عن المرأة في إطار مناهضتها لكافة أشكال التمييز والاستبداد المسلَّط على الإنسان.
غير أنَّ هذه المرحلة تميَّزت بتشظي الرؤى وزوايا النظر إلى حدِّ حديث بعضهم عن تناسب عدد المواقف النسوية مع عدد النساء. ويعود هذا التنوُّع إلى بروز تصوُّرين حديثين
– تمثُّل مفهوم ديناميكي لهوية الإنسان مفاده أنها متحوِّلة ومتفاعلة مع ما حولها في كلِّ لحظة فلا تخضع لمحدِّدات ثابتةِ أو معاييرَ راسخة.
– تباين مواقف المفكِّرات من علاقة الشريعة والقوانين الإسلامية بمنظومة حقوق الإنسان.
هكذا سعينا إلى إبراز مظاهر التمايز بين مواقف النسويات الثلاث من وجوه العلاقة بين الجنسين، وذلك بالوقوف على تصوُّراتهن لمسألتين رئيستين وحساستين تتعلَّق الأولى بقضية المساواة بين المرأة والرجل في الإسلام وذلك في الأسرة، أمَّا الثانية فمحورها الجسد الأنثوي المتجاسر على فكِّ قيوده رغم سطوة الرقابة. وبناء على نتائج البحث في هاتين القضيتين تجلت لنا ضرورة النظر في إشكاليات التنظير في الخطاب النسوي وأشكالِ تفاعله مع خطابات النفوذ سواء في ذلك الدينيةِ أو السياسية أو العرفية أو الحداثية، وهو ما أحالنا في نهاية هذه الدراسة إلى ضرورة سبر الصلة بين النسوية والحداثة.
ولقد شكَّلت رحلة البحث صورة عن ذلك السجال الدائر بين الفكر النسوي بما ينشده من ممكنات التغيير والتحرُّر والمشروعاتِ المجتمعية والسياسية المتنامية بما تهدف إليه من استنبات مظاهر التدين كآليات دفاع عن الدين والهوية. فخطورة هذه الخطابات على تناقضاتها وتباين مواقفها تتمثَّل في مساءلتها للشريعة التي تقف كأصل تشريعي للمراتبية الجنسية، ولئن تفاوتت في قدرتها على إثبات نجاعتها وتعاليها عن التنميط والاختزال فإنها تتقاطع في اتسامها بالشجاعة الفكرية والجرأة العلمية في تحليل ونقد ثوابتَ تخضع لسلطة الإجماع مثل أشكال الرقابة المفروضة على الجسد ودواعيها. ولذلك لا يمكن الحديث عن خطاب نهائي أو ثابت بل هو متشكِّل ومتغاير حسب تفاعله مع الوقائع الثقافية والاجتماعية التي تشهد تجاذبات وتناقضات مختلفة.
غير أن هذا الميسم الديناميكي للخطابات النسوية لم يلغ ما بينها من قواسم مشتركة وقد توصَّلت إلى الجمع بينها داخل زمرتين:
– أمَّا الأولى فهي جملة الرؤى التي تتوق إلى كسر المركزيات التي تؤسِّس المجتمع الذكوري مستنفرة نرجسية دفينة تدفعها إلى ضرب من انعكاس الخطاب الذكوري المنحاز، وفي هذا السياق يندرج وصف بعضهم لخطاب السعداوي بالمتعصِّب الانفعالي. كما تُصنَّف هذه المواقف في دائرة الخطابات الهدَّامة والتي تتعامل معها أغلب الاتجاهات النسوية الأخرى بحذر إن لم يكن بجفاء. غير أنَّ هذا الخطاب تميَّز بقدرته على رفع يد الشريعة الإسلامية عن قضية المرأة وتنزيلها في سياق تاريخي إنساني موسوم بالاستبداد الذكوري لا تمثِّل الشريعة فيه – نصًا وممارسة – سوى واحدة ِمن أدواته. إضافة إلى كونه خطابًا كاشفًا عن الشَّرخ العميق الذي يعانيه خطاب تحصين الهوية من مؤثرات الآخر ومرجعياته.
– وأمَّا الزمرة الثانية فتشمل أطيافًا نسوية تبدو للوهلة الأولى مختلفة لكن الجامع بينها يجعل التمايز منهجيًا أو عرضيًا. فاتفاقها في رسم خارطة بحث معرفي تنطلق من مصادر التشريع الأساسية لتعود إليها يخوِّل لنا الحديث عن نسوية إسلامية عربية – مع تحفظ هبة عزت على صفة نسوية – تذكِّرنا إلى حدٍّ بعيد بمشروع محمد عبده وقاسم أمين. ولئن لم تعمد هبة رؤوف عزت مثلاً في خطابها إلى الاستشهاد بمواقف هؤلاء المفكرين كما غاب ذكرهم عن الدراسات التاريخية لفاطمة المرنيسي فإن صدى مواقفهم يرتجع داخل تلك الرؤية التوفيقية بين دواعي تحرير المرأة وروح الشريعة الإسلامية مع إلحاح على إعلاء حقِّ الاجتهاد. وتقوم مهمَّة الاجتهاد على مبدأ الضرورة التي تفرضها التحولاتُ الاقتصادية والاجتماعيةُ والسياسية وعلى مبدأ المصلحة التي تحدِّدها المعاملات الدنيوية المتغيرة باستمرار.
وقد يرى بعضهم في هذه المعالجة الفكرية ضربًا من الترميق أو الاجترار الأجوف أو هي استراتيجية خطابية تروم كسب الشرعية في نطاق ثقافة ذكورية مهيمنة، ممَّا يوهن فيها المقدرة التواصلية مع الحراك النسائي. لكن تميُّز القراءة المجراة على المعرفة النقلية نقدًا وتحليلاً وتأويلاً من زاوية نظر نسوية جعلتها قراءة متميزة تقدحها رغبة في انتزاع سلطة التأويل للنص التأسيسي من القبضة الذكورية. وبقطع النظر عن مدى قدرة هذا المنظور على فرض تصوُّراته ولفت الانتباه إلى معرفة نسوية إسلامية عربية بعيدة عن تهمة التغريب والتكفير فإنه يعلن عن عملية تجذير لتيار نسوي إسلامي عرِف لبناتِه الأولى مع نسويات آسيويات أمريكيات مسلمات ويسعى لمجابهة موجة الفكر السَّلفي الوثوقي. ولكن أطروحاتِه تبقى أقل جرأة من تلك التي تطرحها أمينة ودود أو أسماء برلاس فلا حديث عن إمامة المرأة أو إلغاءِ عدَّة الطلاق أو فقه نسوي… بل الأهمُ هو المطالبة بحقوق المرأة في إطار متناغم مع المنظومة الثقافية السائدة حفاظًا على الهوية وخوفًا من شبح ما تدعوه هبة عزت بسيولة الهوية.
بيد أنَّ ما اطلعنا عليه من مواقفَ ورؤى يبقى في نظرنا دون طموحات المرأة التي تروم موقعًا جوهريًا داخل مجتمع مازال ينشد بدوره المدنيةَ بناء على مفهوم مواطنة أفراده. ويعود ذلك إلى تعدد الرؤى وتباين الأهداف والوقوع في مأزق الذاتية حينًا والتعصُّب الهووي أحيانًا أخرى ممَّا جعل الخطاب النسوي في منأى عن مدارات الاهتمام التي تشغل المرأة في الواقع. كما أن حرص الخطابات الرسمية على مصادرة هذه الخطابات وعزلها في دائرة النخبة أفضى إلى قصور الأغلبية عن معرفته وتمثُّله.
لكن نخبوية الخطاب لا تنسف الإمكانيات الثقافية التي يفرزها وذلك بتشكيل وتعميق “دوائر الخوف” على حدِّ تعبير نصر حامد أبو زيد، وهي تلك التي طفقت تهدِّد المركزية الذكورية فترجُّها ولو بوتيرة متفاوتة القوَّة فتنفضح آياتها عبر فنِّ الفتاوى والإعلام الدعوي. ولئن كانت الوظيفة التواصلية التي تلعبها هذه القنوات الخطابية المنبعثة من تحت الرماد أقوى وأبلغ تأثيرًا في نفوس العامَّة فهي المرآة التي يمكن أن تعكس الخطاب النسوي المُصادر أو المشوه أو المهمَّش.