وجه بطريرك إنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي رسالة الصوم الاربعيني المقدس وجاء فيها: “أيها الإخوة والأبناء الروحيون الأعزاء، يا من قوتهم بالرب تعالى ورجاؤهم به يقوي رجاءنا، تأتينا هذه الأيام الخلاصية التي تقود خطانا إلى درب صليب المسيح وفجر قيامته وقيامتنا، تأتينا حاملة لنا رجاء يسوع وعزاءه الإلهي لإنسانه الحبيب الذي من أجله تنازل من عليائه وتجسد في حشا البتول وخضع لشريعة البشر واقتفى درب الصليب طوعا لينهض من بين الأموات ويكون باكورة لنهوضنا من وهاد شقائنا ومن ضيقنا الأرضي.
آثر يسوع درب الصليب وتجرع كأس الموت ليقول لنا وببساطة: إن ضيق الأيام لا يحجب الأمل بالنور، وإن غبار التجربة القاسية ليس له أن يحجب سطيع القيامة. توافينا هذه الأيام الخلاصية، أيام الصيام الأربعيني، وقد ودعنا إخوة لنا وآباء وأمهات على رجاء لقائهم في نور وجه يسوع. خطفهم منا موت فجائي وموت قسري، بحسب منطق هذا الدهر. تأتينا هذه الأيام ولنا إخوة وأخوات مخطوفون، ومنهم مطارنة وكهنة ورهبان وراهبات وأحبة وبنون، يدفعون ضريبة قساوة هذه الأيام.
نحن لن نعيد من دونهم ولن يهنأ لنا بال ولم ولن نوفر جهداً لعودتهم سالمين، والأيام الحاضرة على قساوتها، يا إخوتي، تقوي فينا روح التعزية وتنمي روح الإحساس بالغير. الصوم يا أحبتي يقوم على ركيزة المحبة ويتقوى برداء الصدقة ويكتمل بخميرة الطهارة والعفة. الصوم والرحمة صنوان لا يفترقان. الصوم والرحمة والصدقة والطهارة مع افتقاد الأخ القريب والمحتاج هي جداول تقود إلى مصب واحد يعبد السبيل لولوج دار الرحمة الربانية ولاقتناء الرب صديقا. ولنا في هذا المضمار في كلمات أحد آباء الكنيسة، بطرس الخريسولوغوس (الذهبي القول)، خير ما يصف ركائز الصيام وكينونته: يا إخوة، إن الصيام الذي لا يغتذي من زاد المحبة لجائع، والصوم الذي لا يرتوي من مشروب الرحمة لظمآن، والرحمة بالنسبة للصيام هي كالربيع بالنسبة للأرض. فكما أن النسيم الربيعي العليل يودي بالبراعم إلى الإزهار، كذلك تنمي الرحمة حتى الإزهار بذور الصيام. وما يمثله الزيت بالنسبة للمصباح، هو إياه ما تمثله المحبة بالنسبة للصيام، فكما يشعل دهن الزيت ضوء المصباح. كذلك تفعل المحبة في الصيام إذ تجعله يشع مشرقا.وما تمثله الشمس بالنسبة للنهار، تمثله الصدقة بالنسبة للصيام. وكما أن بهاء الشمس يجعل النهار أكثر إشراقا ويبدد دجى الظلمات، هكذا تقدس الصدقة قدس مقادس الصيام وبنور المحبة تمحو تماما الموت في الرغائب.
نحن مدعوون إلى أن نشد أواصر الوحدة في كنيستنا الأنطاكية الأرثوذكسية. نحن في كنيسة أنطاكية مؤتمنون على لقب “مسيحيين” لفظا وأفعالا. دعي تلاميذ يسوع في أرضنا مسيحيين أولا، ونحن، في كنيستنا الأنطاكية الأرثوذكسية، مدعوون بمحبتنا لبعضنا وبوحدة قلوبنا أن نشهد ليسوع المسيح في عالم اليوم الذي تتآكله المصالح. “أنظروا كيف يحبون بعضهم بعضا” (ترتليانوس، دفاع 39: 7). لم يجد ترتليانوس أحلى من هذه الكلمات ليضعها في خطابه الدفاعي عن القيم المسيحية وعن السالكين بها. هذا يعني أننا بمحبتنا لبعضنا البعض وبرفضنا منطق التشهير نحفظ أنفسنا شهودا للسيد المسيح في عالمنا.
كنيسة المسيح لا تعرف أفرقة ولا تيارات ولا خصومات، بل تعرف غيرة للرب، غيرة تأكل القلوب، ولا تأكل صفحات التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال تشهيرا ووعيدا ونقضا. نحن مدعوون يا إخوتي بمنطق المحبة وبأخلاق الإنجيل وبالقنوات الكنسية أن نحل كل ما يعترض مسيرتنا على هذه الفانية وأن نجلو إنساننا الداخلي ونعظه قبل أن نعظ الغير.أيها الإله العطوف يا من من أجلنا سكن في حشا البتول، وحل في مذود وضيع، واحتمل ضيق الناس، وارتضى الآلام الخلاصية طوعا من أجل خلاصنا، وسكن اللحد وفيه ألحد الخطيئة المهيمنة على طينتنا. افتقدنا في مسيرة صيامنا هذه وكللها بسطيع النور البازغ من قبرك المحيي، ورسخ في قلوبنا وفي قلوب الجميع أن حجر القبر وإن كان ثقيلا، إلا أنه لم يصمد أمام نور القيامة. وفقه القاصي والداني أن مسيحيي هذه الديار علقوا أجراسهم من غابر الأيام رغم قساوة بعض الأزمنة. وهذه الأجراس ستغرد صوت محبة المسيح لكل الناس وستعزف لحن انغراس أترابه في هذه الأرض وانفتاحهم على الكل رغم وحولة التاريخ.
أعطنا يارب روح سلامك، وخفف بآلامك آلام محبيك، وافتقد ديارنا برونق حضورك، كن مع المخطوفين والمهجرين ورافق المسافرين وبارك بنينا في بلاد الانتشار. كن يا الله مع المحتاجين وقونا لنمسح بكلمة عزائك وبفعل الرحمة قلوب أبنائنا، وضم إلى صدرك الدافئ قلوب الراقدين، وتوج مسيرة صيامنا بمرآة القيامة المجيدة، تبارك اسمك إلى الأبد، آمين”.