بقلم: د. جورج طراد
مع أنّ صديقي إيلي مارون خليل صنّف عمله الّذي بين أيدينا على أنّه رواية وحسب، فأنا أرى إليه أبعد من التّصنيفات الأكاديميّة المدرسيّة التّقليديّة. لذلك، ومن دون أيّة مقدّمات تفسيريّة، ستكون مقاربتي لهذا العمل، ثلاثيّة المستويات، وإن اندرجت، جميعا، في جلباب العمل الرّوائيّ ،كما أراد المؤلّف.
من هنا لابدّ من كلمة، ولو سريعة في الأساس الرّوائيّ للعمل. فإيلي مارون خليل،كما أثبت ذلك في السّابق، متمكّن من الفنّ الرّوائيّ، كما يراه هو، بعيدا من التّعقيدات والتّراكيب البنائيّة الّتي تفتعل السّياق وتحوّل السّرد رياضة ذهنيّة تتطلّب كدّا من الكاتب وتسبّب إجهادا للقارىء. إيلي مارون خليل، في روايته الرّاهنة كما في سابقاتها، لاسيّما “عنكبوت الذّاكرة والزّمن” و “زهرة المدى المكسور “، يسرد كمَن ينساب ، بسلاسة جذّابة وجاذبة، ويظلّ مسيطرا على زمن السّرد مهما تكثّفت الأحداث وتداخلت . أمّا أبطاله، وهم في معظمهم طالعون من بيئتنا ومن شوارعنا والبيوت، فتراهم على قلمه يتحرّكون، أحياء يُرزقون، يتصرّفون بشكل منطقيّ متدرّج، كما في الحياة اليوميّة، ولا يبارحون الكاركتيرات الّتي صاغهم ضمنها الكاتب، حتّى ولو تشابكت خيوط السّرد باتّجاه العقدة والتّأزيم.
إشارة أخيرة في هذا السّياق تتعلّق بميل الكاتب إيلي مارون خليل إلى جعل الرّاوي يكون ايضا البطل، أو أحد الأبطال على الأقلّ، وهذا ما يؤدّي غالبا إلى كثافة ضمير المتكلّم ومساواته تقريبا بضمير الغائب الّذي كانت الرّوايات الكلاسيكيّة، في الأساس، تُبنى عليه وتتمحور حوله. وإثبات ذلك ليس في حاجة إلى كبير اجتهاد في الرّواية الّتي بين أيدينا الآن. يكفي أنّ الكلمة الأولى فيها هي ضمير المتكلّم المنفصل ” أنا” (المفرد) (ص .7)، وأنّ الكلمة الأخيرة فيها هي ضمير المتكلّم المستتر الكامن في “ونحلُم” (الجمع ) (ص.225) .
لن أُطيل عليكم في هذا الجانب التّقنيّ الرّوائيّ، ليس فقط تلافيا لكلّ تكرار ممكن لما كتبته الزّميلتان، ولكن كذلك استعجالا للوصول إلى المستويات الثّلاثة الّتي وعدتكم بها منذ البداية، وهي المفكّر والشّاعر والّلغويّ في تجربة إيلي مارون خليل في هذه الرّواية.
لا شكّ في أنّ الكاتب بثّ في جنبات نصّه الّذي أمامنا مواقف فكريّة، بعضها إشكاليّ دائم، وبعضها الآخر يحتاج إلى طويل تأمّل لحلحلة شيء من مضامينه المكتنزة.
فمنذ الصّفحة الأولى، ومن دون أيّة مقدّمات، يفاجئنا إيلي مارون خليل بما أطلق عليه عنوان “مشاغبات”. فإذا بها تأمّلات مكتنزة متراصّة تصدر عن فكر مجرّب بعمق نظريّا وفعليّا يطرح تجربته أسئلة – تساؤلات. هو لا ينتظر الأجوبة – وربّما هو لا يريدها – يكفيه، ويكفينا أيضا، طرح الأسئلة “انّها قوّتنا الوحيدة ” كما قال الشّاعر يوما. من هذه “المشاغبات ” ( ص.5 ):
– الجسد عازف، الجسد كمان…
– إنّ في الواقع ترابَ الذّاكرة…
– الحبُّ كآبة تمحوها كآبة تمحوها كآبة تمحوها كآ…
من شرفة التّأمّلات الّتي يستهلّ بها إيلي مارون خليل، تندلع حرائق فكريّة يتلذّذ الكاتب بإشعالها بين الحين والآخر لتُضيء نصّه بدفء تحريضيّ جميل. هو يطرح نتيجة تأمُّله في موضوع ما تاركا للتّفاعل أن يفعل فعله، إن استطاع، من دون أن يفرض رأيه أو يقود إليه. مثلآ “فأن تستقرّ على رأي، هو أن تبعد الشّكّ ، ألتّأمّل، التّفكير، من رأسك”(ص.13). أو “الّليل قد يكون دهان النّهار” (ص. 22) أو “الحبّ شمس العالم. شمسي في قلبي” (ص.79) أو “حوار الخيال أجدى ، أحيانا، من حوار الشّفاه، وأكثر مِتعة ، وأبعد مدى” (ص.124) أو ” حركة الباطن حنين إلى الانعتاق والتّحرّر” (ص.160) وغيرها الكثير.
لكنّ هذا لا يعني أبدا أنّ إيلي مارون خليل يسترسل في افتعال الحكمة والتّأمُّل، وإلاّ تحوّلت روايته عظة مملّة منفِّرَة، وهي ليست هكذا على الإطلاق، وإنّما هي، كما سبق وأشرنا، جاذبة جذّابة. وأعتقد أنّ السّرّ في نجاح إيلي بالجمع بين التّأمّلات والفنّ الرّوائيّ يكمن في توليفة فنّيّة مدروسة بحِرَفيّة عالية قوامها “تهوئة” التّأمّلات، بمعنى أنّه لا يلجأ إلى تكديسها تكديسا مرهِقا للنّصّ وللقارئ، وإنّما يترك لها مجالا لتتنفّس وتنموَ وتتفّتح فتفعلَ فعلها الفنّيّ الإيجابيّ لدى القارئ وتبتعد عن الوعظ الجافّ واستعراض العضلات الفكريّة المصطنعة. وقد نجح إيلي مارون خليل في ضبط المعايير ضبطا سحريّا يُشكَر عليه و.. يُحسَد!
وبالانتقال إلى المستوى الثّاني من المقاربة، وهو المستوى الشِّعريّ يطول الحديث ويتشعّب، لكنّني سأحصِره، توفيرا للوقت، قدْر المستطاع. فإيلي مارون خليل شاعر قبل أن يكون أيّ شيء آخر. ودليلي على هذا ليس الدّواوين الّتي تحمل توقيعه، وإنّما الماء الّذي يعجن به كتاباته جميعا، بما فيها تلك الّتي تتعلّق بالدّراسات والمقاربات النّقديّة والأكاديميّة المختلفة. وإشاراته في روايته “حياة تنسلّ بين ع وع ” الّتي بين أيدينا إلى شعراء وكتّاب رياديّين مثل المتنبّي والياس أبو شبكة والأخطل الصّغير ومخايل نعيْمة وفؤاد سليمان وأنطون قازان ونزار قبّاني وآخرين، إنّما هي بطاقة تعريف بشجرة العائلة الّتي يفاخر بالانتماء إليها والتّحدّر من أرومتها.
ليس هذا فحسب، وإنّما هناك، أيضا، إشارات كثيرة إلى اقتداره الشّعريّ، لاسيّما حين يوظّف معرفته بالشِّعريّة العميمة في الصّور الّتي يسوقها لخدمة روايته. أكتفي بمثل واحد كي لا أطيل. “الصّالون شبه مظلم. وحين أضاءت نوره، ظهر شاحبا، داكنا، يوحي بالأشياء، لا يُريها. قصيدة رمزيّة.”(ص.ص.43-44)
وغنيّ عن التّفصيل، هنا، الاستفاضة في التّلميحات الشِّعريّة الكثيرة الّتي يضمّنها نصّه النّثريّ. ومجرّد اقتطاف بعض النّماذج يكفي في هذه العجالة. مثل: “تهتف روحي لا شفتاي” ” (ص. 74 )، و”أليس كذلك يا …أنا؟ ” (ص. 88 ) و”صمت مظلم ، شديد الظّلام” (ص. 160 ) و”سألتْه عيناي أن يكمل ” (ص.163 ) وأخيرا “أن أضيع فيك ولا أهتدي! ويكون ضياعي،هذا، خلاصي الأكيد!” (ص.220 ) وغيرها الكثير من الشّطحات الشِّعريّة الّتي يجمّل إيلي مارون خليل نصّه بها. لاغرابة في هذا، فالرّجل شاعر، أوّلا ودائما، والشعر لا يتنافى والرّواية، شرط ضبط المعايير طبعا ، وإيلي سيّد من أسياد وضع الحدود الأدبيّة وضبط المعايير!
أمّا بالوصول إلى المستوى الثّالث في المقاربة، وهو بيت القصيد على ما أظنّ، فنلفى الكاتب أستاذا متمكّنا من أساتذة الّلغة،ليس اقتدارا وامتلاكا فحسب، وإنّما تطويعا وابتكارا وتفنّنا خصوصًا. وفي هذا دليل قاطع حاسم على أنّ الّلغة المبتَكَرة طوع بنان إيلي مارون خليل.
أسلوبيًّا، جُمَلُ الكاتبِ، في مواضعَ كثيرة، قصيرة حيّة نابضة تكاد تتحرك على إيقاعه . والنّماذج منتشرة في كلّ جنبات الكتاب، وإن كنّا نكتفي بالإشارة إلى نماذج لافتة منها في الصّفحات 9 و12 و80. وهو يؤسِّسُ على الوحدة المفردة، ثمّ يروح يزيدها بالتَّدرّج، كلمة كلمة. “كان منصور وحيدا. كان منصور فقيرا ووحيدا. كان منصور فقيرا ووحيدا ومهمَلا …إلاّ أنُّه يظلّ نظيفا. يظلّ بارز النّظافة.” (ص. 9 )
كذلك، هو يعتمد التَّواتُر المدروس صوتيّا ودلاليّا، بحيث يتمكّن من التّأثير في القارئ بطريقة تلقائيّة، ولو خفيّة. مثلا، هو يكرّر حرف العطف “أو” 6 مرّات، للأيحاء بالحالات جميعا، حين يقول :” أنوارها تشي بأشباح مَنْ يتنقّل في غرفها، بطيئا أو مُسْرِعا، عاشقا أو كارها، وفيّا أو خائنا، حرّا أو محازبا، وقورا أو زِمّيتا، مرتابا أو مريبا ” (ص34). كما أنّه يكرّر “لا ” النّافية 17 مرّة في أقلّ من صفحة واحدة. (ص.73 ) .ويعدّد الصّفات للموصوف الواحد 8 مرّات في جملة واحدة تَتَألف من 12 كلمة ” بلغ أنفي هواؤها، دافئا ، لزجا ، رطبا، مواربا، شهوانيّا، موحيا،كاشفا ، خافيا ، معا” (ص.34 ).
أمّا معادلة الحذف، عند إيلي مارون خليل، فمسألة أخرى تحتاج دراسة مستقلّة وتستحقّ. فهو، مثلا، يُدمن حذف أداة النّصب ” أن” بين فعلين مضارعين، ويكرّر فعلته هذه عشرات المرّات في نصّه :” تريدُ تقتلُ” (ص.10 ) ، ” تريد ُ تُشرقُ” (ص.13 )، “أردتُ أعاقب ُ” (ص.55) وغيرها الكثير. لكنّه، أحيانا، لا يحذف هذه الـ “أن”، مثل “يريدُ أن يأخذَني” (ص.15 )
الأزدواجيّة الحذفيّة نفسُها يمارسها مع الضّمير. يفعلُها حينا كما في “كأن كان ينتظرني” (ص.18)، وأحيانا لا كما في “كأنّه كان” (ص.19). ويصل به الأمر إلى حدود حذف الفعل، على طريقة أمين نخلة في بعض قوافي “دفتر الغزل”، مثل “قد يسخر وقد لا “(ص.27) و “أتصوّر أنّها لم” (ص.82).
وتطول أسلوبيّة الحذف أيضا الجارّ والمجرور، كما في “بمَنْ فيها وبما” (ص.33)، وما المكمّلة لكاف التّشبيه حين يقول: “أغمض عينيْه كعلى شوك” (ص 112). ويصل به هذا الأسلوب إلى حدّ حذف أسطر مفترضة تاركا فسحة إخراجيّة للانتقال من موضوع إلى آخر، كما في 54 و58.
هذا الحذف الفنّيّ الّذي لم يسبق لإيلي أن مارسه بهذه الكثافة في كتاباته الآنفة، أدّى وظيفة فنّيّة أسلوبيّة واضحة، حيث أضفى على النّصّ رشاقة ناجمة عن تخفيف الحمولة الّلفظيّة من جهة، وعن المضيّ مباشرة ومن دون إبطاء إلى الدّلالة المتوخّاة، من جهة ثانية.
يُضاف إلى كلّ هذا أسلوبيّة الدّمج والإدغام والنّحت ليكتسب أسلوب إيلي مارون خليل هُويّة خاصّة لا يشاركه فيها آخر. مثل “إلّمْ نلتقِ”( ص.16 )، “إلّمْ، فأصعد إلى “فاتنة الشُّرفة”( ص.185 )، “إلّمْ تعرفْ”(ص.209). أمّا قوله: “عدت قبل أن أهْلُمَّ ” (ص.33)، ردّا على مَنْ قال له: “هلمّ”، ففيه تمكّن من الّلعبة الّلغويّة ومقدرة على تحريكها برشاقة لا تخلو من طرافة وروح دُعابة .
لن أُطيل أكثر. إنّها مَلَكة أُسلوبيّة نفتقد شبيهاتها كثيرا، بعد أن صارت كتاباتنا، في معظمها، نمطيّةَ الجفاف والجمود. لحسن الحظّ أنّ هناك، في هذا القحط المداهم، واحة اسمها إيلي مارون خليل.