منيرة مصباح
عند الكتابة عن أمور مبدئية علينا ان نحدد معاني العناوين الكبرى التي يتناولها العمل الإبداعي في الرواية ومضمون المفاهيم ومدلولاتها في العمل الروائي. فالرواية التي سأتناولها هنا رغم صغرها الا انها تجسِّد الواقع بكل تفاصيله المادية والروحية، بكل الركود والسكون رغم طوفان مشاعر الخيبة والقهر والمرارة والالم. ورغم كل هذا ومن وسطه تظهر قوة التغيير في مقاومة البنية الراكدة والثابتة، تظهر في اشراقة صغيرة في إصرار على مواجهة القمع بحرية تنبت رموزها في عقول الاحياء، هكذا رواية الدكتور رفعت السعيد التي تحمل عنوان “البصقة”، حيث يطالعنا بمحضر ضبط المتهم مدحت سلام مع كل ما يملك من أوراق ومذكرات تخصه للاستفادة منها في التحقيق الذي سيجرى معه. ومن ضمن هذه الأوراق قصة قصيرة لم تنشر بعنوان “حب وحب” وقد جاءت تلك القصة لتثبت إدانته فيما بعد. ان الرواية تحمل موقفا إنسانيا تجاه قضية مهمة وملحة ومنتشرة هي قضية معاملة السجناء السياسيين. وضمن هذه النواة للقصة تدور الأحداث الأخرى، والتي استطاع الكاتب من خلالها تصوير العواطف والأحاسيس الانسانية بشكل عميق وبدراسة نفسية لشخصيات الرواية.
يظهر بطل الرواية الدكتور سلاّم رجلا تقدميا يحمل فكرا مناصرا للقضايا الإنسانية في مجتمعه، لكنه مع ذلك لا ينتمي فعليا لأي تنظيم سياسي. لكن التزامه بهذه القضايا مع وعيه بالواقع ومع كيفية بناء المستقبل من خلال تجاوز هذا الواقع ومن خلال عمله في المجال الإعلامي ككاتب في إحدى الصحف اليومية. ولسوء حظه يقع مدحت سلام في أيدي رجال المباحث، حيث يتهم بانتمائه لتنظيم سياسي، واتهامه بوجود علاقة بينه وبين فتاة تدعى سناء تدافع عن قضية وطن، حيث رآها مرة في الجامعة أثناء إلقائه محاضرة ثقافية أدبية، فأعجب بآرائها وطريقتها في النقاش حول التزام الأديب بإبداعه وبما يحيط به من احداث، وكان هذا الاعجاب اعجابا عابرا. لكن هناك شيء آخر اعتمده المحققون في ادانة سلاّم، هو قصة قصيرة وجدت بين أوراقه التي أخذوها من بيته، حيث تطابق اسم الفتاة فيها باسم الفتاة التي التقاها في الندوة.
في رواية رفعت السعيد الفتاة تحلم بالعودة وتحمل حلمها في كل خطوة وفي كل مكان تذهب إليه حتى في لقاءاتها وفي صداقاتها. هي ترفض الزواج الذي سوف يعطلها عن مشروعها. تتداعى الذكريات فترى والدها ووالدتها، تشعر بالحنان الذي كانا يغدقانه عليها وهما يرددان الحكايات التي لا تنتهي عن قريتهما، وعن بساتين البرتقال التي كانا يملكانها. هكذا كانت سناء في القصة، كلما فُتح موضوع الزواج، يتراءى أمامها حلم العودة فتقول له:
” زواجي سيكون هناك حتما، أجمل الفتيات سيرقصن الدبكة، ووالدي سيرقص أيضا شاهرا سيفه الذي ما زال معلقا على حائط في بيتنا، لقد قضى حياته يحلم، وما أسوأ حياة انسان بلا حلم.” بهذه الكلمات كانت ترد كلما طُرح موضوع الزواج عليها، كانت تضع أمامها حلم أبيها في العودة، وتتساءل، لما لا تحقق له حلمه؟ كانت تشعر بأنها أصبحت مشكلة حقيقية بالنسبة للعائلة، لكن إحساس سلاّم يزداد ويتعمق أكثر لمساعدة الفتاة، حتى أصبح يشاركها ذلك الحلم، فمأساتهما. وحين يقول لها نقاوم معا ونموت معا كانت ترفض هذا المنطق، فهي تريد دائما التحدث عن العودة وحفل الزفاف، لا عن الموت. فالأمل هو الطريق الوحيد لتحقيق كل الاحلام. لذلك هي تقول:
“هل تعرف لماذا يستسلم البعض؟ لأنهم لم يجدوا في أعماقهم القدرة على الحلم وعلى الأمل “.
ونرى في فتاة الرواية تلك انها حلما مثاليا بالنسبة لسلّام يهدف للوصول إليه بكل ما تحمله من فكر وصدق ونقاء. يقول: أمضي حلما آخر مع سناء، عبق الريحان العميق يغمره، هي شيء غير مصنوع، إنها أنوثة من نوع خاص تحتويك في تأمل عميق وتحنان خال من أي افتعال.
أما المحقق، فهو يمثل القضية الأخرى للواقع المرير الذي يعيشه، هو رمز للعدو الشرس الذي يحاصره بكل ألم. يقول رفعت السعيد في الرواية: “الآن هو سيد الموقف، من الآن سيعيش في سلام، ولكن هل من سلام مع الغولة”. هذا هو بشكل عام ما تضمنته الرواية التي كتبها الراوي في هذه القصة والذي يدعى سلّام.
الكاتب رفعت السعيد في رواته يتعرض لنماذج من شخصيات مجتمعه السياسية والاجتماعية. ففي الجزء الثاني من الرواية، تظهر شخصيات جديدة، منها شخصية المحقق الذي يمثل أداة السلطة، حيث يشرح الكاتب حياته العائلية بالتفصيل، كما يظهر كيفية وصوله إلى هذا المركز نتيجة لتطلعاته الانتهازية. إنه يدوس على كل القيم والمبادئ حتى في زواجه، بدافع من محاولته مد جسر للعبور إلى قوته المستمدة من السلطة، ان فكرة الوصول إلى غايته تدفعه الى الارتباط والى تحقيق كل ما يريده، ومن خلال قيامه بتعذيب السجناء السياسيين، لكن هذا العمل ينعكس على حياته الأسرية والعائلية والاجتماعية وعلى علاقاته الإنسانية ان وجدت، لذلك يظهر ويتضح التناقض القائم في الواقع بينهما، ومدى تأثير كل منهما على الآخر.
في فصل آخر يحمل عنوان الغواصة نرى رسم دقيق لأعماق السجن الذي وضع فيه الدكتور سلّام والفتاة سناء. ويغوص الكاتب هنا في أعماق النفس البشرية، ليصور لنا حالة السجناء السياسيين ورحلة تفكيرهم. إن الزمن في الزنزانة هو صحراء ممتدة، لا فواصل ولا علامات مميزة، هكذا كان يفكر سلّام في زنزانته وهو يرى آثار من سبقوه اليها منقوشة على الجدران منذ زمن بعيد تصور الاحلام والآمال في البحث عن نقطة ضوء في عالم محكوم بأبعاده الاجتماعية والقمعية، قبل ان تأتي لحظته مع المحقق.
ان مواجهة سناء امام المحقق واصرارها وموقفها وتمسكها بحقها، حيث ظهرت رغم ضعفها الجسدي، أكثر قوة نفسية من الضابط بأضعاف. يقول رفعت السعيد:
” رأسها ثقيل، لم تشعر بألم، كل إرادتها تمسكت بالتراب لتحتمي به، قلبوها بالقوة، أحست بطرفها يتلامس مع بطنها، ضربات متتالية على رأسها، الدموع تنسج غلافا زجاجيا، كأنها تتأمل وطنها المصادر. لكن في النهاية تستجمع سناء كل ما بقي من قوتها لتقول: ” أنا لا أخجل منكم، أما أنتم فرجال”، وأنهت مشهد الاستجواب ببصقة أرسلتها مبللة بالدموع والتراب لترتطم بخد المحقق، لزجة ممددة تغطي سائر وجهه”. إن رواية الدكتور رفعت السعيد في موضوعها، قد استطاعت عامة أن تسجل بشكل دقيق كل ما يحدث في العالم داخل أقبية السجون، من خلال رواية صغيرة بحجمها كبيرة في موضوعها المتمثل بشخصيات السجناء السياسيين الذين يحملون هموم الوطن والانسان، من أجل تحقيق آمال وأحلام وغايات الكرامة والعدالة والحرية والتحرر.
***
دكتور رفعت السعيد: كاتب وروائي وناشط سياسي
مولود 1932 المنصورة – متوفي 2017 القاهرة مصر
دكتوراه في التاريخ من المانيا
نائب سابق في مجلس الشورى المصري