أحيت وزارة الثقافة بدعوة من وزيرها القاضي محمد وسام المرتضى الذكرى السنوية الأولى لرحيل المثقف المناضل سماح ادريس، في مقر المكتبة الوطنية، حيث أقيمت ندوة للمناسبة في حضور الوزير المرتضى وعائلة الراحل الى جانب أصدقاء ورفاق شاركوا ادريس في مسيرته وحشد من الشخصيات والفاعليات الثقافية والادبية والاعلامية.
إستهل اللقاء بالنشيد الوطني، وبعد كلمة ترحيبية من الإعلامي والكاتب روني الفا الذي ادار الندوة، كانت للوزير المرتضى كلمة قال فيها: “تعيدنا الذكرى السنوية لرحيل المثقف المناضل سماح إدريس، إلى عقود طويلة خلت، كانت فيها بيروت مصهر الأفكار ومنبعها، والساحة العربية الأولى للنقاش حول شؤون الوجود وشجونه، بسبب من فضاء الحرية الذي يسودها والغنى الثقافي الذي تحتضنه. وكان الراحل سهيل إدريس في وسط حلبة هذه النقاشات، عبر عمله الصحافي أولا، ثم نشاطه الأدبي الذي خاضه في مجلته “الآداب”، التي كانت صدى حال القوميين العرب. رايةٌ تسلمها من بعده، نجله سماح، فحافظ عليها وزاد فأوفى، كما يفعل الأبناء البررة بميراث آبائهم.
غير أنه من غير العدل أن ننسب الإرث الذي اكتنزه سماحٌ إلى والديه فقط. فإن كثيرا منه صنيعة جهاده الشخصي ونضاله الفكري من أجل الحقوق والعدالة الاجتماعية، وقضية فلسطين، وأزمات لبنان، وثقافة الوعي والمقاومة، وسواها من المبادئ الوطنية والقومية والإنسانية، التي لا قيام لمجتمع إن لم يحققها على أرض واقعه”.
وتابع المرتضى: “ميزة الراحل سماح إدريس أنه كان المؤمن والعامل في آن معا. عدته أقلامٌ وأوراق وحبرٌ يراق، وموقفٌ واضح النبرة لا مساومة فيه. إنه قدر الأحرار الذين يلتمسون غدهم وغد بلادهم، من قبضات الحق الذي لهم والقيم التي فيهم. وعلى هذا الأساس كانت مناهضته للتطبيع مع الكيان المغتصب، الذي نزل على بلادنا نكبات ونكسات فحولها المثقفون والمقاومون إلى انتصارات زاهية ستتوالى بإذن الله تعالى حتى تستعاد الأرض كل الأرض، والحقوق كل الحقوق.
سماح إدريس تحلى بشجاعة لا توصف، دفعته أثناء دراسته في الولايات المتحدة الأميركية عقر دار الصهيونية العالمية، إلى إقامة المؤتمرات والمظاهرات المنددة بالاحتلال والداعمة للقضية الفلسطينية، لا كمسألة خاصة بشعب احتلت أرضه وقتل أبناؤه وشردت أجياله وانتهكت مقدساته، بل كقضية تخص الإنسانية جمعاء، تجرح البشر أجمعين في عمق كينونتهم، حتى أصبح لا يرى معيارا للشعور الإنساني أرقى من الالتزام بقضية فلسطين”.
وأستطرد: “لقد قدر الله لسماح أن يحيا ليشهد انتصارات الحق على الباطل في لبنان وفلسطين، وأن يشهد أيضا نكبات وآلاما من هنا وهناك، على أكثر من صعيد، وفي أكثر من وطن عربي. لكن الإيمان بالعروبة الحضارية الذي اعتنقه، سيبقى المنارة التي تضيء الليل أمام أجيالنا الطالعة.
سماح إدريس، في ذكرى رحيله السنوية الأولى يهيب بنا أن نبقى متمسكين بكل مصادر قوتنا النفسية والمادية لمواجهة المستقبل. بدءا من التشديد على الوحدة الوطنية ونبذ كل أشكال الخلافات التي تقسم الشعب شعوبا، فإننا بمنزلة جسد واحد “إذا اشتكى منه عضوٌ تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى،” وإذا قوي منه عضوٌ اشتدت به سائر الأعضاء. تلك ثقافةٌ ينبغي لنا أن نتحلى بها ونقولها ونعيشها ليبقى لنا لبنان”.
وختم المرتضى قائلا: “سماح إدريس المثقف المناضل، الراسخ في الحق، الثابت على حب لبنان والعروبة وقضيتها الأم فلسطين. سلامٌ عليك حيث أنت، وثق إن حقنا لا بد منتصر”.
ساسين
وكانت مداخلة للمحامي والشاعر شوقي ساسين الذي قال: “إن سماح إدريس عقارٌ أدبيٌ، مساحته ستون عاما وبضع مئات من الأوراق، تحده فلسطين من جميع جهاته، ويملكه أطفالها على الشيوع، أحياؤهم والشهداء. في الصباح النازل من الكرمل باتجاه البحر، أو من صنين، لا فرق، تسعى إليه اللغة عن بكرة معاجمها، على صهوة هوى عربي مبين، فيقولها فكرا وانتماء ويكتبها حداثة متجذرة في التراث ونضالا مسكونا بالتراب. إنه الآن على مرمى سنة من عمر بيروت بعده، ممتلئا بما كان وكانت، يأتي بذكراه إلينا، فما عساه يقول؟
يهيأ لي يا سادتي أننا ههنا كي نسمعه، وهو يروي لنا تغريبة الحبر في الأرض؛ تلك التي تشظى قلمه قبل أن تكتمل، تماما كالوطنين الكبير والصغير، اللذين ما اكتملا بعد، وما برحت شظاياهما تجرح الحاضر وتفجر الآتي. أو كالإنسانية التي أمرها في يد الدنيا أمور. وإني لأكاد ألمحه يلقي علينا تحية المساء، ثم يبدأ خطابه فينا بالخيبة الأولى التي كمنت له خلف بوابة الجامعة، حين التحق بها لدراسة الاقتصاد، مشغوفا بالفكر الاشتراكي، فإذا أمامه دروسٌ في النظام الرأسمالي فقط. مذاك أدرك قدرة السياسة على توجيه المعرفة إلى حيث تشاء السياسة… حتى في الجامعات العريقة”.
وتابع: “على أن ناقدا أصيلا مثله مشبعا بالسؤال، لا يأخذ المعنى من سحنة على الحروف بادية، ولا من درس مادة في صف جامعي، فلا يلبث إذا أن يخبرنا كيف مضى ليقلب الأبجدية ألفا على ياء، باحثا في جذور الأفعال والأسماء عن معان أخر لوجوده المعرفي، فكانت فلسطين الفصل الأول من سفر عروبته الإنسانية، ولبنانيته المتفتحة، وكان المناضل لأجلها في كل خفقة يراعة ونبضة قلب، حتى ليستحيل ما بينه وبينها ترسيم حدود.
فإذا طوى الصفحة الأولى من خطابه دعتنا الثانية إلى أن نميط الكلام عن وجه طفل تتمرأى عليه المثل، مجروح بمفردات الحرب التي لم تبارح إلى الآن وجدان كثيرين؛ لا تلك العسكرية فقط، وما رافقها من ضياع أرض وناس، فإنها على مراراتها اللاذعة، أهون من الحروب التي كانت ولا تزال تشن أمام الناشئة على تراثنا العربي الثري، وعلى اللغة أداته العصماء، وترميهما بالصعوبة والتخلف والعجز وما إليها، وربما بأقلام قربى عقوق. ونسمعه يشرح لنا كيف أنه في منصرفه إلى الكتابة، جعل الطفولة مخاطبا، والعربية خطابا، لإيمانه بقدرة الاثنين على ابتكار الحياة الجديدة المشرقة. وكيف أصاب فأطرب حين عزف أدب الأطفال على مقام سيبويه، مطوعا مباني الألفاظ والتعابير بما يوافق أشياء الطفولة، مع ليونة أسلوب هنا، تعضدها من هناك بلاغةٌ منهجية تجلت في البحوث والدراسات التي وضع، من مثل كتابيه:”رئيف خوري وتراث العرب” و”المثقف العربي والسلطة”؛ مع حضور باذخ للتراث بكامل أناقته في هذين النوعين من أدبه على حد سواء”.
أضاف: “بالأمس استرجع الصديق الدكتور وليد عكر عبر صفحته على فايسبوك، نصا كان أرسله إليه سماحٌ قبل رحيله يقول فيه: “نحن شاطرون في انتقاد الانتهازي والفاسد والشرير الذي دمر المؤسسة. لكننا نتناسى أننا دعمناه طوال سنوات كي يبقى على رأسها. وفجأة حين سقط، وكان يجب أن يسقط منذ عقود، نستل خناجرنا ونبدأ بطعنه كأنه بقرةٌ هرمةٌ لم تعد صالحة للحلب. النقد المجدي هو أن ننقد أنفسنا لا البقرة وحدها. فنحن الذين علفناها حتى سمنت وتغولت، قبل أن تسقط صريعة الزمن. والحقيقة أن علينا كلنا أن نسقط معها، لأنها صنيعتنا”.
لن أعلق بأي حرف، بل أختم قائلا: سماح إدريس، هو الآن في قيلولة المعنى يمد بساط جملته ويغفو”.
أصدقاء من رام الله
وكانت كلمة لأصدقاء سماح ادريس من رام الله عبر تقنية السكايب ألقاها الدكتور معز كراجة.
وتخلل الندوة تحية موسيقية لذكرى الراحل من الفنان سامي حواط واغنية “بلادي لن ارحل “.
بيار ابي صعب
كذلك، كانت كلمة للاعلامي بيار ابي صعب خاطب فيها ادريس قائلا: “عزيزي سماح، لا تعتبر أني أتيت اليوم لأحيي ذكراك، وأكتفي باستعادة المبادئ التي ألهمت نضالك الطويل، هنا في «المكتبة الوطنية»، بين أهلك وعائلتك والأصدقاء، ومناضلي «حملة مقاطعة داعمي اسرائيل في لبنان»، رفيقات ورفاق المسيرة العسيرة والأيام الصعبة الجميلة، وعلى مرأى ومسمع من جمهورك الخفي المنتشر فوق رقعة الوطن المكسور، وعلى امتداد المنافي والسجون. لا تعتبر، أرجوك، أن ما يجري هنا الآن، هو احتفاء زائد، تكريمٌ أنت لا تطلبه ولا تحتاجه، إذ تفضل وحول المخيمات والدروب الوعرة، تفضل ميادين المواجهة، وحلقات النقاش الحامية، ومختبرات البحث والتفكير، ونهج الواقعية الثورية أو النقدية، في مكان ما بين أنطونيو غرامشي وإدوارد سعيد…
كلا، لا يمكن أن تكون «مناسبة» ثقافية واجتماعية، وحتى وجدانية، بين مناسبات أخرى، ونحن في عز المعركة. نحن هنا لنجدد العهد على الكفاح، بفضل كل من ساهم مشكورا بجمعنا تحت كنف هذا الصرح العريق. نحن هنا لنفكر بالمستقبل، لنستأنف النقاش والجدل في «الأغورا» التي لم تتقن العيش خارجها… هذه المرة برعاية كريمة من وزارة الثقافة اللبنانية (أنت لم تعتد على اهتمام المؤسسة الرسمية، أليس كذلك؟ ولم تكن تتوقع من أي وزارة عربية أن تحتفي بشخصيات إشكالية مثلك! فعلها معالي الوزير، القاضي محمد وسام المرتضى، فله تحية إكبار)”.
أضاف: “هل نحيي ذكراك، وأنت واقف أمامنا، تلفك الكوفية، كما في الزمن السعيد؟ واقف بيننا، بالعزيمة نفسها، والبصيرة نفسها، والعناد نفسه، والغضب نفسه، وشمولية الوعي التي تميز المناضلين الحقيقيين والمثقفين الكبار! أنت هنا، متمردا على الموت، نموذجا للمثقف المشتبك، أديبا وأكاديميا… ومحاربا! ابن البيت العريق، بيت سهيل إدريس وعايدة مطرجي، ابن الدار العريقة، دار الآداب، والمجلة العريقة مجلة الآداب… أنت هنا، كالعادة، بابتسامتك الحزينة، لا تخاف الإبحار عكس التيار، ولا تهمك حملات التجريح، ولا الطعنات الخسيسة، ولا محاولات الاستنزاف والحصار والاقصاء. أنت هنا، نراك ولا نراك، روحك على كفك، وقبضتك الأخرى مرفوعةٌ في الهواء”.
وتابع: “اعتبرها جلسة موسعة، في هذه الظروف المريرة. جلسةٌ من النوع الذي تألفه وتحبه، وقد أفنيت سنواتك في رحابه. أتينا لنعاهدك من جهة على مواصلة الطريق التي فتحتها، نفعل ذلك على وقع طلقات إبراهيم النابلسي وعدي التميمي والآخرين، ومن جهة أخرى أتينا لنواصل النقاش وطرح الأسئلة.
أتينا لنتبادل آخر الأخبار على جبهة التطبيع في بيروت. سمعت حتما بتلك الفضائية المحلية التي استقدمت داعية صهيونية من الكويت، لا تمتلك في بلدها أي حيثية أو تمثيل، لتبشرنا بأن لبنان راكبٌ، لا محالة، قطار «السلام»؟ سمعت طبعا بالمحاولة الفرنسية التي احبطها وزير الثقافة، لاستقدام الصهيوني باسكال بروكنير وآخرين إلى تظاهرة فرنكوفونية في لبنان؟ طبعا، بعد افشال عملية التسلل «البريئة»، أفلت «اعلام الديمقراطية والتنوير» من عقاله، ليدين «الظلاميين واعداء الفكر والثقافة والانتفاح»! عادي!
لقد عشت متقشفا ككل المناضلين! وأنا فهمت متأخرا عبستك الشهيرة التي لم تكن تتخلى عنها إلا عند تحقيق انجاز أو افحام مجادل. الأبطال والمناضلون، مهما كانوا محاطين بالأحبة والأخوة ورفاق السلاح، قريبين من الشعب مصدر الفرح والأمل والشرعية، يعيشون وحدهم في النهاية، ويواجهون مصائرهم بمفردهم، ويتعايشون مع عبء الأفكار والصراعات الداخلية والغضب الحميم. حتى القضايا القضائية التي حاصرتك، خضتها وحيدا ـــ من معركة «المدى» إلى معركة «بلاسيبو» ـــ وتحملت كل الأعباء والمشقات وحيدا. كل مرة كنت تنهض، وتواصل المسير. نعم، المال والمناصب والامتيازات للآخرين، الحياة السهلة للآخرين! لم يطلب منا أحدٌ شيئا، وبوسع أي منا الانسحاب متى أملى عليه ضميره ذلك، أو إذا غلبه الواقع. أما من يبقى، كما تبقى أنت ـــ وأظن أن نواة عظيمة باقية معك، صلبة ومتماسكة، توازي كل الاكثريات الافتراضية ـــ أما من يبقى، فليس أمامه سوى التضحية والقتال والابداع والاجتهاد والتجاوز”.
وأردف: “المناضل الصادق بطٌل تراجيدي حكما. وأنت لم تترك جبهة إلا وقاتلت فيها. لست مناضلا، بل كتيبةٌ من المناضلين: الأدب واللغة والهوية وأطفال المخيمات، ومواجهة الاستعمار، ومقاومة التطبيع، والابداع، والترجمة («صناعة الهولولكوست»، نورمان فنكلستين) والنقد («المثقف العربي والسلطة») والنشر («الآداب»، ثم «الآداب» التي صدرت من دونك لأول مرة، قبل أيام، بهدف استحضارك). لقد اعتنقت القضية الفلسطينية، ونشرت الفلسفة العلمانية، وعملت على تجديد الفكر القومي العربي. جسدت العلاقة العضوية والجدلية بين العمل الثقافي من جهة، والعمل الميداني، النضالي، من جهة أخرى: السياسة كفعل اشتباك، والكفاح المسلح، على خطى جورج حبش ووديع حداد! إمتشقت «مارتينة» غسان كنفاني وكمال خير بيك وباسل الاعرج التي يرسم بها الفدائيون والمجاهدون ملامح الوطن، وخريطة المستقبل. واستللت قلم الرصاص – المبضع الذي اجترح به صاحب «حنظلة» معنى للكرامة ـــ أو «سحر الكرامة» بحسب عنوان ملف شهير كرسته في «الآداب» لناجي العلي.
سماح، أنت من سلالة مهددة في أمتنا، تجسد التكامل الطبيعي بين الوطنية والعروبة والأممية، جامعة بين الوعي القومي والنهج اليساري. سلالةٌ محاصرة بالغوغائيات والأصوليات، ومهددة ـــ ولعله التهديد الأخطر ـــ بالزحف الليبرالي «المؤنجز» (من إنجي أوز يعني) الذي يعمل على قتل «العمل السياسي» وإخراج الجيل الجديد من السياسة إلى الاستعراض المغري والخطاب الأجوف. المشروع التقدمي، يا رفيق، مشروع التحرر الاجتماعي (العدالة والمساواة والتغيير، واستئصال السرطان الطائفي، والقضاء على ذهنية المحسوبيات والمحاصصة، ومواجهة الاستبداد، وشرعية التمثيل السياسي، والدولة المدنية…)، هذا المشروع، لا يكتمل ــ كما تعرف ــ من دون وعي حاد للصراع المصيري الذي تخوضه شعوبنا من أجل استعادة الحقوق، وامتلاك المستقبل.
ليتذكر كل مؤمن بالتغيير أن المعادلة لا تستقيم إلا في سياق الصراع الجيو ــ استراتيجي، أي بخوض معركة التحرر الوطني، ومواجهة التبعية، وتحرير فلسطين، كل فلسطين: هذه القضية التي وهبتها عمرك. واليوم يجب أن تبقى البوصلة فلسطين. أنت تعرف ذلك. أنت علمت ذلك لجيل كامل. أوصيتنا أننا «إذا تخلينا عن فلسطين، تخلينا عن أنفسنا». أيها المثقف المشتبك الذاهب إلى حيث المواجهة، أيها المثقف العضوي المنخرط بين أهله وناسه وشعبه… تعال نفكر معا كيف نخوض معركة الوعي؟ كيف، والديمقراطيات الاستعمارية تعمل على تعطيل البوصلة، وشطب القضية الفلسطينية؟ فما بالك بأنظمة الردة التي تتحكم برقابنا وأرزاقنا وإعلامنا؟”.
وختم: “نحنا هنا لنفكر معك. أنا هنا لأشحذ أفكاري، كعادتي كلما التقيتك أو قرأتك أو جادلتك، وتبادلنا التحليلات والتكتيكات. إن فلسطين لم تعد «على الموضة» في الخطاب الثقافي الرائج. الأدوات القديمة لم تعد تكفي يا سماح! لا أحد يمتلك الحلول السحرية طبعا. لكن ربما حان الوقت لنعيد النظر ببعض الأدوات. ببعض المسلمات لا الثوابت! لقد أورثتنا قسطك من الأسئلة الصعبة ومضيت: في زمن العصبيات والانعزاليات والثورات الملونة، كيف تبقى فلسطين البوصلة؟ كيف نخاطب سكان المناطق الرمادية؟ كيف نمد جسورا مع المزاج الشبابي الذي يتعرض لمحاولات احتواء فظيعة، من ماكينات الهيمنة الناعمة؟ كيف نخرج من الدائرة المحدودة للمقتنعين والمعتنقين؟ كيف نطور المواجهة مع مشاريع التطبيع، وخطاب «السلام» الذي ليس إلا تنازلا للقاتل والمحتل، عن التاريخ والجغرافيا والحقوق؟ على فكرة، ما أخبار «الحركة اللبنانية الفلسطينية» التي كانت آخر مشروع أخبرتني عنه: هذا الإطار المشترك، لمكافحة العنصرية ضد الفلسطينيين في لبنان، والنضال من أجل حقوقهم المدنية؟ وأخيرا، السؤال الشائك: كيف نطور تحالف قوى التغيير والتقدم واليسار والعروبة، مع المقاومة الاسلامية؟
صحيحٌ أن الاجماع الشعبي والفطرة الشعبية، كما نرى كل يوم في «مونديال قطر»، من خلال رد فعل الناس العاديين، العنيف أحيانا، على مراسلي اعلام العدو، ينضحان برفض مطلق لأي اعتراف بالمحتل، وأي أنسنة للقاتل. لكن العدو المهزوم عسكريا، يتقدم بسرعة، وقد اخترق الجسد العربي، بإمكانات خارقة، وبدعم كوني، وبهيمنة على كل الموارد، على جبهة الاقتصاد والمعرفة والاعلام والتجسس، وتقنيات التواصل والعالم الرقمي! نحن علينا أن نحطم الأصنام، ونكسر نطاق العصبيات الضيقة، لنواصل القتال.
في كل الأحوال، للحديث تتمة! الحرب ما زالت طويلة يا رفيق، والدرب شاقةٌ ومظلمة… وكلما احتجنا إليك، سنلتفت لنجدك بيننا ـــ ماذا أقول؟ لنجدك أمامنا ـــ مثابرا وعنيدا، في مواجهة الإحباط والاستسلام. إلى اللقاء”.