غادا فؤاد السمّان – بيروت
في الوقت الذي دخلت بيروت الظلمة من أوسع منشآتها، وزجّوا بها في زنزانة العزلة العربية بأبلغ قراراتها.. أخذ طلال أبوغزاله البادرة على عاتقه، فما إن خمدت مزاعم الصحّة العالمية بتصدير بياناتها المحمومة بخصوص الوباء “المفتعل” المسمّى “كوفيد 19 ” أو حسب التسمية الشائعة “الكورونا ” والذي عطّل كل أنواع الحركة الملاحية سواء البريّة أو الجويّة، وحتى البحريّة منها، لمدةٍ لا تقلّ عن عامين متتاليين، وما إن بدأت تدبّ العافية في أوصال المواصلات حتى استعاد طلال أبوغزاله بوصلة وِجهاته العربيّة والعالمية، فبدأ ببيروت في عزّ الصقيع وانخفاض مؤشّر درجات الحرارة إلى أدنى مستوياته، ورغم أننا جميعاً كنّا نرتجف وتصطك ركابنا من البرد القارس كان أبوغزاله يحاضر في قاعة المؤتمرات للحرم الجامعي اللبناني في بيروت بداية العام 2022 من الشهر الأول كانون الثاني في زيارة عاجلة كما العادة يومين لا يثلّثهما إلا في حالات الضرورة القصوى، مفضّلاً وضع برنامج مكثّف تكاد المواعيد فيه تتلاحم سطورها ببعضها البعض، على أن يتراخى ويترك الوقت للتداعي والكسل والأوقات المستقطعة..
أيضاً قرابة منتصف العام ذاته شهدت بيروت تحليق طلال أبوغزاله في فضاءاتها الرحيبة فهو لم يتأخّر عن دعوة محافظ مدينة الغازية اللبنانية لحضور فعّاليات ثقافيّة وتربويّة وهو الوفي للهفة الغازيّة القديمة، التي وَجَد فيها الإيواء والإحتواء من مختارها النبيل صديق والده المحبوب عند النزوح من يافا مدينته التي لا تزال تحتل ذاكرته رغم الاحتلال الطويل لبلده الحبيب فلسطين..
في الشهر الثامن من هذا العام أيضاً وأيضاً، طلال أبوغزاله لم يتوانَ عن تلبية دعوة وزارة الثقافة اللبنانية لافتتاح قاعة “طلال أبوغزاله ” في المكتبة الوطنية اللبنانية في منطقة “الصنائع ” هذا الصرح الحضاري التاريخي الشاهد الحيّ على ما مرّت به بيروت هذه المدينة العتيقة والدرّة الثمينة التي تتناهبها الأحداث كل حين، والدكتور طلال يعلم من شؤونها وشجونها الشيء الكثير.. ورغم أن آب شهر مستبد بحراراته لا يرحم في البلدان الداخلية البعيدة عن البحر، فإنّ سطوته وسلطته في المدن البحرية أكثر جرأة وحدّة وشراسة حيث يستنجد بالرطوبة الكثيفة، التي تجعل من الطقس حالة منفّرة ومقزّزة أحياناً، فكل شيء في آب ثقيل اعتباراً من الأوكسجين وانتهاءاً بالخطوة التي تصير فيه أثقل من الاحتمال، ومع ذلك طلال أبوغزاله كان حاضراً ومحاضراً لساعة ونصف الساعة في المكتبة الوطنية بحضور الكثير من وجوه الثقافة والفكر والإعلام والشخصيات الرسمية إلى جانب معالي وزير الثقافة اللبنانية القاضي محمد مرتضى الأنشط في تاريخ الوزارة والذي تولّى شخصيّاً تقديم الدكتور طلال أبوغزاله بكلمة موجزة معبّرة ومقتضبة يؤكّد فيها أنه هو المكرّم بوجود الدكتور طلال، أنه الضيف في حضرة صاحب المقام.. حين صعد الدكتور أبوغزاله إلى المنبر، بدأنا جميعاً نتفرّس من أي جيب سيستلّ كلمته، كانت القاعة بدون تكييف الأمر الذي جعل الجميع يلوّح بيده أو بكلّ ما فيها ليحرك الهواء الثقيل وإن قليلاً، ورغم الثياب الخفيفة التي تسترنا جميعاً، كان الدكتور طلال بكامل هندامه الجاكيت والكرافات والقميص بأكمامه الطويلة وياقته السمكيه والجو الخانق، وهو بظلّه الخفيف بدأ الكلام دون أيّة ورقة أو ملقّن عن يمينه أو يساره، بل ارتجال يستجرّ ارتجالاً، ما من كلمة تكررت أثناء السياق، وما من خطأ لغويّ فادح ارتكبه لسانه الطليق الذي يمتثل لذهنه المتّقد، وذاكرته الماسيّة الفذّة، كان يتمتّع بحماسة شيّقة، وحيويّة آسرة، وقدرة هائلة على التداعيات التي أدهشت الجميع، قرابة التسعين دقيقة على قدمٍ وساق لم يتململ خلال الوقت المذكور وإن لمرّة واحدة، بل كان يقف بثقةٍ وثبات وأريحيّة مذهلة، تململنا جميعاً وعلّقت المرأة عن يميني عن هذا الرجل القدير القويّ المتين، والمرأة عن يساري لم تصمت أيضاً، علّقت عن ذهنية الرجل الفياضة، وعن أفكاره الباهرة، هو الرجل الإيجابي في عزّ الملمّات، ولكنه في الختام كان صريحاً وكان واضحاً أن القادم لن يكون الأفضل، وكان يتخوّف من الأسوأ إذا لم ينتبه الإنسان لإنسانيته، ويسعى الصناعي لإعادة نظره فيما ترتكبه يمينه ومعها يسراه، كان خائفاً على البيئة وحذّر كل تحذير ممكن، علّه يجد آذاناً صاغية تنقذ ما يُمكن إنقاذه، ثم غادر القاعة برفقة الجميع، مستوعباً القاصي والداني معاً، مبتسماً كأبٍ حنون وكطفل وديع ابتسامته الآسرة التي يعشقها الجميع، كان يتصبّب عرقاً ويصغي لتعليقات الجموع ويمشي بخطىً وئيدة احتراماً لكل المواكبين ويبتسم، لم يصعد إلى سيارته قبل أن يراعي الجميع ويهتم بالجميع ويحتفي بكل المحتفين..
في ظهيرة اليوم الثاني من تلك الزيارة كان اللقاء في حرم جامعة الدكتور عبد الرحيم مراد LIU الجامعة الأشمل والأمثل على مستوى القطر، ورغم الصداقة الطويلة بين النبيلين د. أبوغزاله و د. مراد، إلّا أنني أفخر أنني كنت سبباً مباشراً بفتح باب التعاون بين الهَرَمين الشاهقين، وقد نجح مسعاي الأساس بعدما تسلّم زمامه مكتب بيروت ورتّب لكافّة التفاصيل التي جعلت زيارة الدكتور طلال واقعاً، والتوقيع ممكناً في هذه الظروف الإستثنائية الصعبة رغم كل الجمود الذي يعتري بيروت ومجمل مفاصلها العمليّة، ولم أخف غبطتي وسروري بهذا النجاح لأني أدين للمجموعة ورئيسها الأغلى بالشيء الكثير، فهو كالشهب دائماً يقطع دابر العتمة التي نظن في وقت من الأوقات أن لا خروج منها ولا فرار، ومرّة بعد مرّة يؤكد طلال أبوغزاله أنه هو لا سواه يمكن أن يكون على هذا القدر من الإيجابيّة التي تعمّ وتكبر وتنتشر وتتراكم وتعدي وتمنح وتؤسس وتبني وتواصل حتى يصير الدرب كله ساطعاً كروحه ومشرقاً كطباعه ومضيئاً كفكره وواضحاً كتطلعاته الشاهقه التي لا تعرف الفتور ولا تعترف بخيبة أو بانكسار.
***
خاصّ – إلّا –