(قِراءَةٌ في كِتابِ «عِبَرٌ مِن زَمَنٍ عَبَر» لِلأُستاذِ جُورج يُوسُف يَزبِك، الصَّادِرِ حَدِيثًا)
عَرَفتُكَ في الأَرقامِ سَيِّدَ ساحَةٍ
وهانِي أَراكَ، اليَومَ، في الحَرفِ سَيِّدا
جَمَعتَ نَواصِيها الرِّقاعَ، أَلَا ازدَهِي،
وَكُنْ في كِلَا الحالَينِ أَعلَى وجَيِّدا
بِذِي «العِبَرِ» اللَّاتِي جَمَعتَ سَرَرْتَنا،
إِلى أَخَواتٍ قُمْ، ودَبِّجْ مُجَلَّدا
أَلَا مِنْ شَذا الأَيَّامِ ما صُغْتَ، فَاندَرَتْ تَضُوعُ، مع الأَصباحِ، في الرِّيحِ والنَّدَى!
***
حِينَ يَرُودُ العَقلُ الرِّياضِيُّ الرَّاجِحُ رِياضَ الحَرفِ المُؤْنِقِ بِشَغَفٍ، وبِطَبْعِيَّةٍ خالِصَةٍ، فَالوِلْدَةُ ذَوُو جَمالٍ لا يُعْوِزُهُ المَنطِقُ السَّلِيمُ، ولا تَشُوبُهُ الهَلْوَسات…
مِن عاصِمَةِ الأُمَراءِ دَيْرِ القَمَرِ يَأتِينا، يَخُطُّ بِكِبْرٍ وشَفافِيَّةٍ كَلِمًا نَسْجُهُ المَحَبَّةُ، عَذْبًا كَمِياهِ «الشَّالُوطِ»(1) الَّتِي كَم نَهِلَ مِنها نَمِيرَها حَتَّى أَرْبَى على السَّبعِين.
جُورج يَزبِك
أُستاذٌ قَضَى عُمرًا مَدِيدًا في التَّعلِيمِ، فَكانَ مِلْءَ الأَفواهِ عَبِيرًا، أَنَّى التَقاهُ طَلَبَتُهُ فَهُتافُ شَوقٍ وامتِنانٍ، ومَتَى جَمَعَهُ والصَّحْبَ مَجْلِسٌ فَتَقدِيرٌ وإِعجاب.
زَمِيلٌ خَلُوقٌ هو، تَلِيقُ بِهِ الصَّداقَةُ، ويَرتَفِعُ عَن صَغائِرِ المُمارَسات.
مِن جَهابِذَةِ الرِّياضِيَّاتِ، تَشهَدُ لَهُ الأَلواحُ الخُضْرُ، «يَنامُ مِلْءَ جُفُونِهِ عن شَوارِدِها»(2)، ويَستَنبِطُ مِن كُنُوزِها الكَمِينَةِ ما خَفِيَ على الكَثِيرِين.
مُبدِعٌ فِيها، مُبادِرٌ، مُبتَكِرٌ، ما كَلَّ يَومًا في أَبحاثِهِ، فَانبَرَى لِمَعاضِلَ بَقِيَت مُغلَقَةً دُهُورًا، فَما قَصَّرَ، ولا عادَ «بِخُفَّيْ حُنَيْن»(3).
مَعرِفَتُهُ، في مَجالاتِ الأَرقامِ، فائِضَةٌ، ومَوهِبَتُهُ نَيِّرَةٌ، وتَطَلُّعُهُ يَتَجاوَزُ أَبعادًا مَعهُودَةً إِلى مَطارِحَ لا يَرتادُها زُمَلاءٌ اكتَفَوْا بِالتَّلقِينِ البارِدِ، والإِملاءِ البَلِيد…
***
باكُورَةُ دُخُولِهِ إِلى عالَمِ المَقالَةِ كِتابُهُ «عِبَرٌ مِن زَمَنٍ عَبَر»، الصَّادِرُ حَدِيثًا، يُنبِئُكَ عُنوانُهُ العَتَبَةُ بِطَوافِهِ في مَسِيرَةٍ طَوِيلَةٍ، كان يَجمَعُ، عَبْرَها، غِلالًا يَخزُنُها في كُواراتِهِ إِلى زَمَنٍ يَسمَحُ بِالتَّفَلُّتِ مِن مَشاغِلِ التَّدرِيسِ، والتِزاماتِ المَعاهِدِ المُضنِيَةِ، الَّتي تَقضِمُ العُمرَ، فَما يَدرِي الطَّائِفُ إِلَّا ونَذِيرُ الشَّيْبِ يَذُرُّ قَرْنَهُ في الذُّؤَاباتِ السُّودِ، ويُرخِي بِثِقَلِهِ على المَفاصِلِ المُتعَبَةِ مِن وَعَثِ الطَّرِيق.
وعِندَها… يَتَجَسَّدُ تَوْقُ النَّشْرِ سِفْرًا يَضُوعُ مِنهُ الفِكْرُ النَّيِّرُ، ويَبرُقُ المِدادُ القاتِمُ شُعاعًا يُنِيرُ بَعضَ الحَلَكِ المُخَيِّمِ في عُقُولٍ كَثِيرَة.
سِفْرُهُ هذا صُورَةٌ «بانُورامِيَّةٌ» مُتقَنَةُ الضَّوءِ والظِّلالِ، تَنسَحِبُ على مَجالٍ حَيَوِيٍّ دَرَجَ فِيهِ المُؤَلِّفُ، ومَحَطَّاتٍ كان له فِيها حُضُورٌ فاعِلٌ، ومَحافِلُ شارَكَ في نَشاطاتِها بِأَرْيَحِيَّةٍ يَشهَدُ لَهُ بِها عارِفُوه.
وفي ثَبَتِهِ المُدرَجِ نَتَأَمَّلُ بِرِحلَةٍ حافِلَةٍ بِالتَّعلِيمِ والأَنشِطَةِ الاجتِماعِيَّةِ المُتَنَوِّعَةِ، المُنداحَةِ على مَدًى واسِعٍ في المَناطِقِ والأَندِيَةِ والاجتِماعاتِ، والَّتِي غَصَّت بِالعَمَلِ المُكَثَّفِ الَّذِي يَستَهلِكُ السَّاعاتِ بِلا هَوادَةٍ، ومِنها نَتَثَبَّتُ مِن طاقَةِ هذا الفَذِّ على العَطاءِ، الَّذِي أَضحَى شِعارُهُ «إِنَّنِي أَرتاحُ في التَّعَبِ وأَتعَبُ في اللَّاعَمَلِ واللَّاإِنتاج» (ص 94)، وهُنا يَطفِرُ في ذاكِرَتِنا بَيْتُ أَبِي الفَتْحِ البَستِي: إذَا مَرَّ بِي يَومٌ وَلَم أَتَّخِذْ يَدًا وَلَم أَستَفِدْ عِلمًا فَما ذَاكَ مِن عُمرِي.
إِنَّهُ، حَقًّا، مِن ذَوِي العَزْمِ، والإِرادَةِ الصُّلبَةِ، والقَرارِ الرَّكِين.
صَدِيقَنا
نَحنُ مَعكَ الآنَ، نَنْعَمُ بِما أَتحَفتَنا، نَتَلَمَّظُ بِسائِغَها، ونَتَمَزَّزُ سُلافَةً عَتَّقْتَها، فَرَحِيقُها دُوارٌ في الحَواسِّ، وغِنًى في مَعرِفَةِ الحَياةِ وطُقُوسِها، وخِبْرَةٌ مُكتَسَبَةٌ في تَعارِيجِ الطِّباعِ البَشَرِيَّةِ، وسُلُوكِ الجَماعات.
***
يَقُولُ صاحِبُنا: «… تَلامِيذِي الَّذِينَ هُمُ المِرآةُ الَّتِي أَرَى فِيها نَفسِي…» (ص 7).
هي مِرآةٌ صافِيَةٌ كَفَجرٍ رَبِيعِيٍّ دافِئٍ، صَقَلَها ونِعْمَ ما صَقَلَ، فَماؤُها مِن مَعِينِ رُوحِهِ الصَّافِي، ورِفْدِهِ الَّذي ما حَمَلَ شائِبَةً في عُهُودِهِ الطِّوالِ مِن الكِفاح.
ثُمَّ، أَلَيسَ هو أُيضًا «تِلمِيذُ كُلِّ حِقَبِ العُمْرِ»، على حَِ تَعبِيرِ المُطرانِ جُورج خُضْر؟!
لَقَد رَمَى البِذارَ الصَّالِحَ، فَحَصَدَ السَّنابِلَ الذَّهَب. أَلَا رَحِمَ اللهُ مَن قال: «إِعرَفْ ما تَرمِيهِ تَعرِفْ ما تَجنِيه».
تَنِمُّ كِتابَتُهُ، وتَأَمُّلاتُهُ الاجتِماعِيَّةُ الفَلسَفِيَّةُ عَن مُفَكِّرٍ لا يُلقِي الكَلامَ على عَواهِنِهِ بُغْيَةَ تَسوِيدِ عَدَدٍ أَكبَرَ مِن الصَّفَحاتِ، بَل إِنَّ آراءَهُ هي نِتاجُ تَبَصُّرٍ عَمِيقٍ مَحكُومٍ بِمَنطِقٍ رِياضِيٍّ سَلِيمٍ مِن مُعَلِّمٍ عَلَمٍ ما خابَت سِهامُهُ في مَرْمًى.
ولَهُ نَظَراتٌ تَدعُو إِلى التَّوَقُّفِ مَلِيًّا أَمامَ أَبعادِها لِما تُثِيرُ مِنْ جَدَلٍ صِحِّيٍّ، وَلِتَحَسُّسِ كُنْهِها وقَدْرِ الصَّوابِ فِيها إِزاءَ الخَطَإِ وَ «الَّاأَدْرِي». يَقُول: «عِندَما يَلحَظُ الإِنسانُ العاقِلُ التَّراكُماتِ الطَّبِيعِيَّةَ مِن جِبالٍ وسُهُولٍ وصَحارَى وبِحارٍ وأَقمارٍ ونُجُومٍ، والتَّحَوُّلاتِ الَّتِي تَطرَأُ عَلَيها وعلى المَخلُوقاتِ والنَّباتاتِ الَّتِي تَنمُو على سَطحِها، يُدرِكُ أَنَّ هذا الكَوْنَ مُحْدَثٌ، وأَنَّ قُوَّةً ما قد أَحدَثَتْه…».
يَصعُبُ المُرُورُ على هذا الفِكرِ النَّيِّرِ بِخِفَّةِ مَن لا يَتَلَمَّسُ مِنَ الرُّقْعَةِ المَبسُوطَةِ أَمامَهُ إِلَّا سَطْحَها البَرَّاقَ، ويُحجِمُ عن الغَوْصِ في لُجِّها جاهِلًا أَنَّ نادِرَ الَّآلِئِ تُخفِيهِ الأَحشاءُ المَطوِيَّة.
مُصْلِحٌ هو في طُرُوحاتِهِ الَّتي تَنضَحُ مِن تَلافِيفِها مَلَكَةُ مُرَبٍّ سَفَحَ الكَثِيرَ مِن سَنَواتِهِ، بِاللُّهاثِ المَحمُومِ، على مَذْبَحِ البَذْل. يَقُول: «الطَّاقَةُ العَقلِيَّةُ عند الإِنسانِ قد تَكُونُ شَرًّا لَهُ إِذا أَساءَ استِعمالَها. لِذا يَجِبُ عَلَينا أَن نُرَسِّخَ القِيَمَ الإِنسانِيَّةَ عِند البَشَرِ كافَّةً».
لِذا، فَالمُتَتَبِّعُ بِحِرصٍ، المُتَفَحِّصُ بِرَوِيَّةٍ، ما يُبرِزُ اللَّفْظُ وما يُخفِي، يَتَبَيَّنُ له عَقْلٌ رِياضِيٌّ يَسُوقُ الأَفكارَ والكَلامَ، فَلا يَترُكُ اليَراعَ مُتَفَلِّتًا مِن عِقالِه. ونَتَمَثَّلُ بِقَولِه: «لِذلِكَ مِن أَجلِ تَحدِيدِ العَلاقَةِ بَينَ الحَقِّ والقُوَّةِ لا بُدَّ لَنا مِن أَن نُحَدِّدَ بِدِقَّةٍ ماهِيَّةَ الحَقِّ وماهِيَّةَ القُوَّة» (ص 52). فَنَراهُ لا يَبدَأُ «تَحدِيدَ العَلاقَةِ» بَينَ عُنصُرَينِ – بِالرُّغمِ مِن شُيُوعِهِما في عُقُولِ النَّاسِ – إِلَّا بَعدَ تَعرِيفِهِما، وذلك لِكَي يَكُونَ الطَّرْحُ مَبنِيًّا على مُعْطًى واضِح.
على أَنَّ هذا المُبَرِّزَ في مِضمارِهِ العِلمِيِّ يَخْتَزِنُ طاقَةً إِنسانِيَّةً عالِيَةَ المَنافِ، تَجعَلُ في هَجْسِهِ إِعلاءُ قِيَمِ الرُّوح. يَقُول: «لِذلِكَ نَقُولُ إِنَّهُ يَجِبُ أَن يُواكِبَ هذا التَّطَوُّرَ الرَّهِيبَ تَعَمُّقٌ أَكثَرُ بِقِيمَةِ الإِنسانِ الرُّوحِيَّةِ الَّتي تَسمُو فوق المادَّة» (ص 42)، فَــ «الأَخلاقُ الرَّفِيعَةُ هي أَهَمُّ سِمَةٍ مِن سِماتِ التَّقَدُّمِ والرُّقِيِّ عِندَ أَيِّ شَعْبٍ كان» (ص 61).
مُثَقَّفٌ ، صَدِيقُنا، حَصِيفٌ، تَمَثَّلَ (Assimiler) ثَقافاتٍ مُتَنَوِّعَةً، صَهَرَها في بُوتَقَةِ فِكرِهِ الثَّاقِبِ، مُطَرِّزًا بُرْدَها بِخَطَراتِهِ، فَظَهَرَت شَيِّقَةً سَهلَةَ المَنال. أَلَيسَهُ القائِلَ: «تَسمَحُ الحَياةُ لِكُلٍّ مِنَّا أَن يَمُدَّ رَأسَهُ مِن شَبابِيكِ قِطارِ الأَبَدِيَّةِ لِبَعضِ السِّنِينَ فَيَرَى بِعَينٍ ما رَآهُ الأَسبَقُونَ وبِعَينٍ أُخرَى ما يَراهُ هو شَخصِيًّا»؟! (ص 167).
فَتُذَكِّرُ بَعضُ آرائِهِ بِكِبارٍ غَبَرُوا ولم تَغْبُرْ بَصَماتُهُم فَبَقِيَت علاماتِ إِشعاعٍ على جِدارِ التَّارِيخ. يَقُول: «تَتَكَوَّنُ شَخصِيَّةُ الإِنسانِ بِخاصَّةٍ في السِّنِينَ الخَمْسِ الأُوَلِ مِن حَياتِه» (ص 33)، فَيُعِيدُنا إِلى فرُويْد (Sigmund Freud): «الطِّفلُ هُوَ أَبُو الإِنسان»، وإلى الشَّاعِرُ وردثورث (William Wordsworth)، في قَصِيدَتِهِ الشَّهِيرَةِ «أُغنِيَةُ الخُلُود»: «الطِّفلُ هُوَ وَالِدُ الرَّجُل».
***
لا يَحبِسُ المُؤَلِّفُ نَفسَهُ في مادِّيَّةٍ جامِدَةٍ مَرجِعُها الحَواسُّ والاختِبارُ، كَما لا يَتِيهُ في مَعارِجِ الرُّوحِ وغَيبِيَّاتِها، فَيَدعُو إِلى «دَولَةٍ عِلمانِيَّةٍ مُوَحَّدَةٍ، بِأَحوالٍ شَخصِيَّةٍ مُوَحَّدَة» (ص 61)، وَلْيُعطَى «ما لِقَيصَرَ لِقَيصَرَ، وما لِلَّهِ لِلَّه» (4).
على أَنَّهُ، في تَطَوُّرٍ فِكرِيٍّ مَعهُودٍ عِندَ مَن لا يَكُفُّونَ عن التَّثَقُّفِ وإِعمالِ العَقلِ، فَإِنَّهُ يَلجَأُ إِلى عَرْضٍ مُغايِرٍ مُنادِيًا بِنِظامٍ سِياسِيٍّ «مُفَضَّلٍ لِلُبنانَ»، قائِمٍ على كانتُوناتٍ، تَحكُمُها عَلمانِيَّةٌ هُنا، وما تَختارُهُ كُلُّ أَكثَرِيَّةٍ مَذْهَبِيَّةٍ هُناك (ص 66). ولا ضَيْرَ عَلَيهِ في هذا التَّبدِيلِ، فَسُنَّةُ الحَياةِ التَّبَدُّلُ، «وَلِكُلِّ حالٍ أَقبَلَت تَحوِيلُ» (5)، ثم… «مَن ذا الَّذي، يا عَزُّ، لا يَتَغَيَّرُ»(6)؟!
ومَرَدُّ ذلك، على ما نَظُنُّ، عائِدٌ إِلى أَنَّ صاحِبَنا لا يَعِيشُ في بُرْجٍ عاجِيٍّ مُنعَزِلًا مع أَبحاثِهِ الرِّياضِيَّةِ، ومُعادَلاتِهِ الرَّقمِيَّةِ الجافَّةِ، بَل هو في صَمِيمِ مَعْمَعانِ الوَطَنِ، الَّذي ما يَكادُ يَخْرُجُ مِن مَأْزِقٍ حَتَّى يَغُورَ في أَسْوَأَ، جَرَّاءَ طائِفِيَّةٍ تَحضُنُ تَسَلُّطًا وفَسادًا، وتُوقِدُ النَّارَ إِمَّا أَوشَكَت على انطِفاء، وَ «أَخطَرُ الدَّاءِ نَكْسٌ بَعدَ إِبلالِ» على رَأْيِ البُحتُرِيّ. فَنَحنُ، اللَّبنانِيِّينَ، وبِدَفْعٍ مِن أَجنَبِيٍّ بَعِيدٍ عَن مآسِينا، وبِعَماءٍ عن ذُيُولِ التَّشَرذُمِ والفُرْقَةِ، نَهدِمُ وَطَنًا حَباهُ اللهُ مِنَ الطَّبِيعَةِ ما نَدَرَ عند الآخَرِينَ، ثُمَّ نَرُوحُ نَنُوحُ على أَطلالِهِ الدَّوارِسِ، مُتَذَمِّرِينَ مِن قَدَرٍ بَرِيءٍ مِن كَبَواتِنا. وإِذ تَمُرُّ سَنَواتٌ نَعُودُ، وَ «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»(7)، إِلى ما كانَ دَهانا قَبْلُ.
أَلَا رَحِمَ اللهُ سَعِيد تَقِيّ الدِّين الَّذِي أَدرَكَ أَنَّ «الَّذِينَ يَشكُونَ مِن وَحْلَةِ اليَومِ كانَ عَلَيهِم أَن يَتَذَمَّرُوا مِن غُبارِ الأَمس».
وَ «أَشنَعُ ما في الأَمرِ، هو أَنَّ الفَظاعاتِ أَصبَحَت لا تَهُزُّ نُفُوسَنا. هذا التَّعَوُّدُ على الشَّرِّ، هو ما يَنبَغِي أَن نَحزَنَ لَهُ»(8).
وصاحِبُنا لَيسَ بِــ «غَرِيبٍ عن أُورَشَلِيمَ»(9)، فَنراهُ يُدلِي بِدَلوِهِ بَينَ دِلاءٍ كَثِيرَةٍ، مُحاوِلًا إِيجادَ عِلاجٍ لا تَقُضُّهُ الضَّعَفات.
ثُمَّ يَتَوَسَّعُ بِبِركارِهِ فَيَدعُو إِلى «دَولَةٍ عَرَبِيَّةٍ عِملاقَةٍ مُوَحَّدَةٍ فِيدرالِيَّةٍ» (ص 67)، وهذا ما لا يُوافِقُهُ عليه كَثِيرُونَ لِما فِيهِ مِن خَطَرِ تَحَوُّلِ دَولَتِهِ هذه إِلى دَولَةٍ دِينِيَّة.
***
أَخِي جُورج
«عِبَرُكَ» مِن ذَواتِ العَبِير…
بِها كُنتَ «كَرْمًا على دَرْبٍ»، ونَبْعًا سَلسَبِيلًا على سابِلَةٍ(10)، فَهَنِيئًا لِمَن يُحسِنُ القِطافَ والوُرُود(11). ولْنَدْعُ البارِئَ أَن لا يَصِحَّ فِينا قَوْلُ إِمامِ البَلاغَةِ عَلِيٍّ بِن أَبِي طالِب: «ما أَكثَرَ العِبَرِ وأَقَلَّ الاعتِبار»…
يُنْبِئُ قَلَمُكَ بِغَدٍ في البَدْعِ لا يَشُوبُهُ وَهْنٌ، ولا تَعتَرِي فَضاءَهُ سُحُبٌ دُكْن.
أَلَا اقتَبَلْتَ الوَشْيَ المُنَمَّقَ بِهِمَّةٍ قَعْساءَ، أَنتَ لَها، ونَحنُ نَرتَقِبُ الثِّمار.
سَلِمْت!
***
(1): الشَّالُوط: نَبْعٌ تَتَغَذَّى مِنهُ بِرْكَةُ ساحَةِ المَيْدانِ في دَيْرِ القَمَر
(2): أَنَامُ مِلْءَ جُفُونِي عَنْ شَوَارِدِها وَيَسهَرُ الخَلْقُ جَرَّاهَا وَيَخْتَصِمُ (المُتَنَبِّي)
(3): «رَجِعَ بِخُفَّيْ حُنيَنْ» (مَثَلٌ يُضرَبُ في مَن يَذهَبُ في حاجَةٍ يَقضِيها، فَيَعُودُ دُونَها خائِبًا)
(4): «أَعطُوا ما لِقَيصَرَ لِقَيصَرَ، وما لِلَّهِ لِلَّه» (إِنجِيل مَتَّى، 22: 21)
(5): وَلِكُلِّ نائِبَةٍ أَلَمَّتْ مُدَّةٌ وَلِكُلِّ حالٍ أَقبَلَت تَحوِيلُ (سَعِيد بِنْ حَمِيد)
(6): لَقَد زَعَمت أَنِّي تَغَيَّرتُ بَعدَها ومَن ذا الَّذي، يا عَزُّ، لا يَتَغَيَّرُ (كُثَيِّر عَزَّة، قَالَهُ في عَزَّةَ)
(7): ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الرُّوْم، الآيَة 32)
(8): «أَشنَعُ ما في الأَمرِ، هو أَنَّ الفَظاعاتِ أَصبَحَت لا تَهُزُّ نُفُوسَنا. هذا التَّعَوُّدُ على الشَّرِّ، هو ما يَنبَغِي أَن
نَحزَنَ لَهُ» (فيُودُور دُوستُويفسكِي)
(9): تِلمِيذا عِمَّاوُسَ، عِندَما انضَمَّ إِلَيهِما المَسِيحُ ولَم يَعرِفاهُ، سَأَلَهُما: «بِما تَتَحادَثانِ، وأَنتُما تَسِيران؟»
فَأَجابَ أَحَدُهُما الَّذي اسمُهُ كِلْيُوباس: «أَتَكُونُ وَحْدَكَ غَرِيبًا عَن أُورَشَلِيمَ، ولَم تَعلَمِ الأُمُورَ الَّتي حَدَثَت
فِيها هذهِ الأَيَّام؟» (إِنجِيل لُوقا، 24: 17، 18)
(10): السَّابِلَة: الطَّرِيقُ المَسلُوك
(11): الوُرُود: مَصْدَرُ وَرَدَ / وَرَدَ فُلانٌ الماءَ: أَقبَلَ عَلَيهِ