ضمن فعاليات الأسبوع الثقافي في إهدن، نظم منتدى ريشة عطر بالتعاون مع منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي ندوة بعنوان “إهدن في عيون شاعر الكورة الخضراء” في دير مار سركيس وباخوس- اهدن طريق النبع، في حضور حشد من الفعاليات الثقافية والإعلامية، وجمعيات وروابط ثقافية شمالية من بينها “رابطة الجامعيّين في الشمال” برئاسة غسان الحسامي…
افتتح الاحتفال بالنشيد الوطني اللبناني، من ثم اعتلت المنبر الإعلامية ماريان دحدح مقدمة الحفل والمنتدين الذين توالوا على الكلام: الشاعر أسعد المكاري، الأديبة سوزان البعيني، الأديب محسن يمين، الأديب الدكتور جان توما، الشاعرة ميراي شحاده.
مماجاء في كلمة ماريان دحدح:
(…) نحن نولد في النور من رحم الحياة لنسير في قوافل الليل على درب الموت، اما الكلمة فتولد من عتم الموت لتسير نحو النور والحياة الأبدية، فهي تحيا وتحيي وتحجز في سماء القلوب لصاحبها زاوية حيث الفكر حرّ طليق روح سرمدية ترفرف في اللامكان واللازمان، هذا ما أيقنه عبدالله شحاده شاعر الكورة الخضراء حين كتب: “ستكسوني أيدي المنون بتربة ويبعثني شعري فأحيا الليالي”. أما الليالي التي جمّعت ووثقت وتركت إرثًا ثقافيًا للتاريخ يباركها الزمن في طيفه الثقافي والحضاري، والفضل للذي ينقّب عن الإبداعات ويحملها إلى معبد الفكر إلى قدسية الوجود . ميراي شحاده ليست صلة الدم وحدها ما دفعتها لخوض معركة جمع وإصدار مؤلفات الوالد عبدالله شحاده، إنما يظهر جليًا أنه أورثها فكرًا حيّا وحكمة نادرة وتدرك أن خبز الكلمة على مائدة الثقافة هو الحياة الحقيقية في زمن يتصارع فيه أبناؤه ويستشهدون في سبيل رغيف خبز.
الشاعر أسعد المكاري
بعد ذلك اعتلى المنبر الشاعر أسعد المكاري الذي ألقى كلمة منتدى ريشة عطر ومما جاء فيها:
في إهدن ألتقط أنفاسي ، أداعب خواطري ، ألملم ذاكرتي ، أحرق المراحل .. في إهدن أقطف الصور كالأنجم ، أراقص القمر وأسامر الشغف .. في إهدن أساكن روحي، أمتطي فرس الغيم ، أحمل سيف المرؤة ، أسمو في الإبتهال ، أطالع وجه الله ، أشرب من كفّيْه قداسة الأنبياء ، نقاوة الأمّهات وثورة الشعراء ، في إهدن أقبّل قدميّ الله .. وفي إهدن ألتمس من حضوركم كلّ المحبّة والوفاء ..
مساؤكم وفاء إهدنيّ .. مساؤكم عطر ريشتنا .. أهلاً بكم ..
وهل أجمل من أن نمنح بعضاً من جهودنا لنكرّم رجلاً منح الكثير من فكره لأجل إهدن ورموزها ولأجل قضايا الوطن ومواجع الناس .. وهل أجمل من أن نلتقي جميعاً في هذا الصرح الديني لنكرّم رجلاً صارت قصائده ميرون الثقافة تمسح ذاكرتنا بحروفها المعتّقة بالجمال ..
وهل أجمل من أن نردّد معه : ( تكريمه لبطل لبنان يوسف بك كرم )
حَيَّتكِ طلعةُ يوسفَ الأشبالُ
لمّا بدا في إهدنَ التِّمثالُ
وتألَّبتْ حولَ العرينِ أسودُهُ
الأفذاذُ والأبطالُ والأقيالُ
لو لم تَجِشْ في صدرِ يوسفَ هِمَّةٌ
شمَّاءُ لم تتحقَّقِ الآمالُ
لو لم يُجاهِدْ في سبيلِ بلادِهِ
بحياتِهِ ، لم يُحسبِ استقلالُ ..
شاعر الكورة الخضراء هو حاضر بيننا بأعماله وبأيقونته ميراي التي تسبق الشمس إلى السطوع لتشرق في عمل جديد وحبّ جديد وعطاء جديد ..
أحبّائي ،
جنود الثقافة روّاد المعرفة ، معاً نعيد رسم صورة بيناتنا الجميلة وتحرق صورة لبنانهم المشوّهة ، معاً نستعيد رجالاتنا العظام كالشاعر الكبير عبدالله شحادة، ليكونوا شهوداً على قيامة جديدة لوطننا المصلوب والمسلوب منذ عهود ..
بكم أحبّائي نضع مداميك البناء الجديد لوطن تنهار أجزاءه وتتبدّد معالمه ، وبك سيّدة الحرف ميراي نطلق المعرفة في الهياكل الفارغة لتحيا، ونعيد صروح العلم إلى مكانتها الإنسانية ، ليرجع لبنان وطن الفكر والحضارة والإنسان.. وطن الخالد عبد الله شحادة..
الأديب محسن يمين
استهلّ الأديب محسن يمين مداخلته بالتأكيد أنه يقدم إضاءة حول إهدن في عيون شاعر الكورة الخضراء وليس دراسة ومما قال:
(…) ليس شحاده أول من تلألأ قلمه وأوراقه وهو يستلهم إهدن مفتونًا بطبيعتها الساحرة وتاريخها العريق ولن يكون الأخير. لكنك كلما استعدت قصيدة من القصائد التي خُصّت بها في وقت ما يخيّل إليك أنك في حفلة زفاف وأن مدينتك هي العروس ولا يبقى سوى أن ترش الورد كلما لاحت لك مواكب جمالها متجلية في ما ينساب من أبيات وكلما زهّرت في مخيلتك شذرات من تاريخها.
منتدى ريشة عطر إذ يلتفت مشكورًا إلى شحاده اليوم، فهو يقدم الدليل على عرفانه بجميل الشعر والإبداع وعلى اعتزازه بأمومة العروس في آن. والوفاء للجميل لو تعلمون لا تنتهي مدة صلاحيته بمرور الأعوام إنما هو يتجدد بمجرد أن يفوح العطر من الأبيات المنظومة بنيات القلب(…)
(…) وقد سبق لي على المستوى الشخصي أن أوليت عام 1990 اهتمامًا بمراسلات الرعيل الأول من أعضاء الرابطة الأدبية الشمالية الذي كان عبدالله شحاده أحد مؤسسيها. بحسب ما ذكرت آنفًا من الأعضاء من لم تشمله النعمة يومذاك. فمن لم يدركه الاهتمام من ست مقالات متتالية في النهار عاد وحظي به في عشر تلتها في وكالة أنباء الشرق الشمالية، بعد تمكني من التسلل في وضح النهار إلى محفوظات جورج اسحق الخوري مؤسس الأفكار ويوسف نعيمة ويوسف يونس وحيّز واسع من مراسلات عبدالله شحاده. ولوفرة ما بين يديّ عنه وعن يونس أفردت لكل منهما مقالا على حدة . مقال شحاده صبت فيه مروحة من مراسلاته ومقال يوسف يونس عقدته لما تبادله من رسائل مع ناسك الشخروب الأديب مخائيل نعيمة. وكنت كلما فعلت يراودني الشعور بأن شفقًا مضيئًا يبزغ من عتمات المحن المتعاقبة.
وفي كتاب صديقي القائمقام أنطوان القوال رحمه الله الذي كان له شرف الانضمام إلى الرعيل الثاني للرابطة أسوة بالأديبة سوزان البعيني أي كتاب “لسيفه الأشعار” قصائد في يوسف بك كرم الذي صدر عام 1988، كنا قد نشرنا القصيدة التي نظمها عبدالله شحاده لمناسبة إزاحة الستار عن تمثال بطل لبنان في إهدن في 11 أيلول 1932 وهي بعنوان “سُدتَ الزمان وحقّك الإجلال” وتحاكي نفثات إهدنية في سياق شِعره الخصب المتين السبك والمتماسك البناء وهي مدرجة على سبيل لفت الانتباه في الجزء الرابع من مجموعة عبدالله شحاده الكاملة، هذه المجموعة التي رأت النور عام 2020 بفضل جهود المهندسة السيدة ميراي المؤتمنة على نتاجه الشعري والأدبي ورئيسة المنتدى الحامل اسمه.
اسمحوا لي هنا أن أقول إنه لو كان كل أبناء وبنات الشعراء والكتّاب يضاهون السيدة ميراي اهتمامًا بأبائهم لما بقيت دواوين أو عناوين نافذة بحاجة للطبع ولمن يعيدها إلى التداول ولما بقيت شواهد شعرية وأدبية محتاجة للملمة أو أقصوصة ورق تستحق النشر نائمة في درج من الأدراج.
ومقلب صفحات ومجلدات المجموعة الكاملة سيلاحظ بلا ريب أن قصائد شحاده المصوغة للتغني بإهدن تعود إلى ما بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي وأن أقربها عائدة إلينا هي التي ألقاها تحت الصليب قرب كنيسة سيدة الحصن بحضور البطريرك أنطون عريضة في 14-9-49 وقد نشرت مع ما نشر عن وقائع هذا الحفل في كتاب خاص أصبح نادرًا في يومنا هذا.
أما أولاها إلقاء في زغرتا فكانت سنة 1929 في رثاء الشيخ خليل كرم لعلاقة مميزة رافقته في مسقط رأسه كوسبا أي حين كان لا يزال شحاده يمخر عباب المياه على غرار العلاقات التي سينسجها الشاعر مع أبناء إهدن وبخاصة مع المغترب الإهدني في بورتوريكو بطرس عزيزي “بيدرو” الذي لم ينقطع خيط تراسله معه ما سيجعله يحجز مقعد سفر دائم إلى ظلالها وإلى شمسها وإلى قمرها وإلى عافية مائها وهوائها وإلى قلوب أهلها… كما كتب في قصيدة “يا رعاك الله من مأسدة”.
بعدما أورد الأديب محسن يمين بعض ما قاله عبدالله شحاده عن إهدن قال:
(…) نستنتج أن بعضًا من عبدالله شحاده بقي عالقاً مع تراب إهدن العالق على أنامل أحبابه وأصحابه وأن شيئًا من وزالها ووردها الجوري بقي عالقًا على كفّه وهو يكتب فتمثلها صفصافًا وسروًا وأزهارًا وينابيع وضياء وجبالا ومدى مكتسية بجمالها. طيور حُوّمٌ في جوها تتغنى وجمال يبسم.
وكما أن الحب يعين على الحياة بحسب ما قال شاعر فرنسي فكذلك الجمال يعين على الحياة وعلى مراراتها وانكساراتها زارعًا الأمل بقرب تفتق الصباح. وتنظم سطور قصائد شحاده بأسمى آيات التقدير لأعلامها وبخاصة كرم في حفل إزاحة الستار، ونص “أيقظ التاريخ فالأمس حنّ إلى يومنا الجميل يا زغرتا!” من المجموعة الثالثة من دون أن ينسى الدويهي والصهيوني.
وإذا كان شحاده لم يغفل ذكر رجالات الدولة المعاصرين كـ الوزير والنائب الراحل حميد فرنجية في أداء قصيدة “يا فتى إهدن” فهو لم يغفل البتة مدى ما يتحلى به الإهدنيون من بسالة وعنفوان، والعنفوان قوة لا تقهر له طريق رسمت الشجاعة خطاه كما يقول في قصيدته “يا رعاك الله من مأسدة”.
الأديبة سوزان البعيني
في مستهلّ مداخلتها توجهت الأديبة سوزان البعيني إلى الشاعرة ميراي شحاده قائلة: يا امرأة من ذهب يا ابنة زادت على عرش والدها مدماكًا فاشتهاها كل الآباء، كيف لي أن تمر ببابي أيها الشاعر العظيم ولا ألقي عليك التحية وأنت والرفاق تسكنون بالي، وكما حفظنا في قلبنا همّ الرابطة الأدبية الشمالية وتحوّمنا حولها كالعصافير وطرنا بها على دروب الوطن حاملين الحرف والحب إرثًا ممتهنين صناعة الأدب، كذلك تحملك ميراي وتدور بك في مواسم العلم والثقافة مطيّبة الربوع باسمك مخلدة الحروف التي خطتها يداك….
ها هي الليلة تحط الرحال في إهدن مدينة الحب والعطاء بلد الثقافة والوفاء عرين البطولة والعظماء،
إهدن التي أحببتَ أيها الشاعر الحبيب وغنيت بعذوبة وصفاء،
إهدن مهبط الوحي ونبراس الهوى مسرح الحب وجمال الكائنات وأنشدت لها ما لا يقلّ عن 20 قصيدة فأغنيتَ التراث.
وها ريشة عطر وجه مشرق من وجوه إهدن الثقافية وها خيرة من الأدباء يمرون لك الليلة التحية…
هي المرة الثالثة أو الرابعة التي أتكلم فيها بحضرتك يا صاحب الكلمات النبيلة والشعر الأنيق وفي كل مرة استرجع ذكراك تجود الكلمات وتُزهر العبارات ولا أجد صعوبة في ترجمتها عاطفة وأفكارًا وأنت الغني بالعبارات والصور والإيحاء(…)
أنت الآن في دنياك تنعم بما فعلت يداك وتفرح ونحن في دنيا ينظر فيها الأطفال إلى القمر البدر فيخالونه رغيفًا ويفرحون . لقد سرقوا آمالهم وأحلامهم فلم يعودوا يحلمون إلا بالقمر ورغيف الخبز . وما هذه الهنيهات معك ومعكم أيها الحضور الكريم إلا لأسترجع بعض الأمنيات لغد أفضل.
في معرض كلمتها أوردت بعض ما قاله عبدالله شحاده عن إهدن في المجموعة الكاملة، وختمت: عبدالله شحاده قراءة دواوينك تحتزل وتكشف وتحث على المزيد من النبش والتنقيب في رصانة الكيان المرتجى. سلام لقلبك ولأعضاء الرابطة الأدبية الشمالية . سنبقى أوفياء لذكراكم كما كنتم أوفياء للكلمة وللبنان. عبدالله شحاده لن أدعوك بعد اليوم يا صديقي بل يا أخي على اعتبار أن ميراي ورندلى تناديانني “يا عمتو” .
الدكتور جان توما
تحت عنوان “شاعر الكورة الخضراء: إهدن القادوميات والدروب” قال د. جان توما في مداخلته: انطلقُ من خمسةَ عشرَ يومًا قضاها عبدالله شحادة في الأسر، إذ كلَّ يومٍ كان يعدِلُ دهرًا، ذلك أنّ النفسَ، في شقاوةِ عيشِها وفي هناءتِه، هي مقياسُ الزمن!
يقولُ عبدالله شحادة في الليلِ الأوّلِ من عام 1962 من قاووشِهِ [والقاووشُ كلمةٌ تركيةٌ معناها السجنُ الكبيرُ (ص37)]، هذا ليلٌ يسوّدُ بياضُ الجبالِ، ويشوّهُ معالمَ الأوديةِ، ويخفي جمالَ لبنانَ وراءَ حجابِ الظلامِ المدلهِم، ويجلبِبُ الطبيعةَ الزاهرةَ بِكَفَنِهِ الأسودِ الحالكِ، وهي تحلُمُ بالربيعِ الجميلِ” ( ص27). على أيِّ جمالِ بلدةٍ طبيعيٍّ يتكلّمُ ؟
ماذا يقصدُ بقولِهِ، وهو في عتمةِ الأسرِ:” منحدراتُ هذا الجبلِ الناسكِ”؟(ص27). من هذا النُسكِ، جاءهُ اليقينُ بالحقِّ، إذ من خلفِ وجعِ ظُلمِهِ، ” أطللتُ على الشمسِ والنوِر والحياةِ في ظلالِ الأرزِ الهاجعِ” (ص30)،. وبالتالي، “كيف ضمَّ القاووشُ بين جدرانِهِ الناسكَ البتولَ، نَجِيَّ الكوخِ الأخضرِ(…) الذي غنّى لبنانَهُ الحبيبَ أجملَ قصائدِهِ (…) فَعَندَلَتْهَا مع البلابلِ أغاريدُ هزَّتْ الفجرَ والأيكَ والجداولَ، ورددتْهَا الضفافُ الغيارى ترانيمَ اختلاجاتٍ، نامَ المساءِ على أنغامِ أراجيحِها العائماتِ؟(ص40).
كأنَّ ملامحَ إهدن كانَتْ مِحبرتُهُ يومَ طَلِبَ مفرداتٍ لتصويرِ المنحنى المقابلِ من الحياةِ الجميلة. يبدو أنَّ إهدنَ ليسَتْ عندَهُ مجردَ ضبابٍ يتصاعدُ، ودروبٍ وقادومياتٍ، وسماءٍ على سماءٍ، بل هي أملٌ على أملٍ، ونورُ يقذِفُهُ اللهُ في الصدوِر لتحيا.
لقد وضعَ الشاعُر الجريحُ معجمًا للطبيعةِ خاصّا به. صحيحٌ أنّه رَسَمَ إهدنَ بالكلماتِ، وصحيحٌ أنَّ مفرداتِهِ ستجدُهَا في رؤى الشعراءِ، وفي كتاباتِ النثريين، وهذا ما نسميه في الأدبِ: التناصّ، وهو فتحُ الخِزانةِ اللغويّةِ أو الأدبيّةِ، وفقَ الذائقةِ الفنّيةِ، لسكبِ الصورِ الشعريّةِ في كلماتٍ ومفرداتٍ. عبدالله شحادة استلَّ مفرداتِهِ من المسرى الأدبيّ العام، ومن التراثِ المحلّي، ومن طبيعةِ إهدنَ التي لا تبخُلْ على زائريها باللوحاتِ الجماليّةِ التي نأمل أن لا يطغى عليها الباطونُ، وأن تبقى عزرالَ الشمالِ، وقصيدةَ لبنانَ وديوانَه.
هذا معجمُ عبدالله شحادة اللفظيُّ استلَّهُ من هذه البيئةِ الإهدنيّة : أزهاري، أشعاري، بوح أسراري، فرّد الأمل، قصائد الغزل، واشتاقت القُبل، زنابق الربى، ملعب الصبا،ـ والطيب والزهر، والكأس والوتر، والشعر والذِّكَر، والبلبل الشادي، في منحنى الوادي، روعة السنا، زينة الدّنى، قد طابت المنى، نيسان حيّاك، والرّوض ناجاك، يا طيب ريّاك، يا بنت أحلامي، يا زهو أيامي، تبسّم الخلود، وصفّق الوجود، وجُنَّتِ الورود. (ص275- 276).
هذه المفرداتُ ليست في بلدة إهدن، ولا في طبيعتِها، إذ انتقلَ الشاعرُ من إهدنَ- الأرض، إلى إهدنَ التي رأى فيها البلداتِ والقرى والدساكرَ مختصرةً في محيّاها، وفي طلّتها، وفي ملتقى ميراي، ابنتِه. لقد أَنْسَنَ عبدالله شحادة إهدنَ، وجعلها كابنتِه وبيتِه ورفيقتِه ومستقبلِه الآتي. لقد راهنَ عبدالله شحادة على إهدنَ الوليدةِ، ابنتِه، التي بقيت في عينيه طفلةً، تلهو بقصائدِهِ وأقلامِهِ لتلِدَهُ من جديد، بعد مرورِ أكثرَ من 120 سنة على ولادتِهِ، منذ عام 1910، و37 سنة على وفاتِهِ، عام 1985. ميراي، هي هذه الإهدنُ التي نزَلَتْ عينيهِ وقلبِهِ وشراينيهِ. هو من قالَ فيها: الصبح ُإن بدا/ والطيرُ إن بدا/ والفجرُ والندى.
هذه مفرداتٌ تراثيّةٌ، بنى عليها شحادة رؤياه، وقد وردَتْ أيضّا في التراث، كما من ألحانِ الرحابنة وغناءِ فيروز في أغنية اذكريني: اذكريني كلّما الفجر بدا/ واذكري الأيامَ ليل السهر/ اذكريني كلّما الطير شدا / وحكى للغاب ضوء القمر/. كما وردَ النصُّ نفسه أيضًا في أغنيةٍ مصريّةٍ : والصبح ُبدا والطيرُ شدا: غناء عبد الغني السيد وكلمات إمام الصفطاوي، فلا عَجَبَ إنْ سمَّى نفسَهُ: الطائرُ السجينُ ( ص55)، وركَّزَ على أنَّ الفجرَ والأملَ توأمان ( ص56).
إهدن عندَهُ اكتملَتْ في “ملتقى ميراي”، تأكيدًا من كلَّ شاعرٍ أنَّ إهدنَ، أو الأرضَ، أو الوطنَ، هي الأم، الحبيبة، البنت، لذا كان عبدالله شحادة يتنقّلً في شعرِهِ بينَ زيتونِ الكورةِ وتفاحِ إهدنَ وثمارِهَا، لتنعمَ عائلَتَهُ بعطايا الأرضِ والطبيعةِ. هذه الطبيعةُ قال فيها الكتّابُ الكثيرَ، ومنهم أبو منصور الثعالبيّ في كتابه : ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، عن جمال ” تلك الْبِلَاد الشاميّة، وفيهَا عُيُونٌ عذبةٌ، وأشجارٌ كَثِيرَة ٌتشْتَملُ على كلِّ الثمراتِ، لَا سِيمَا التفاحِ اللبنانيِّ، فَإِنِّ اللبنانيَّ مِنْهُ، مَوْصُوفٌ بِحُسْنِ اللَّوْنِ، وَطيبِ الرَّائِحَةِ، ولذاذةِ الطّعْمِ ، يحمل مِنْهُ فى الْقرَابَاتِ إِلَى الْآفَاق، وَهَؤُلَاء الأبدال يتقوتونَ مِنْهَا(…) وَلَا يفترونَ آنَاءَ اللَّيْلِ، وأطرافَ النَّهَارِ عَن ذكرِ اللهِ وعبادتِهِ، وَلَا عَن اسْمِهِ، وَالْخلْوَةِ بمناجاتِهِ إِلَى أنْ يتنقلوا إِلَى جوارِهِ فطوبى لَهُم، وَحُسْنَ مآبْ”.
ألا نقرأُ هنا، ملامحَ تشبه ريفنا، وملامح إهدنَ السماء، ووداي قنوبين، وبساتينَ الرزقِ فيها. حَسْبُ عبدالله شحادة اليومَ أنّه ُلم يَعُدْ إلى إهدنَ – المكان، لأنّهُ لم يغادرْ إهدنْ- الزمان.
ميراي شحاده
اختتمت الحفل الشاعرة المهندسة ميراي شحاده ملقية كلمة منتدى شاعِر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي جاء فيها:
هذا المساء، يشرّفني أن أحملَ شمعةً في الظلام إلى جانب الشّموع المتوهّجة من منتدى ريشة عطر في الأسبوع الثّقافي الإهدنيّ المبارك، وأقفَ أمامكم وأنا مزدانةٌ بالحبّ والفخر في هذا اليوم المجيد في دير مار سركيس وباخوس تزامناً مع حلول العام الهجري الجديد، مباركٌ هو على جميع الأصدقاء.
وأقول لكم:
شكرًا، شكرًا لأنّكم بجانبي، نجدّد معًا الوفاء لشاعرٍ مغمورٍ كان منسيّا في أحداق الزمان؛ هو أبي؛ وحتّى لا يموتَ مرّتين، نحن اليوم هنا، نصلّي رافعين الأيادي، في يميني عطرُ ريشة مباركة “نسبة لمنتدى ريشة عطر” وفي يسراي منتداك يا أبي، منتدى شاعر الكورة الخضراء.
طُلَّ من عليائك وانظر: أنا في إهدن يا أبي؛ كنتَ يافعاً جدًّا وناديتَها: “يا رعاك الّله من مأسدة” سنة 1932 في جريدة صدى الشّمال…
هنا، حيث يهيم الجمالُ والخلدُ يُوقظ عبقريّة فنّه: تغنّيت بها مهبطَ وحيٍ ونبراسَ هدى، مسرحَ حبٍّ ومنبِتَ أبطالٍ، هي تسلبُ العقل والّلبّ معًا. وتُذيبُ القلب شِعراً وغنى!
حيثُ يضمِّخ النورُ ميدانها ويرضعُ الأحرارُ بسالتها، حيث تتمجّد الأعياد في ساحاتها ويزهو نور الحقّ من تلالها.
هنا، أنا أقف مكانك اليوم يا أبي!
وأنت القائل منذ تسعة عقودٍ:
مَن يريدُ الشّعرَ أن يسكبَهُ، مَن يريدُ الوَحيَ أن يستَنْزِلا
مَن يحبُّ الرّغدَ والعيشَ الهَني ويوَدُّ العمرَ مجدًا وعُلى،
مَن يرومُ العَزْمَ إن شَيخًا وإنْ كان شابًّا ومعنّى ثَمِلا
فَلْيَعِشْ في إهدنٍ مهوى الصّفا منبتِ اللَّذّاتِ، تشفِ العِلَلا!
نتحلّقُ اليوم في قدسية المكان، في هذا الدير ونستذكرُ إهدنّ في عيون شاعر الكورة الخضراء، هذه المتربّعة عروساً في عرشها والعلى والأرز يعانقان رباها.
تتغايدُ عدنٌ على جنباتها، والنبع، هنا ينتشي من رحيق دنانها.
شتاؤها فتنة عذراء بالأبيض الهفهاف وربيعها فاتنٌ وصيفُها يمحو يأسَ القلب، تصهلُ خيوله في أجيالها.
جئناك من الكورة الخضراء، من الفيحاء العصماء، من الضنّية السمراء؛ جئناك من بيروت الأبيّة.
جئناك إهدن المغناجة البهيّة نحملُ أغصان الزيتون وكؤوس النرنج وشعاع الفكر…
جئناك، نجدّد العهد مع فرسان الكلمة، مع أحرار الفكر والقلم، نعبّد طرقاتنا بالبطولة في زمنٍ اكفهرّ فيه كلّ شيء وتجهّم وجه البدر وطلّة الشّمس في وطني لبنان!
جئناكِ ندوّي عالياً، لعلّنا هنا أقرب إلى الّله، لعلّ الصدى يصرخُ في الهضاب والدّوالي؛ لعلّنا نثور ثورة الحقّ من هنا بوجه النُّوب، بوجه الكرب… وننشدُ معًا نشيدَ الغلبِ، نهزّ يراع الغضبِ على من باعوا لبنان..
وأنتِ إهدنُ مأسدةُ النّجبِ، منك اليوم نتوشّحُ بالشّهبِ.
عشتم، عاشت إهدن وعاش لبنان.
درع تكريمية
في نهاية الحفل قدم رئيس وأعضاء منتدى ريشة عطر درعًا تكريمية للشاعرة ميراي شحاده، وغنى الفنان العراقي جاسم حيدر قصيدة لشاعر الكورة الخضراء عبد الله شحاده مع قراءة للشاعرة ميراي شحاده. أيضًا قدمت الشاعرة ميراي شحاده باسم منتدى شاعر الكورة الخضراء منحوتة تراثية من أعمال الفنان بسام ملوك إلى رئيس منتدى ريشة عطر الشاعر أسعد المكاري.