الرواية الخامسة للأديب د. جميل الدويهي  من أجل نهضة اغترابيّة فاعلة تتخطّى الشعر “بلطجي بيروت”

 

تصدر قريباً في سيدني الرواية الخامسة للأديب د. جميل الدويهي، مؤسّس مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – النهضة الاغترابيّة الثانية في تعدّد أنواعها، بعنوان “بلطجي بيروت”. تمتزج في الرواية واقعيّة الأرض والإنسان، والوضع السياسيّ الرهيب في لبنان حاليّاً.

يوصل الدويهي مسيرته الإبداعيّة، في سبيل الحضارة وثقافة السلام، ليثبت مشروعه جدّيّة العمل والتضحية، ولإثبات نهضة فاعلة وحقيقيّة، خارج الخطوط الوهميّة والشكليّات التي لا تقدّم ولا تؤخّر:

“كان كلام أمّ أحمد مبهماً عندما حدّثت ابنها عن بيروت الزيتونه، وعن الخمّارات وليالي السهر، والحانات التي كانت تهيمن عليها نساء من كلّ لون وجنس. وعندما بحث بنفسه عن تاريخ بيروت في المكتبة الوطنيّة وجد حقائق مذهلة عن المكان الذي عاش فيه أجداده: الزيتونه، وشارع المتنبّي قرب المرفأ. هذا المكان اختفى بعد الحرب، وبنيت مكانه بيروت الجديدة، وتلاشت مهنة البغاء التي كانت تدرّ أموالاً على مشغّليها، ويبدو أنّها كانت تستغلّ البحّارة الذين ينزلون على المرفأ، لإدخال العملة الصعبة.  وقرأ أحمد عن أسماء نساء شهيرات في المجتمع المخملي البيروتي ممّن نشطن في تجارة الجنس، ماريكا اسبيريدون اليونانيّة التي وجدت عاصمة لأعمالها في بيروت واغتنت، وقرأ عن عفاف التي كان زبائنها من كبار السياسيّين، وأمّ وليد، وآمال، وجواهر، وكوتشوك هانم… وفاجأته العلاقات التي كانت تربط بين مجتمع الزيتونة والمجتمع السياسيّ في لبنان، وقصص فضائح تورّط فيها كبار السياسيّين في تلك المنطقة المحشورة حول المرفأ.

كلّ ذلك حدث في وطن كانت البلطجيّة فيه تختبئ تحت تسمية القبضايات. وبعض هؤلاء كانوا قبضايات فعلاً وشرفاء، ومع ذلك فإنّ كثيرين كانوا “بلاطجة”، ومجرمين، وقوّادين، وجواسيس، ومهرّبي مخدّرات، ومتاجرين بأجساد النساء.

وماذا تغيّر الآن؟ المرأة التي تتاجر بجسدها أكثر براءة من السياسيّ الذي يبيع بلاده وشعبه بحفنة من المال، فتلك تبيع نفسها، وذلك يبيع الآخرين ويقبض عليهم. ولو باع نفسه لما وجد من يشتريه.

مسكينة المرأة، إذا جاعت واضطرّت إلى الفاحشة نزلت على عنقها سيوف الانتقام. ومعذور الرجل، فإذا باع نفسه ودفع ثمنها رخيصاً نعته الذكور من أمثاله بالفحولة، وصمتت النساء عن قبيح فعلته. وهكذا ينتصر الذكور على الإناث، مع أنّ الجميع باعوا واشتروا.

وفي بلادنا اليوم مَن يقبضون على أعناق البشر، ويقبضون لقتل أرواحهم. فقد أصبح الرغيف معجزة، والوصول إلى المجرّات أقرب من الحصول على كيس طحين، وهناك مسؤولون يتجاهلون أنّهم مسؤولون، فكلّ يرمي اللوم على الآخر… فيا لخجل التاريخ منهم!”

***

“يقف أحمد البلطجي عند شاطئ المنارة، وينظر إلى البعيد، فكأنّ عينيه تخترقان أسرار البحر الأزرق الواسع.

ليس هنا بعيداً عن مدرسة بيروت للحقوق التي دمّرها زلزال في القرن السادس قبل الميلاد. والبلاد منكوبة بالزلازل من كلّ نوع وجنس… حروب، ثورات، احتلالات، كوارث طبيعيّة… فالشاطئ لعنة العصور، خيط من ذهب يمتدّ، لكنّه منسول من ثوب جنّيّة تظهر في الليالي وتنشر الموت.

قبل أيّام وقع انفجار في مرفإ المدينة، فقتل كثيرون من سكّانها، وتشرّد الآلاف، وتهدّمت منازل. وسارع أهل الحكم والحكماء، أمام هول الصدمة، إلى إبداء التعاطف، وذرفوا الدموع، ووعدوا بأنّ الجاني سيمثل أمام القضاء، ولكن مرّت، شهور ولا أحد يعلم مَن هم الذين كانوا وراء الكارثة.

بحر… يا بحر… أنت المذنب الوحيد، لأنّك تقف هنا شاهداً صامتاً، لا تفصح عمّا في داخلك. فقل لنا مَن هم الذين قتلوا الإنسان وشرّدوه؟ ومَن الذي دفع بآلاف الشبّان إلى السفر على مراكب متهالكة؟ ومَن أطفأ الضوء الخافت في المنارة الوحيدة عند شاطئ الأوزاعي التي كانت تهدي السفن؟

منارة مطفأة هي واحدة من منارات احترقت مصابيحها أو تعطّلت، فتاهت البواخر وارتطمت بالصخور، وعلت أصوات الاستغاثة، ولا أحد يجيب. وفي قاع البحر ترقد زوارق الموت، ولا أحد يكلّف نفسه أن يخرج الضحايا منها. فأين أصحاب الملايين الذين حوّلوا البلاد إلى شركة مساهمة، فعصروها، ونهبوا زرعها وضرعها، وتركوها جثّة ممصوصة على قارعة الطريق؟ ولماذا لا يتبرّع أحد من أصحاب الثروات الهائلة بجزء يسير ممّا استولى عليه من أموال الشعب ليخرج الجثث من قاع البحر؟

هذا الزبد الأبيض هو الحليب الذي كان ينسكب على شفاه الأطفال، فاختلط بالملح، وصار طعمه كطعم الموت. رغوة بيضاء تخرج من أفواه الرجال والنساء الذين يموتون، ولا يجدون دواء في صيدليّة، ولا طبيباً يداويهم… هو الدموع التي تهطل من عيون الجائعين إلى رغيف، ويتصارعون في الشوارع من أجل لقمة… فتقوم أمّة على أمّة ومملكة على مملكة، للوصول إلى كسرة، لو وقعت على الأرض لأنفت أن تأكلها الطيور…

أنت رأيت أيّها الصامت الأزرق، وأنت سمعت. وكم أنت ماكر لأنّك لا تخبر الحقيقة، تهمس همساً، وتغضب أحياناً. ولو نطقت بحرف واحد تفهمه الأمم لانهارت دول، واهتزّت عروش”.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني 2022

اترك رد