إضاءة على رواية “الكتيبة 17” للروائي الإرتيري هاشم محمود حسن

 

 

عفيف قاووق

                            ( لبنان)

مجدداً يطُلّ علينا الأديب والروائي هاشم محمود، مقدّماً لنا تحفته الجديدة رواية “الكتيبة 17″ التي تضيء على معاناة  إرتيريا وشعبها خلال سنوات عجاف من تسلط الإحتلال الإيطالي لها، معاناة أرادها الكاتب أن تبقى حيّة في وجدان الأجيال اللاحقة لئلا تضيع بطولات وتضحيات الشهداء الذين يصفهم بأنهم”من جيل لم يسعَ أبطاله إلى مجد شخصي أو إلى مكاسب فردية، فقط حلموا وسعوا لتحقيق حلمهم بالوطن الحُرّ الذي يهب السكن والسكينة لأبنائه”. وعرفاناً منه بجميل هؤلاء فقد صدّر هاشم محمود روايته هذه إلى ذلك الجيل “جيل البسالة والجسارة أمثال بخيت هي أمادى،حامد إدريس عواتي،محمد بالساحل،أكيتو بمنطقة دنكاليا وولد تسما بالهضبة ليؤكّد ان الجميع ومن مختلف المناطق تنادوا للدفاع عن بلدهم.

وبعد روايتيه “عطر البارود” و “فجر أيلول-بجزئيه” تنضمّ الكتيبة 17 لسابقاتها، وهذا ليس غريباً عن هاشم محمود الذي استحق بجدارة لقب “كاتب الوطن”، الذي يصفه في مقدّمة روايته بأنه”أنشودة الحياة وهو عزّ الماضي وبريق المستقبل،سند الضعيف وهو لقمة الجائع وأمان الملهوف”.

وفي معرض قراءتنا لهذه الرواية سنحاول التطرّق إلى بعض المحاور التي يمكن إستخلاصها:

جغرافية إرتيريا وطبيعة مجتمعها:

حسناً فعل هاشم محمود وقبل التوغّل في سياق أحداث الرواية، أن يأخذ القارىء في جولة ولو قصيرة للتعريف بإريتريا ومجتمعها سيّما وأن العديد من قرّاء المشرق العربي يجهلون الكثير الكثير عن ذاك البلد الغني بأرضه وشعبه، لا تفرّقه عقيدة ولا تغيّرهُ ثقافات وافدة، بالرغم من تعدّد قوميّاته ولغاته ودياناته، إلا أنّ جوّ التسامح والتنوّع كان طاغياً على العلاقات الإنسانية والمجتمعيّة  فيما بينهم، والشعب الإرتيري قابلٌ للتكيّف والتطوّر مع المحافظة على خصوصيّته والتمسّك بمعتقداته.

وقد كان لموقع إرتيريا الجغرافي وتميّزها، كونها تُمثل مركز إتصال تجاري وحضاري بين إقريقيا وشبه الجزيرة العربية ممّا جعلها قبلة ومحط أطماع المستعمر الإيطالي الذي كان يبحث لنفسه عن موطىء قدم لحاجته للتواجد على ضفّة البحر الأحمر، سيّما وان الضفّة الأخرى من هذا البحر تقع تحت سيطرة الإنجليز وهذا ما سيؤدى لاحقا لنشوب صراع عسكري بين إيطاليا وبريطانيا يحسم في النهاية لمصلحة الأخيرة.

عسكرة المجتمع الإرتيري:

أبرزت الرواية ممارسات الإحتلال الإيطالي وكيفيّة إرغام الشباب الإرتيري للإلتحاق بالجيش الإيطالي، بعد إيهامهم بأن هذا في سبيل مصلحة بلدهم، وقد حرصت على توفير كل إحتياجات الجنود وسُبل راحتهم  ضماناً لإستمالتهم ولقطع الطريق على أية تكتلات داخلية محتملة أو بوادر إنشقاق وتمرد على الإمرة الإيطالية، ولم تسمح لهم بأي نقاش سياسي او ديني فيما بينهم .

البحث عن الحرية:

بالرغم من عسكرة المجتمع الإرتيري وإلتحاق شبابه بالجيش، إلا أن الأمل لم يخبُ لدى هؤلاء الشباب بأن فجر الحرية لا بدّ وأن يبزغ ولو بعد حين، فكانت جلسات نقاش سرّيةتتمّ بين ثُلّة منهم وهم من ديانات مختلفة أمثال آدم،هيلي،أبو بكر،أبعري وغيرهم، ومحور هذه النقاشات كان حول كيفية التخلّص من الإحتلال والوصول لإستقلال البلد، وقد عملوا بنصيحة زميلهم “كيوي” الأكثر دراية منهم ونصحهم بالقول “كم بريء ضاع باللغط السياسي،وكم ذراع كُسِرت وأفواه كُمِّمت، وإذا كنتم تريدون الحرية لأوطانكم فعليكم العمل في صمت، ولا تسمحوا لإيطاليا أن تفرّقكم، فاجمعوا شملكم في صمت واعملوا بغير ضجيج حتى تحين ساعة الخلاص”(39).

محاولة تغريب وتطبيع المجتمع الإرتيري:

منذ دخولها لإرتيريا، عملت إيطالياجاهدة لإدخال ثقافتها وعاداتها ومحاولة فرضها على المجتمع الإرتيري، فحرصت على تعديل العديد من العادات القبليةالتي كانت سائدة وفرضت اللغة الايطالية كلغة رسمية معتمدة، ولم تكتفِ بهذا، بل جهّزت لتنظيم قوافل تبشيرية أدخلتها إرتيريا تحت مسمّيات مختلفة،وكان لهذه القوافل أثرها الملموس في تغيير طبيعة المجتمع الإرتيري، كما شهدنا محاولة إيطالية لتنصير الشعب بأكمله عبر إعتماد مذهبها الكاثوليكي على حساب المذهب الأرثوذكسي الذي كان سائداً، إضافة إلى إنشاء الملاهي ودور السينما كمظهر من مظاهر ثقافة المستعمر.

وعلى طريقة “دس السُمّ  في العسل” قامت إيطاليا بتعبيد الطرق البرّية ليسهل عليها الربط بين أطراف البلد، وشيدت النقل الكهربائي بين مدينتي أسمرا ومصوَع لكنها بالمقابل لم تُهمل إقامة السجون واعتماد سياسة النفي والإبعاد للفرسان وتعذيب كل من يخالفها الرأي أو يحاول التمرد عليها.

كان لا بد من مظاهر التغريب هذه أن نجد ضمن صفوف الشعب الإرتيري بعض ضعاف النفوس التي إستهوتهم الثقافة الإيطالية، وهذا ما ورد في الرواية بشخص المُجنّد سلمون الذي يتقبّل الإيطالي كحاكم مُبدياً تخوّفه على مصير اللغة الإيطالية التي تعلّمها، في حال خروج إيطاليا مهزومة لأنه وبحسب تفكيره، سيلزمه سنوات عدّة للتعلّم والتأقلم مع ثقافة أخرى.

التنوع الديني ونقاشاته وجوّ التسامح السائد بين الناس:

جوٌ من التسامح والإنفتاح واحترام معتقدات الآخرين، تجلّى في الرواية خلال الزيارة التي قام بها آدم ورفاقه إلى قرية سيّدنا مصطفى، والمشاركة في إحتفاليّة المولد النبوي الشريف، وكيف أن زميليه هيلي وتولدي وهما من الديانة المسيحيّة أُعجِبا بحسن الإستقبال وكرم الضيافة، وقد رحّب بهما هلال أحد تلامذة الشيخ مصطفى بالقول “الكل هنا ضيوف سيّدنا مصطفى وفي حضرة المولد النبوي الشريف”. ذلك أن تعدّد القوميّات والديانات داخل المجتمع الإرتيري لم يمنع من إشاعة جوّ الإلفة والتسامح بين مكوّناته، بالرغم من بعض النقاشات العقيمة التي كان يثيرها سلمون الكاثوليكي مع رفاقه من دين آخر، نقاشات كانت أشبه بالجدل البيزنطي  فلا قناعة يصلون إليها، مثلاً سلمون متوجّس من تناول طعام به لحم مذبوح وفقا للمنهج الأرثوذكسي وهو الكاثوليكي المتعصّب لمذهبه، أما زميله هيلي فهو أكثر اعتدالاً منه حيث يقول:”لديّ قناعة تامّة أنّي لا أختلف مع شخص على أساس الدين أو العِرق، فكلنا أبناء حوّاء وآدم، وحتى الديانة اكتسبناها عن الأجداد والآباء”(48). وزميله همد أيضا يجد ان العبادة تصحّ في أي وقت وفي أي مكان وعبادة الله لا تحتاج لدور عبادة فالله موجود في كل شيء، في الصدق وفي الرحمة دون أن يرتبط ذلك بمسجد او كنيسة”(53). فالترابط بين السكان والتزام كل شخص بعقيدته، يجعل من التسامح باباً آمناَ أمام كل الديانات، فلا للتعصّب نعم للتسامح.

هذه عيّنة من النقاشات التي كانت تدور بين هؤلاء الشباب ولكن رغم الإختلاف بينهم فإن ذلك لم يُفسد لهم للودّ قضيّة.

مستعمِر يحارب مستعمِر:

لقد كان قدر إرتيريا أن تشهد على أرضها مستعمر يحارب مستعمر والخيار الوحيد المُتاح أمام شعبها هوإمّا أن يكونوا مع هذا او ذاك، ومع ذلك يروادهم الحلم بأن يكون خيارهم الأمثل هو الوطن والثورة في وجه المستعمر أياًّ كان.فالمستعمر هو المستعمر، إيطاليا وبريطانيا وجهان لعملة واحدة وإن إختلفت الأساليب والسياسات، والمتتبّع لأحداث الرواية وما تضمّنته من معارك ومناوشات بين إيطاليا وبريطانيا كان وقودها الشباب الإرتيري، يجد أن الإحتلال الإيطالي بالرغم من التقديمات التي ذكرناها آنفاً، إلا انهم بالمقابل عمدوا إلى التضييق على الشعب، ووصل بهم الأمر إلى منعهم من إقامة صلاة العشاء في المسجد حتى لا تُتاح لهم فرصة التلاقي والتباحث في أمور بلدهم، كما اعتمدوا مع جنودهم سياسة العصا والجزرة، فأطلقوا الوعود بمضاعفة رواتبهم إذا أظهروا لهم الولاء والإلتزام بإمرتهم مقابل إنزال أشد العقوبات بكل من تسوّل له نفسه التمرّد أو الإلتحاق بالإنجليز.

وعلى عكسهم تماماً، فقد إستفاد المحتلّ الإنجليزي من سياسة التضييق هذه، ليقدّم نفسه كضامن للحريات، فسمحوا بالتعليم، ولم يتدخّلوا في الشؤون الدينيّة، وأنهوا حالة التمييز الطبقي التي أرساها الطليان، ليبتلع الشعب الإرتيري الطُعم وينصاع لتنفيذ ما يمليه عليه المستعمر الإنجليزي.

ختاماً، نقول أن الكتيبة 17 يمكن إعتبارها وثيقة تؤرّخ حقبة الإحتلال الإيطالي، وإن أتت في قالب روائي سلس، كما وإن القارىء يظنّ للوهلة الأولى كأن الروائي شاهد عيان على تلك الحقبة، فقد إستطاع تقديم رواية، مزج فيها الخيال بالحقائق التاريخيّة بشكل يصعب علينا التمييز بين ما هو حقيقة وما هو سرد تخيُّلي من قبل الكاتب،وهذا يدلّ على حرفيّة عالية يتمتّع بها هاشم محمود. فهنيئاً له  ولنا بهذه الإبداعات التي ستجد لها المكان المرموق في المكتبة العربية وحتى العالمية، سيما بعد أن تمّت ترجمة بعضها إلى لغات أجنبية ومحليّة عدة.

اترك رد