من الكتاب الفكريّ العاشر “في ظلال الروح”
أصبحت وحيداً في هذه الصحراء التي لا نهاية لها… وحيداً ليس معي سوى ذكريات قاحلة.
الذين كانوا أصدقائي غادروني، بعد أن فرغت جعبتي من العطاء. فالعصافير تأكل عن يديك، وعندما لا يعود فيهما قمح تطير إلى مكان آخر.
وبينما كنت أعضّ على جروحي الكثيرة، وأحاول أن أجتاز الرمال التي تمتدّ وتمتدّ مثل بساط من غبار، تلاشيت من تعبي وخطيئتي، وعرفت أنّ نهايتي باتت قريبة.
في تلك اللحظة بالذات، عادت إليّ صور الماضي، أناس وأناس عبروا في حياتي، وغابوا طويلاً… فكيف عادوا إليّ، ولماذا… في الوقت الذي أغادر فيه الحياة، وأغمض عينيّ على ضوء النهار.
أنفاسي بطيئة، وأعتقد أنّ شرايين قلبي أخذت تتعطّل واحداً وراء الآخر، وأشعر بأنّ الهواء الذي يدخل إلى أعماقي، ملوّث وكئيب.
ارتميت على الأرض، وغرق وجهي في الأديم. فدخل الرمل في عينيّ. وظننت أنّني ألفظ أنفاسي الأخيرة.
لو كنت في مدينتي، لكانت نهايتي أفضل بكثير، فهنا لا يوجد آدميّ ليشفق على جسدي النحيل، وسيكون غطائي السماء التي عذّبتُها، وتعذّبتُ من أجلها.
نظرت بصعوبة إلى فوق، علّني أستطيع مرّة أخرى أن أطير لكي أعانق نجمة. كان القمر الفضّيّ مختبئاً وراء الغيم، خاطبته وأنا أتمتم بصعوبة: أيّها القمر الحبيب الذي كان ينزل إلى نافذتي، ويأكل على مائدتي، ويمضي برفق إلى البحيرة لكي يغتسل كصبيّ شقيّ… هل تسمح لي مرّة أخرى بأن أراك عارياً، وصادقاً ومن غير خوف؟
لم يجبني. بل كان جامداً وراء الغيمة، فكأنّه ارتعب من رؤيتي، وأنا في هذه الحال من التردّي.
كان مشهد القمر آخر شيء رأيته قبل أن أغيب عن وعيي. دخلت في ظلام دامس، ربّما ساعة أو ساعتين. وعندما أفقت، كان جسمي منهكاً، ولا أستطيع النهوض. شفتاي مشقّقتان من القيظ، وحلقي فيه أشواك، وفؤادي يتقطّع ألماً. نظرت حولي، فوجدت قريباً منّي بضعة أرغفة، وجرّة مملوءة بالماء.
يا إلهي، من أين جاء الخبز والماء؟ ومَن كان هنا، فوضعهما بقربي؟ ولماذا لم يوقظني عندما كنت في غيبوبتي وغيابي؟
لا بدّ من أن يكون هناك بشر في هـــــــذه الناحية، وقد رأوني وحاولوا مساعدتي دون جدوى. فوضعوا طعاماً وشراباً. وتلك آثار أقدام على الرمال…
مددت يدي المرهقة إلى الجرّة، فقرّبتها من فمي الجافّ، وشربت منها حتّى ارتويت، وأبقيت على نصف الماء الذي فيها. ثمّ أخذت رغيفاً والتهمته بشوق، فعادت روحي إليّ. وما هي إلاّ دقائق، حتّى شعرت بقوّة وعزم، فقمت عن الرمال ومشيت خلف آثار الأقدام. لست خبيراً في اقتفاء الآثار. لكنْ يبدو لي أنّ اثنين من الناس قد عبرا فوق الرمال. كانا مستعجلَين، فأحدها ترك فردة حذاء، ولم يعُد لكي يأخذها…
يا إلهي…. أتذكّر… نعم أتذكّر فردة الحذاء هذه… كان ينتعلها في آخر أيّامه رجل أعرفه… إنّه أبي… وعلى كثيب من الرمال، لمحت شال أمّي العتيق تتلاعب به الريح.
***
*ملاحظة: ارتأينا تغيير عنوان الكتاب العاشر والغلاف، منعاً للتشابه.
جميل الدويهي: مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني 2022