قصيدتي في مئويّة سعيد عقل تنشر للمرّة الأولى على صفحتي مع قصّتها كاملة – المصدر: كتاب “معرفتي بسعيد عقل – عنه إن حكيت” منشور على الموقع الخاصّ بكتبي www.jamildoaihi.com.au
في عام 2012، أقامت جامعة سيّدة اللويزة مئويّة سعيد عقل: نشاطات غنائيّة موسيقيّة في مجمّع إميل لحّود – ضبيّه، ولقاء شعريّ في الأونسكو شارك فيه عدد من الشعراء من لبنان والدول العربيّة. وفي ما يأتي نصّ الخبر عن المناسبة في الأونسكو، كما ورد في مجلّة “الجيش”:
برعاية رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان اختتمت جامعة سيّدة اللويزة النشاطات التي نُظّمت على امتداد العام لمناسبة مئويّة ولادة الشاعر سعيد عقل، وذلك في مهرجان أقيم في قصر الأونسكو.
حضر الإحتفال وزير الثقافة غابي ليّون ممثّلاً رئيسي الجمهورية والحكومة، وزراء، نواب، دبلوماسيون، ممثل قائد الجيش العميد أنطوان نجيم، ممثّل مدير عام قوى الأمن الداخليّ العميد ديب الطبيلي، ممثّل مدير عام الأمن العامّ المقدّم ربيع قصب، شعراء، أدباء، ورجال دين. كما شارك في الإحتفال شعراء جاءوا خصّيصًا من مختلف الدول العربيّة: الشاعر فاروق شوشة من مصر، الأديبة كوليت خوري من سوريا، الشاعر حيدر محمود من الأردن، الشاعر عبدالرحمن الجديع من المملكة العربيّة السعوديّة، بالإضافة إلى الشاعر جورج شكّور من لبنان.
النشيد الوطني اللبناني إفتتاحًا، ثم كلمة عرّيفة الإحتفال ليال نعمه، فكلمة ترحيبيّة من نائب رئيس الجامعة لشؤون الثقافة والعلاقات العامّة الأستاذ سهيل مطر الذي اعتبر الشاعر الكبير “ظاهرة استثنائيّة وعالميّة: لم يمرّ في التاريخ، رجل عبقريّ كسعيد عقل، احتفل هو وأصدقاؤه بعيد ميلاده المئوي… هذا الرجل، تصفّى، خلال مئة سنة، ليتحوّل إلى مرايا حبٍّ وطفولة وقداسة وجمال… اليوم، سعيد عقل، يرتفع شامخًا، أرزةً لبنانية خالدة، ونهر بردوني لا ينضُب، وكصنّين أو زحلة قامةً لا تنحني”.
بعد ذلك، نظم كلّ شاعر أبياتًا تحاكي هذا الشاعر الكبير، إنطلاقًا من خبرة شخصيّة عاشها معه، حيث أنّ سعيد عقل بدوره توجّه في زمانه إلى كلّ واحد منهم وإلى الدول التي ينتمون إليها. كما تخلّل اللقاء عرض فيلم وثائقيّ عن النشاطات التي أجريت خلال المئويّة في الجامعة وخارجها، من إعداد ماجد بو هدير وإنتاج المنشآت السمعيّة والبصريّة في الجامعة، إضافة إلى وقفات فنّيّة مع الفنّان وديع الصافي الذي أنشد “ربّي ردّ الأهوال” من كلمات الشاعر سعيد عقل، ومشاركة للفنانة غيتا حرب في قصيدة للشاعر بعنوان “زهرة الزهور”، من ألحان جوزف خليفة.
كلمة زحلة، ألقتها النجمة نجوى كرم نيابة عن السفير فؤاد الترك الذي تغيّب بسبب وعكة صحّيّة غاب بعدها بهدوء، والتي جاء فيها: “من نِعَم الله على إنسان أن تمرّ مئة سنة على ولادته وهو على قيد الحياة… ومن نِعَمِ الله على وطن الأرز أنّه لأوّل مرّة في التاريخ يُحتَفَل بمئوية مبدع وهو ما زال بيننا، هذا المبدع هو الشاعر الكبير سعيد عقل”. ثمّ هنّأت كرم الشاعر بمئويته، وهنّأت زحلة التي “أنجبته ولبنان الذي أبدعه”.
أمّا الختام، فكان مع رئيس جامعة سيّدة اللويزة الأب وليد موسى، الذي شكر سعيد عقل لما أعطى “الشعر جمالاً لا يضاهى، وأعطى لبنان مجداً لا يُوازى به مجد، وأعطى جامعة سيّدة اللويزة، إرثًا لا يعادله إرث”. كما شكر فخامة الرئيس العماد ميشال سليمان الذي رعى هذا الاحتفال “بروح المحبّة والوطنيّة والمسؤوليّة”… وحيّا دولة رئيس مجلس الوزراء، وجميع المسؤولين والمقامات والجمعيات والمؤسّسات والشعراء والفنّانين الذيـن شاركوا جامعة سيّدة اللويزة هذا الاحتفال.
عربون شكر وتقدير قدّمت الجامعة دروعًا تقديرية لكلّ من شارك في هذا الإحتفال، كما قدّم الرسّام برنار رنّو للجامعة لوحة للشاعر سعيد عقل، والتُقطت الصور التذكارية. (انتهى الخبر)
***
لم أشارك في لقاء الأونسكو، لأنّ إدارة الجامعة ارتأت أن يكون جميع الشعراء من خارج الجامعة… ولم أحضرها أيضاً… لكنّني محبّة بالرجل الكبير كتبتُ له قصيدة نشرتُها في كتيّب صغير بعنوان “إلى شاعر الأجيال سعيد عقل في مئويّته”، ونشرتْها مجلّة الجامعة… أرسلتُ الكتيّب إلى سعيد عقل فعلمت أنّ الوقت قد فات على فهمه للقصيدة أو معرفة مَن كتبها له. كان الشاعر في حالة مرضيّة صعبة. وأخبرتني السيّدة التي تهتمّ به، ماري روز أميدي، أنّها تقرأ له في كلّ مرّة مقاطع قصيرة من هديّتي المتواضعة.
ولا أعتقد أنّني في قصيدتي أنصفت الشاعر وأعطيته حقّه، لكنّ آراء الشعراء والأكاديميّين الكبار في القصيدة جعلتني أقتنع بأنّني أوفيت الرجل قسطاً، ولو ضئيلاً، فالعظماء لا يستطيع التاريخ أن ينصفهم، فكيف بالناس؟
***
قصيدتي “إلى شاعر الأجيال سعيد عقل في مئويَّته”، أنشرها مع بعض التعديلات الطفيفة التي أدخلتها عليها بمرور الزمن:
سعيدُ، مــهْـلاً! إلى أينَ المسِيرُ بــنــا
وأنتَ بـــعْـــدُ فــَتـيٌّ، مثلما الزهَـرُ؟
أنتَ الـْبـَدَعْتَ سمـاءً لا حُـــــدودَ لها
وفي يَـديــكَ شِراعُ الـــريــحِ، والمـطــرُ
أنتَ الـْسكـبتَ ربـيـعاً فــي حـدائـقِـنا
وبَعدَكَ الناسُ مـا قالوا ومـا شعروا
قـدمـوسُ، أنتَ على الأمـواجِ تسبـقُه
إلى الـعـطــاءِ الـذي في الحِــبـرِ يُختَصَرُ
وهانِبالُ الـذي مــــِـــن صُـورَ تُشبههُ
لكنَّ سيفَك لا طــعـــنٌ، ولا شــــررُ…
هــوَ السلامُ الذي أوصــى الإلــهُ بـــــه
هو القصيدُ الذي فـي الكأس يُعتصِرُ
هـــــو التفوُّقُ حتَّى قيل: مُـعـجزةٌ…
فمن رُخــامِ يديكَ الشمسُ والقمَرُ.
***
مــَـنْ مثلُ لبنانَ في الأوطـان قاطبةً
حـــُـــدودُه الشعــرُ، والأفكارُ، والسفرُ؟
مُعلَّقٌ فــي سمــاء الخـــلْـقِ، منطلِــقٌ
إلى المجــــــــرَّةِ، حيثُ المـجــــد ينتظِرُ…
ففي المــدى رمْحُنا الـــعـــالي نشرِّعـــــــهُ
وفي الكواكــب عــطـــــرُ الأرز ينتشِرُ…
وأنتَ قلتَ: هـــــنــــــا تبقى مــنـــازلُـــنــــــا
في الصخر، ما همَّنا أنْ بيتـُنا الخطرُ
هــــــذا الصغيرُ الذي حـــــــــــــــارَ الزمـــــانُ بـــه
فالقَبلُ والبَعدُ مـــــــن آثــارِه أثــــرُ…
هـــــــذا الذي حطّم الإعـصـــار مركبُه،
والفكرُ لولا شعــاعٌ منه، يحتضرُ
أعطاكَ مـن أرزةٍ عملاقـــةٍ كِبَراً،
فالخــالــــــدانِ هــمـــا لبنانُ والكبَر.
***
مـــا عـمــرُه الآنَ؟ قالوا: عــمــرُه مئةٌ!
لا، ليس يُحسَبُ في أعــوامــــه العُمُرُ…
فهل رأيتُم بِحــاراً ضـــــــاقَ شاطـئها؟
وهـــل رأيتُم سيوفَ الشمسِ تنكسِرُ؟
فكم مـــــــن الناسِ مــــرُّوا في الحياةِ كما
يَـمـرُّ ظـلٌّ ثــقـــيـــلٌ، ثــمَّ ينحسرُ
لكنَّ مَــن أشعلوا حِــــبراً على وَرقٍ
فلا يعيشونَ أعـــوامــاً كما البشرُ…
“هُــــوميرُ ” مــــــــــــــا زال حتَّى اليوم يُطرِبُنا،
وفكْرُ سُقراطَ لـــــــم يفتُكْ بــــــــه القَدَرُ…
مَــــــن لَوَّنوا غابـــــــة الأحلام نعشقُهم
وكلَّ يـــــــومٍ لنا مـــــــــن صــوبـِهم خبَرُ…
وأنتَ منهم عـظــيـــمٌ، كلَّما ركـــضــتْ
بـــــــه الحياةُ، على الأزمــانِ ينتصــرُ.
***
يـــا جـــــــارةَ النهرِ، قومي كـــي نسائلَه
عــــــن عاشقٍ يرتدي من عطره الشجَرُ
مَـــــن عَلَّم السحرَ إنساناً، فحيث مشى
تمشي القصـائدُ، والأحلامُ، والصُّــوَرُ؟
في “رنْدَلى” الروحُ ما غنَّت، وما عشقَتْ
إلاَّ العيونَ التي في طـرْفِها حَـــــــــوَرُ…
و”المجـــــدَليَّةُ” أحـْـيـــاهـــا، وألبسهــا
لكي تـعـــودَ عــــــــــروساً، تاجُـهـــا الظَّفَرُ
وتلكَ لبنانُ، لــــــــــــو تحكي، فعنه حكَتْ،
فمثْلَه شـــاعــــــراً لــــم تنجِبِ الفِكَــــرُ…
كَراسِمٍ في حــريرِ الضــــوءِ ريشتُه،
ووحيُه أبدعتْهُ الأنجُــــمُ الزُّهُــــــــــــرُ…
كناحتٍ قال مــن زهْــوٍ، ومـــــــــن طرَبٍ:
أعطيتُك الروحَ، فانطُقْ أيُّها الحــجــرُ!
***
مــــــــا كنتَ، يـا عقلُ، في لبنانَ منعزِلاً…
فكلُّ مَـــــن ألبَسوكَ الكُفْرَ قــــــــــد كفَروا
كتبتَ يــــــومـاً لأهــــلِ الشامِ أغنيةً،
هـــــل صَوتُ فيروزَ غنَّاها؟ أمِ الوتــــرُ؟
ومصـــرَ أحببتَ، والأردنَّ، يــــــا وطناً
يـَضـيـقُ لـــولا يَـضـيـقُ الفكرُ، والبصَـــــــــرُ!
كأنَّك الأرزُ، يعلو عـن صغائــرِنـــــــــا،
أو أنتَ صنِّينُ، فــوقَ الفَوقِ يفتخِــــــرُ
وهــا فلسطـينُ مــــــا زالت شوارعُها
تُصْغي إليكَ، وفي أحـــداقِها عِــبَــــــرُ…
أنت المسيحيُّ، للإسلامِ قـد هتفَتْ
أبياتُ شعرِك، فاهتزَّت لها الـعُـصُــرُ!
غنَّيتَ مكَّةَ، والــتــاريـــخُ يَشهَـــدُ أنْ
دِيـنٌ يُــفــرِّق بــيـــن الناس، ينتحِــــرُ.
***
تـــــريــــــدُ لبنانَ فـي العلياءِ، متَّصِــلاً
باللهِ، تَـتـْبَــعُـه الـــدنـــيــــا، فـتـزدهِـــرُ…
مِـــــن قلبِه النــورُ في الأرجـــــاء منبعثٌ،
ومقلتاهُ ربــيـــعٌ ساحـرٌ، نـَــــــضـــــِرُ
فانــظـــرْ إلــيــه شبابـيـكـاً مُــخــلَّــعـــةً،
وقد تربَّع في أنحـــــائــــه الضجــــرُ…
والفقرُ يأكلُه، فالناس مــا شبِعـــوا
خُــبـــــــزاً، ومــــــا تعِبوا إلاَّ ليفتقِــروا!
أبناؤُنا في خيامِ قد نزَلــــــــــوا…
لولا العذابُ، ولولا اليأسُ مـــا هجَروا
كاللاجئينَ، تــركـــنــا البيتَ منهَدِمـــــاً،
بيوتـُنا الحـــــــــــــــزْنُ، والمجهولُ، والسهَرُ…
***
هــــُــمْ يقتلون عـــقـــــولَ التابعينَ لـهــم
فـعـنـدَهُــــمْ قيمةُ الإنــسان تــنــحَــــدِرُ…
ويــَــقـــرَؤُون كلامــــــــاً، ليس يسمــعُـــــه
إلاَّ الذي عـنـدَه في روحِــــــه صِـــغَـــــرُ!
وأنت تسكُــب مــــــن خَـــــــمــــــــــرٍ مُعتَّقــةٍ،
فالناسُ كـــــــــم شربوا منها، وكم سكِروا!
وتستغيثُ بــــكَ الـــــرؤيــــــــــا، فتجعلُـها
قصيدةً في كتاب الــزهْـــــــوِ تُـــدَّخَـــــــــرُ…
والشعر مــــــــــــــا كان إلاَّ الروحَ خالــــدةً،
فالـــــــــــــــــروحُ فِكْـرتُه الـعـنـقـــاءُ، والسُّوَرُ…
وسوف يُكتَبُ: “أنت الشعْـــــــــــرُ فـــارسُهُ”
وسوف تُــذكَرُ في الأبطالِ، مـــــــــــا ذُكِروا
يــــا بعلبكُّ التي في الصــخــــْـــــرِ واقفــةٌ،
على عواميدِهــــــا الإعصــــــــــــــــــــارُ يحتضِرُ.
***
يــا مَــن يُــزَحْـلِـــنُ دُنــيــــا، أو يلبْنِنُها
فـعـرشُ لبنانَ، لم يلحقْ بــــــه النظَـرُ
فليس مـــــن ذهَب غـــــالٍ، ولا خشبٍ،
بـــل إنَّــه ياسمــينٌ أبيضٌ، عَــطِـــــــرُ!
أجـــــدادُنا قرَّبــــوا الأبعادَ مـــن قِــــدَمٍ،
فكم تَسمَّت على أسمائهم جُــــــزُرُ!
قرطــاجُ سيِّدةُ الــدنـــــيــــــا، وقلعتُها
فالفاتحـــُــــونَ على أبــــوابــِــهـــــا قُبـِروا…
نفْدي أليسارَ بالأرواحِ إن صـــــــــرختْ:
“إلى السلاحِ”، وهَبَّ العسكَـــرُ المَجَــــــرُ
وجيشُ مقْدونِيا فـــــي صـُــــــورَ منهزِمٌ
واِبنُها الفَذُّ في الأبــطــــالِ، منْدَحِــــــــرُ!
إنَّ الشقيقَ الــــذي في الحقلِ مــــن دَمِنا
ومـــــــن شهادتِنا الأغصــــــانُ، والثمَــرُ.
***
ننساك نـحــنُ؟ وهــل نَنسى أحبَّتنا؟
وهـُـــمْ كـــمــــا الرعْــدُ في أفكارِنا عبَروا
والمُبْدِعونَ لهم صــــَـــــــــــوتٌ يُــــردِّدهُ
جَـــــوْقُ العصافيرِ لـمَّــا يدفُـــــقُ النهَرُ…
مــــــــاءَ الحياةِ أخذنا عـن موائِدهـــــــــم
وما أكلنا سـوى الخــبزِ الذي كَسَروا…
يفنى الزمــانُ، ويبقى ذكرُهم أبَــــــــداً
والحبُّ يبقى كما الشعرُ الـذي سَطَروا
فكُــنْ سعـيـدُ سعـيــداً فــي مَــحبَّتِـــنــــا،
فنحنُ أهلُكَ: مَن غابوا ومَـن حضَـروا
وعِشْ طـويـــــــلاً، فما التاريخُ مكتمِلٌ
إلاَّ بمــــــن صَـنــعــــوا التاريخَ، وابتكـَروا
فالشمسُ مــن بعدِهم شمسٌ مُطَأطَأَةٌ،
والكونُ مـــــن بعدِهم كالرمــــــــــلِ يَندَثِرُ.
***
*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع – سيدني