بقلم: الأب كميل مبارك
جاءَني في الحلم رجلٌ مُلتحٍ يتجلبَبُ عباءَةً سوداءَ وعلى رأْسه إسكيم، كذاك الذي يعتمره الرهبان سترًا لشعر رؤوسهم وسكينةً تقرِّبُ صلاتهم إلى الهدوءِ الصحراويِّ وصمت البراري. خِلْتَه في بادئِ الأَمر أَبا الرهبان القدِّيس أنطونيوس أَو مار شربل، فدُهشْتُ واعترَتْني قُشْعَريرةٌ هي للحبِّ أَقرب منها إلى الخوف، وتساءَلْتُ عمَّا يريد هذا أَو ذاك من ترائِيهما لي في الحلم. وبينما، أنا في حَيْرَتي وفرحي وحبِّي وخَوْفي ودَهْشتي، سمعتُ صوتًا كأَنّه آتٍ من البعيد البعيد، من وُعورَة الجبال وتِرْداد صدَى الودْيان، وإذا بالصَّوت يقول لي:
قُمْ أنا مارون أَتَيْتُ أَبحثُ عن أُولئِك الذين سمَّوْهم باسمي وانتسبوا إليَّ وقالوا إنَّهم موارنة. فأَفَقْتُ مذعورًا وفركتُ عينيَّ بيديَّ وقلْتُ ماذا عساه يكون كلام مار مارون الذي عاد ليبحث عن الموارنة. وقلتُ لنفسي لو انتظرَ جوابي ماذا كنتُ سأَقول، وأَيْنَ أَدُلُّه على أَتباعه في هذه الأَيَّام؟!!
أَأَقول له إِنَّ الموارنة في جبال قورش حيثُ كنتَ وعشْتَ وصلَّيْتَ، مجموعاتٌ بشرية تسكن ذاكرة التاريخ؟
أَأَقول له إِنَّ أنطاكية المدينة تشتاق إلى رَسْمِ إشارة الصَّليب وإلى سَمَاعِ أَناشيد التَّسبيح ومدائِح أُمِّ الله مريم العذراء؟
أَأَقول له حيث التقى رهبانُكَ في المجامع المقدَّسة في القرن الخامس بات غريبًا عن كلِّ ما قيل في تلك المجامع وما بات عقيدة؟
أَأَقول له إِنَّ أَديارَكَ في أَفاميا والعاصي وما بينهما، أَضْحَتْ حجارةً مبعثرة، وكأَنَّها صورةٌ صخريَّة عن أَتباعك الذين تبعثروا في أَصْقاع الأَرض؟
أَأَقول له إِنَّ الآراميَّة السريانيَّة لغة المسيح ولغتك التي ناشدْتَ فيها الله هدايةً للنَّاس وسلامًا بينهم، قد تلاشَتْ وخرَّبَ الغزاةُ آخرَ معاقِلِها في معلولا وجوارها؟
أَأَقول له إِنَّ أَتباعَكَ الذين اختاروا جبالَ لبنان ووِدْيانِه طَلَبًا للحرِّيَّة وملجأً للعبادة سَعْيًا للقداسة ورَفْع الأَدْعِيَة مع البخور المتصاعد من شُقُوق الصُّخور التي اتَّخَذوها مساكنَ ومحابِسَ ومعابِد، أَصابهم في هذا الزَّمن المرِّ ما أَصاب مواطنيهم من جُنونِ العَظَمَة والطَّمَع بالمكاسِب سلطةً ومالًا وجاهًا، حتى وصلوا في مسارِهِم إلى الاقتتال والدَّمار.
أَأَقول له إِنَّ بلادَ المَشْرِق حيث عطر قداستِك فاحَ عُقُودًا وأَيْنَعَ أديارًا وأَثْمَرَ رهبانًا وطابَ قدِّيسين، وحيث جالَ السيِّدُ المسيح على مُدُنِه وقُراه زارِعًا الرَّجاءَ حاملًا أَوْجاعَ النَّاس ومُطْعِمًا جِياعَهُم، يَلْبس اليوم هذا المَشْرِق ثيابَ الحِدادِ على ماضيه المُزْهِر وعلى أَبريائِه الذين يموتون على يَدِ مَجْهولٍ جاهِل يتحكَّم بمصير النَّاس، وغافلٍ مُظْلمِ العقل يتحكَّم بأَجْسادِهِم وأَرْواحِهِم.
.أَأَقول له إِنَّ كنيستَكَ اليوم تتعرَّضُ لأَلْسِنَةٍ مأْجورةٍ من أَبْنائِك، تُجرِّح المقامات وتَسْتَخِفُّ بالمقدَّسات ولا تُقيم حرمةً لاسمِكَ ولا لكلِّ القِيَم التي أَنْتَ على يَدِ خلفاء ربيبك الرُّوحي مار يوحنَّا مارون أَوَّل بطاركة الموارنة، ولا لدماءِ الشُّهداءِ القدِّيسين من خدمةِ كنيستِك الذين قضَوْا قَتْلًا وحَرْقًا وصَلْبًا على يَدِ جَهَلَةِ التَّاريخ حينًا وناكري فَضْلِكَ أَحْيانًا؟
أَأَقول له إِنَّ أَمْوَاجَ التَّكْفير ضاربَتْ على أَمْواجِ البَحْر فحَمَلَتْ أَبْناءَكَ إلى أَقاصي الأَرض طَلَبًا للرِّزْقِ حينًا وللأَمْنِ أَحْيانًا وللحرِّيَّة في جميع الأَحايين، فامتَلَأَت مُدنُ العالم من بنيكَ حتى لو أَرَدْنا ذِكْرَ كُبْرَيات المُدُن المارونيَّة لَبَدَأْنا في سيدني أُوستراليا ومونريال كندا وباريس فرنسا قبل أَنْ نَصِلَ إلى جونيه وقنُّوبين وما جاوَرَهُما من المُدُن والقُرى؟
أَأَقول له إِنَّ النِّزاعات السياسيَّة مَزَّقَتْ عباءَتَك رُقَعًا رُقَعًا تكمُّ أَفواهَنا حتَّى بِتْنا لا صَوْتَ لنا ولا قُدْرَةَ على الكلام ناهيكَ عن الأَفعال، في وطنٍ بَنَيْناه بالأُخُوَّة والمَحَبَّة والرِّضى، فخَسِرْناه بالأَطْماع والأَحْقاد؟
أَقولُ أَوْ لا أَقولُ وسَكَتُّ لِئَلاَّ يَسْمَع.