عفيف قاووق
بعد رواية “قصّة عشق كنعانية” ورواية “أخناتون ونفرتيتي الكنعانية” ها هو صديقنا الروائي صبحي فحماوي يواصل الحفر والتوغل في تاريخ الكنعانيين بهدف إبرازه وإعادة إحيائه وتقديمه بالصورة التي تليق به، ويُطلّ علينا مجدّداً بتحفته الكنعانية عن القائد هاني بعل الكنعاني.
وقبل الولوج في سياق أحداث سيرة ومسيرة هاني بعل، لم يشأ الروائي صبحي فحماوي إلا ان يعرّج بنا لنتعرّف على بعض مظاهر الحياة الكنعانية من خلال كتابة تصويريّة تُدخل القارىء إلى قلب الحدث حيث مسرح الحكواتي المزنّر بشال كنعاني حريري وعلى رأسه عمامة أرجوانية اللون، ناهيك عن التجوال في مدينة صور وهيكلها الكنعاني بطوابقه السبعة وما يعنيه الرقم سبعة لدى الكنعانيين من دلالات، إضافة الى خيمة تابوت العهد الكنعاني، والميناء البحري المدجّج بالسفن التجارية على إختلاف أنواعها.
ونحن نقرأ هذه الرواية، لا بُدَّ من التوقّف ملياً أمام تلك الأسطورة وهي عبارة عن نصّ أوغاريتيّ صدّر بها الروائي روايته، وهذه الأسطورة معروضة في متحف اللوفر الباريسيّ، نتعرف من خلالها على أخلاقيّات الكنعانيين ومناقبيّتهم، التي نحن بأمسّ الحاجة إليها في يومنا هذا بعد أن تقدّمت المادة والمنافع الشخصية على حساب العلاقات الإنسانية السويّة ومكارم الأخلاق. وللدلالة على عمق هذه الأسطورة ورسالتها، أكتفي بذكر بعض الأمثلة عن تلك المفاهيم الكنعانية وكيف كان الكنعاني بأخلاقه يُمَثّل عيناً لضرير ويداَ لمشلول وساقاَ لكسيح وأباَ ليتيم، وانه كان يحفظ السر ويستُر على عورات وسقطات جيرانه.
ولم يكن هاني بعل بعيدا عن هذه القيَم والمفاهيم بل كان يتحسّس معاناة الحُفاة من أبناء الفقراء، ويشعر بشعورهم وهم يرعون الأغنام والماعز(43). أما في تعامله مع جنوده فكان واحداً منهم، “كنت أنام على الأرض داخل خيمة مفروشة بالجلود بين جنودي، وفي وقت الطعام الموزع على الجميع بالتساوي” فالقيادة كما يفهمها هاني بعل هي “أن يكون القائد مثالاً في القول والعمل أمام جنوده يرعاهم بشعوره معهم ويكتسب محبتهم”.
يلامس صبحي فحماوي في روايته هذه الكثير من الحقائق التاريخية والتي طُمست عمداً ليعيد الوهج والتألق لسيرة ومسيرة هاني بعل الذي “زاره” كما تخيّل في المنام قائلاً له:”لقد تمّ تجاهلي ونسياني يا رجل، وإذا ذُكرتُ في جلساتهم، أو دُوِّنت في كتبهم، تم تشويه سيرتي، إذ أن معظم الكُتّاب الرومان كتبوا صفحات سوداء عن شخصيّتي، فأساءوا إليّ رغم أنني قادم لتحرير شعبهم من بطش قناصلهم وأثريائهم.” 137.ولأنك روائي معروف بحفرك حول تاريخك الكنعاني فأنا اخترتك لتُخرجني من غياب التاريخ الذي ظلمني وعتّم عليّ إلى حيّز الوجود”.
ومن خلال السرد التخيُّلي لما قدّمه حكواتي المسرح الكنعاني “جوال” وما أضافه المؤلف نتيجة حواره الليلي مع هاني بعل، يتّضح للقارىء بأن قدر قرطاجة -بقيادة هاني بعل ومن قبله والده هاملكار البرق- كان التصدي لأطماع الرومان ومنع روما من الإستيلاء على مواقع بحر الكنعانيين التجاري، فالرومان ” لا يريدون تحقيق العدالة أو إزالة الغبن عنهم، وإنّما يريدون الإعتداء وتحقيق السيطرة على الآخرين وامتلاك البحر الكنعاني، أمّا القرطاجيّون فيريدون تحقيق حرّية التنقُّل والإبحار لجميع الناس بلا إستثناء”(41).
لقد أنصفَت الرواية هاني بعل ووالده هاملكار البرق، وأبرزَت الجانب الإنسانيّ في شخصيّتهما، الأمر الذي لم نجده عند قادة روما الذين لم يوافقوا على طلب الهدنة لدفن القتلى عندما كان هاملكار منهزماً، في حين ان الأخير عندما إنتصر عليهم، وافق على إعطائهم هدنة لدفن قتلاهم وكذلك فعل هاني بعل عندما أرسل إليهم جثمان أحد قادتهم في تابوت لدفنه بالرغم من أنّ الرومان قتلوا أخاه ومثّلوا في جثّته.
لم يكن هاني بعل صاحب رؤية إستعمارية أو عدائيّة تجاه روما، بل كان ينشد السلام والحرّية والتعايش بين الشعوب، وإن أبدى رغبةً في دخول روما، فإنه كما قال،”ليس لإستعبادها والسيطرة عليها، ولكن لتخليص الشعب الروماني من سيطرة الطغمة الحاكمة المتسلّطة على رقاب العباد، نريد تحويل روما من دولة مفترسة إلى دولة جارة محبة للشعوب (62).
لقد سلّطت الرواية الضوء على ما اعترض هاني بعل ووالده هاملكار البرق خلال حروبهما المتنقّلة مع الرومان من تحدّيات وصعوبات، فإذا كان الرومان هم العدو الخارجي والمُعلن، فقد برز من داخل مملكة قرطاجة ما يعيق تحرّكهما بسبب تعنُّت وتخاذل مجلس شيوخ المملكة في كثير من الأحيان في نصرة هاني بعل، لأنّ مجلس الشيوخ هذا تحكمه وتتحكّم به طبقة التجّار والرأسماليّين المُنتمين لعشيرة هانو المناوئة لعشيرة البرق والتي ينتمي إليها هاني بعل. وحجّتهم في ذلك كما قال احدهم:”لا نستطيع أن نفهم خطط هذا الشاب الصغير، هذا الذي يُربك معيشتنا ويجعلنا قلِقين على تجارتنا المستقرّة،لا بُد أن يتوقّف هذا الشاب المتهوّر عن مغامراته الطائشة.(65). ويبدو ان السبب الحقيقيّ وراء تمنُّع مجلس شيوخ المملكة وعشيرة هانو عن نصرته، هو خشيتهم من ان يقوى نفوذه في حال انتصاره على روما، ممّا يهدّد إمتيازاتهم التي ينعمون بها كما أفصح أحد أعضاء المجلس عندما قال :” أيها النبلاء، إن ً إرسال التعزيزات من قرطاجنة ستجعله يحتلّ روما ويعود إلينا منتصراً، وما دام منتصراً فسوف تتغيّر معاملته لنا، وستكون بيده ويد جيشه القدرة على الهيمنة وإبعادنا عن مواقع الحكم والقرار (127).
وكأن”التاريخ يعيد نفسه” فما أشبه الأمس باليوم اذا ما نظرنا حولنا وما يجري من تجاذبات وصراعات داخلية ضمن بلداننا ودولنا العربية وتشتّت الإرادة الوطنية، ونشوء مراكز قوى متصارعة، كلّ منها يسعى لتحقيق مصالحه ومنافعه دون الإلتفات للمصلحة الوطنيّة الجامعة، مما يسهّل على المتربّص بنا مهمة التغلغل وتنفيذ مخطّطاته وأهدافه، فكما ان “ليست روما ولكن مجلس الشيوخ القرطاجيّ هو الذي هزم هاني بعل” فمن الممكن القول ليس المُحتلّ الغاصب، ولكن تفرُّق الإرادات العربية هي التي أضاعت ربّما فلسطين.
وما أروع ما اختتم به صبحي فحماوي روايته اذ قدّم لنا كلمة أخيرة من هاني بعل أو لنقُل خلاصة لتجربته حيث نقتطف منها هذا البعض من التوصيات:” كُن حذِراً إذا حقّقت النجاح، فسوف تكسب أصدقاء مزيّفين وأعداء حقيقيّين، وحسب اعتقادي، فلا شكّ أنّ الصدق والصراحة يجعلانك عرضة للانتقاد، لا تتنازل عن حمل الأفكار العظيمة في كل الظروف، حاول دائما أن تجاهد من أجل المستضعفين. ويختم بالقول إن الناس يا عزيزي صبحي في أمسِّ الحاجة الى المساعدة، لكنهم لا يتورّعون عن مهاجمتك حتى لو ساعدتهم” .
ختاماً، إذا كان صبحي فحماوي في مقدّمة روايته يقول:” “لا أكتب ما أعرفه عن هاني بعل، ولكنني أكتب لأعرف”. فإنّنا بدورنا نقول نحن قرأنا وسنقرأ لنعرف.