د. علي حجازي
قصّة قصيرة من مجموعة “عطر التراب ” التي أعمل على إصدارها قريباً بإذن الله
بعد سفر طويلٍ، حضر صديقي محمود إلى لبنان، وجاء يزورني ردّاً لزيارة تهنئته بالعودة سالماً، قمت بها فور وصوله إلى ربوع بلدتنا التي شهدت يفاعة شبابنا، وحداثة عمرنا. يومذاك، حدّثني طويلاً عن المعاناة التي عاشها في بلاد الاغتراب. وكاد أن يدلق إلىّ الحنين الذي أحسّ به هناك، الحنين إلى ربوع ترعرع بين أحضانها، وإلى سنوات قصيرة عشناها معاً هنا، بحلوها ومرّها.
جلسنا في صحن الدار، تحوط بنا الأزهار والورود، وأشجار الحديقة المثمرة وغير المثمرة. سرعان ما وقع بصره على زنبقة رائعة الجمال، كانت تختال مع مثيلاتٍ لها تزين الحوض القريب. نهض وتوجّه صوبها، دنا منها وقال
-لهذه الزنبقة وقعٌ خاص في نفسي. إنَّها تذكّرني بأمي التي كانت تحبّها كثيراً، وتزرعها في صحن الدار.
-هي لك، إذا رغبت بنقلها إلى بيتك هنا؟
-بالواقع، أرغب في زرع واحدة، إذا سمحت.
-تفضّل، لك ما تريد.
أمسك بها، وراح يشدّ ساقها الطريّة، وقبل أن أطلب إليه التمهّل، ريثما استشيلها من تربتها برفق، كانت الساق قد انفصلت عن الجذر الذي بقي متشبثاً بالأرض. فوقف متأسفاً، وقد اعتراه خجل شديد.
-لا همّ، فأنت لم تتعلم طريقة نقل الورود والأغراس بعد
-هل هناك طريقة غير التي قمت بها الآن؟
-نعم، الآن أريك الكيفية التي تتعامل بها معها.
أخذت إبريقاً، وشرعت أسكب الماء على التراب الذي يحوط جذعها، يحتضنه بقوة. وبعد دقائق، حنوت على الساق، أمسكته برفق، وشددت به بلطف، فحصلت عليها كاملة، مع جذرها الذي لا يزال التراب المشبع ماءً عالقاً به
توجّه صديقي إليّ متعجّباً وقال:
-كيف استطعت أن تقوم بهذا، من دون أن تلحق بها الأذى الذي تسببت لمثيلتها به قبل قليل؟
-بعض المخلوقات يشبه النباتات والشجر ، قليلا ما يرتبط بمكان واحد، تراهم مسرعين في مغادرة المكان الذي شهد ولادتهم ونشأتهم. فالماء الكثير الذي ينزل دفعة واحدة على جذع النباتات والشجر ، سرعان ما يعمل على فكّ ارتباطها الوثيق بتربتها.
اعترى وجه صديقي احمرار، وشرع يحدّق إليّ، ثم قال:
-كأنّك تقصّ حكاية انفصالي عن هذا الوطن؟ حكاية الوعد الذي تلقيته بالغنى السريع هناك في البلاد التي اتخذتها موطناً لي، أجل، ذلك الوعد كان مفعوله في نفسي شبيهاً بهذا الماء الذي عمل على نقل هذه الزنبقة. أما الغنى الذي حصَّلته هناك، فهو الذي حال دون عودتي، وجعل غربتي تطول كثيراً.
-قال ذلك، ومسح دمعتين همتا على خدّيه رغماً عنه، ثم تابع مسوّغاً ذلك الغياب الطويل قائلاً:
-ألم تر أن هذه الزنقة تموت إذا ما أصابها عطش شديد؟
-بلى، إنها تموت، من دون شك.
-ألا ترى معي أنّني كنت سأعاني الأمرّين هنا، في ظلّ عدم توافر مسببات الحياة الرغيدة. أنت حظيت بوظيفة أمّنت مستلزمات حياتك. أما أنا، فلم أجد بدّاً من السفر يا عزيزي.
-هذه الزهرة مثلها مثل الإنسان تماماً، بقليل من الماء تعيش.
القناعة مهمة في حياة الكائنات، وهي ضامنة بقاءها متشبثة بأرضها. وأنا لا ألومك على خيارك الذي اتخذته رغبة في تحسين ظروف العيش.
إن هذه الزهرة التي قصفت ساقها، ظلَّت متشبثة بتربتها واعدةً بالنمو والإزهار من جديد، ولم أقدر على انتزاعها كاملةً من جذورها من دون الماء الكثير الذي حلّ رباطها مع موطنها الذي شبّت فيه.
نظر إليّ طويلاً وقال:
-أتسمح لي بإعادة زرعها حيث كانت؟ فأنا اشتقت الى تربتي هذه، ومنذ هذه اللحظة قررت إجراء سفر أخير، أُنهي فيه ارتباطي بتراب تلك الديار، وأعود لأعيش هنا، بينكم ومعكم، وأموت آمنا مطمئناً هنا، فتحتضنني الأرض التي احتضنت أهلنا وأجدادنا.
فالأرض وطن، والحنين إليها وإليه مهما كان قويا فإنّه غير مجدٍ، ولا يصيب المهاجر بسوى الوجد والاحتراق الذي قد يودي به الى اكتئاب.
قبل أن يغادر توجّه إليّ وقال:
-شكراً لك، ولهذه الزهرة القانعة، علّمتني الآن، درساً في المواطنة وحبّ الأرض لن أنساه ما حييت.