البطريرك الراعي في المذكرة الوطنية: لن نتفرج على ما يهدد مستقبل لبنان وإعلان بعبدا أساس والطمع في السلطة سيأخذنا الى الهاوية

مقدمة
1- في خضم الأزمات التي يمر بها لبنان، وتأثره بما يجري من حوله في المنطقة من تحولات جذرية، نقف اليوم على مسافة ست سنوات من الاحتفال bkerkeبالمئوية الأولى على إعلان لبنان دولة في سنة 1920 ، باسم “لبنان الكبير”. كما نجد أنفسنا على مشارف عهد رئاسي جديد، وفي مرحلة دقيقة وصفها البابا فرنسيس بأنها مرحلة مقلقة، نتيجة صراع سياسي سيؤدي، إذا استمر، إلى المزيد من “الاختلافات التي من شأنها أن تقوض استقرار البلاد”.

 والكل يعلم أن إعلان “لبنان الكبير” أنجزته جهود البطريرك الياس الحويك، الذي حمل إلى مؤتمر السلام في فرساي، سنة 1919، أماني اللبنانيين المشتركة في تحقيق وطن يليق بالإنسان. فلا يسع الكنيسة المارونية المؤتمنة على هذا التاريخ الحضاري، وعلى تراث هذا البطريرك العظيم، كما درجت العادة في الأوقات المفصلية من تاريخنا، وعبر إصدارها مذكرات وطنية، إلا أن تعيد التأكيد على الثوابت التي تؤمن بها، وتطرح الهواجس التي تراود الشعب، وترسم أسس المستقبل، وتحدد أولويات يتمسك بها اللبنانيون، من أجل مستقبل أفضل.

2  – وقد أرادت الكنيسة المارونية أن تضع هذه المذكرة، ونظرها متجه نحو سنة 2020، لتشدد على استمرار فعل إيمانها بلبنان، بلداً مشدوداً إلى المستقبل، أعطي لأبنائه وعداً ومهمة، بما أنهم أرادوه وطن الإنسان، “ووطنا نهائيا لجميع أبنائه”(الفقرة أ من مقدمة الدستور)، ولتؤكد أنه حان الوقت لترجمة هذا الإيمان بالتركيز على أسس قيام الدولة، والالتزام بها فعلا لا قولا، من قبل كل القوى السياسية في لبنان، لأن الدولة الفاعلة والقادرة والمنتجة، هي التعبير الحقيقي عن الإيمان بالكيان والمشروع اللبنانيين.

3- إن البطريركية المارونية تدعو الجميع إلى التمعن بطبيعة هذا الوطن، الذي يولد ويتطور باستمرار من تجربته التاريخية الطويلة في العيش معاً. وفعل الإيمان هذا يعني أن الكنيسة تنظر بواقعية، ولكن برجاء أيضاً، إلى المستقبل، على رغم الأزمات التي لم يخل يوماً منها تاريخنا، وقد استفدنا من معظمها في السابق لبلورة هويتنا الوطنية.

أولا: الثوابت الوطنية

تركز المذكرة على ثلاثة: العيش المشترك، الميثاق الوطني، والصيغة.

1 – العيش المشترك

4-  ليست مقولة العيش معاً التي يتمسك بها اللبنانيون شيئاً عرضياً أو شعاراً مرحلياً، إنما هي لب التجربة اللبنانية، على الرغم من بعض التصرفات التي تحدو بالبعض أحياناً إلى الشك بهذه التجربة. وهذه المقولة تحمل مضموناً صريحاً، كان البطريرك الحويك قد ترجمه بعبارات بليغة، يوم حمل مشروع لبنان الكبير، باسم جميع اللبنانيين، إلى مؤتمر السلام في فرساي بفرنسا(1919). وقد لخص هذه التجربة بقوله لرئيس حكومة فرنسا: “إسمحوا لي (…) بأن ألفت انتباهكم إلى هذه الميزة التي تكشف عن تطور عميق عظيم التبعات، وهي الأولى في الشرق، التي تحل الوطنية السياسية محل الوطنية الدينية. وبحكم هذا الواقع، ينعم لبنان بطابع خاص، بشخصية يحرص على الحفاظ عليها قبل كل شيء. إنه لا يستطيع، وفقاً لمصلحة الحضارة نفسها، أن يضحي بها لأي اعتبار مادي الطابع”. إن صلب العيش المشترك هو إذاً، الانتماء إلى مشروع حضاري التقى فيه الإسلام والمسيحية، وأتيا به برهاناً على أن الأخوة بين البشر وأبناء الحضارات والديانات المختلفة، ممكنة تاريخياً، وأن الإنسان يحق له الوجود والمشاركة السياسية بعيداً عن أي تصنيف أو أي اعتبار آخر، وذلك بحكم انتمائه إلى وطن يليق به.

وقد أرسي هذا المشروع الحضاري على ثوابت ثلاث: الحرية، والمساواة في المشاركة، وحفظ التعددية، وهي ثوابت في أساس تكوين الدولة اللبنانية. وقد أثبتت التجربة التاريخية أن هذه الثلاث هي للبنان بمثابة القلب، وأنها هي التي أعطت لبنان أبعاد خصوصيته التي يحرص جميع اللبنانيين على الحفاظ عليها. وكان التعبير الأبلغ عن هذه الخصوصية إنشاء الكيان اللبناني الذي يحميها، ويتيح لها حمل رسالتها في محيطها.

 2- الميثاق الوطني

5-  لقد أراد اللبنانيون “الميثاق الوطني” شريعتهم السياسية، باعتباره خلاصة تاريخ مشترك من تجربة التعايش المسيحي – الإسلامي، وتكريسا للثوابت الثلاث المشار إليها. لذلك لم يكن الميثاق يوماً مجرد تسويات، أو تفاهمات عابرة، يقبل بها اليوم ويراجع في شأنها غداً، أو يتم التراجع عنها في أوقات تضارب المصالح والخيارات.
6- وقد عبر منجزو الاستقلال سنة 1943 عن مفهومهم للميثاق، بشعار “لا شرق ولا غرب”، فأرادوه أولا كقاعدة لتأسيس دولة تحقق أماني اللبنانيين جميعاً وتبعدهم عن المحاور والصراعات، بتخلي خصوصياتهم عن الانشداد إلى اعتبارات تتخطى الكيان اللبناني ودولته، وثانيا كأساس لبناء علاقات هذه الدولة مع الخارج، المدعو إلى الاعتراف بخصوصية لبنان، لكونه مثالا للعيش معاً بين الديانات والحضارات المختلفة.

3- الصيغة
7-  ولعل من أهم التطبيقات العملية للتجربة الميثاقية “الصيغة”، التي تعتبر تجسيداً لحكمة الميثاق في تنظيم وتحقيق المشاركة الفعلية بين المكونات اللبنانية في النظام السياسي. وقد أتت الصيغة لتعكس التجربة التاريخية التي أثبتت بأن لبنان لا يقوم إلا بجناحيه المسلم والمسيحي. والصيغة لم تقم يوماً على مقاييس العدد. وكما يقول أحد حكمائنا: “التجربة اللبنانية قررت أولا وجود وطن، ومن ثم غاصت في التفاصيل الأخرى للتجربة اللبنانية”. واعتبر ذلك مسلّمة تاريخية كرستها التنظيمات التي وضعت للبنان منذ المتصرفية، حتى سنة 1943، وصولا إلى مؤتمر الطائف سنة 1989. حتى أن دستور الجمهورية الأولى، كما يقال، عندما أقر إزالة الطائفية بعد حين، لم يتعرض للتمثيل الطائفي في المجلس النيابي لاعتباره مكرسا للخصوصية اللبنانية، وربط إزالة الطائفية في وظائف الدولة والحكومة بشرط عدم المساس بالعدالة والوفاق، وبعدم جلب الضرر على الدولة.

8- إن ما أنجزه اللبنانيون معاً، في زمن التأسيس، من ميثاقية وخبرة دستورية وسياسية، خليق بأن نفخر به، وبأن نستعيده في هذا الزمن الدقيق الذي يعيشه لبنان والمنطقة. وهو يصلح لأن نستلهمه في حياتنا الوطنية، وفي خياراتنا السياسية، كي نتلافى ما قد يعرض جوهر التجربة التأسيسية لانتكاسات خطيرة تقوضها من الداخل، ونبني عليه في تطلعنا نحو المستقبل.

ثانيا : الهواجس الراهنة

1-  هاجس الوضع الراهن

9- لقد بلغ الوضع الراهن مرحلة الأزمة المصيرية، وهذا لا يخفى على أحد. والكنيسة المارونية التي كانت رائدة في التزامها “القضية اللبنانية” على مرّ العصور، لا يمكنها أن تقف موقف المتفرج مما يهدد مستقبل لبنان. والتزاماً منها بهذه القضية، عقدت بعد الحرب اللبنانية، مجمعاً مارونيا (2003-2006)، أجرت خلاله مراجعة عامة لكل حياتها ورسالتها، ومن ضمنها الموضوع الوطني. ورأت في الخلاصة أن ما ينقذ التجربة اللبنانية، هو مضي اللبنانيين قدماً في استكمال إنجاز بناء الدولة، طبعاً وفقاً للميثاق والدستور. وحرصاً منها على هذا الأمر أعدت أيضاً “شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان”(2009)، تعمقت فيها في هذا الموضوع وأقرت توجهات واضحة للمستقبل. وقد شكلت هذه النصوص نوعاً من جرس إنذار مبكر، حيال ما آل إليه الوضع الداخلي اللبناني الذي يذهب مذهباً مقلقاً.

10  – فعلى اللبنانيين أن يعوا بأن أي مشروع وطني لا يمكن أن يتجذر في الواقع، إلا إذا أنتج دولة عادلة وقادرة ومنتجة، في كيان مستقر يخدم الإنسان… وإلا، يكون المشروع الوطني غير قابل للتطبيق، والكيان دائم الاهتزاز، والمواطن في مهب الريح. ومن نتائج هذا المنزلق الخطير، بروز “الأمن الذاتي” الذي يعلل مبرر وجوده بعجز الدولة عن الوقوف في وجه المخاطر الحيوية، فيبيح لنفسه حق الدفاع عن ذاته… وعندئذ ينجر القوي إلى فرض خياراته على الآخرين، فتبدأ المواجهة في الداخل، ويلجأ كل فريق إلى الاستقواء بالخارج، فتدخل البلاد في صراع المحاور. هذا هو هاجسنا الأكبر الذي يحكم على لبنان بحال من العجز السياسي الخطير، الذي لم يعرفه في أحلك الظروف التاريخية. لذا نحذر جميع اللبنانيين، ولاسيما المسؤولين السياسيين، من استمرار التفرد والتعنت والطمع في السلطة، فذلك سيأخذ لبنان نحو الهاوية.

2-  قضايا متصلة

من  أبرز القضايا المتصلة بهذا الهاجس:

11-  أولا، عدم الوضوح في تحديد “المصلحة الوطنية المشتركة العليا” والالتزام بها، ما يؤدي في الغالب إلى ممارسة سياسية تجنح إلى المحاصصة ودوائر النفوذ، بدلا من تحقيق العدالة احتراماً للميثاق ومنطق الدولة. لذلك برز اليوم عندنا الصراع على تنازع السلطة على حساب الميثاق، وتعطيل الدستور لصالح صراع القوى، وشل الدولة جراء لعبة تجاذبات المحاور الخارجية.

12-  ثانيا، تكبيل المؤسسات الدستورية ورهنها بخيارات الأفرقاء الذين يدعي كل منهم أن خياراته هي المنجية. فليس من المنطق بمكان أن يتغنى اللبنانيون بأن لديهم ديمقراطية ودستوراً ومؤسسات، وهم في معظمهم يناقضون الديمقراطية لصالح الاستقواء، ويعلقون الدستور رهناً بحسابات ذاتية أو فئوية، ويعطلون المؤسسات باستغلالها كل على هواه. وقد طغى على الحياة السياسية عندنا استغلال مبرح “للديمقراطية التوافقية”، ما أدى إلى عجز اللبنانيين عن إيجاد الحلول داخلياً، وحاجتهم الدائمة إلى ناظم خارجي يبدع لهم التسويات.

13-  ثالثا، عرقلة تكوين السلطة. ومن النتائج الخطيرة لتكبيل المؤسسات الدستورية تحويل الاستحقاقات الدستورية بمهلها أزمات وجودية، بدلا من أن تكون فرصاً للديمرقراطية من أجل تداول سلس للسلطة، وكأننا أمام صراع آلهة في الأساطير اليونانية. وخير مثال على ذلك: عدم التوصل إلى اتفاق على قانون انتخابي عادل، وعدم إجراء الانتخابات في موعدها، ما أوصل إلى تمديد للمجلس النيابي، وعدم التمكن من تشكيل حكومات في مهل معقولة، والتخوف من إحداث فراغ في رئاسة الجمهورية.

14- رابعاً، إقحام لبنان في قضايا الجوار من دون التبصر في ما يعود به ذلك على الوطن وتركيبته. ويبدو أن المبدأ الميثاقي “لا شرق ولا غرب”، بما يعنيه من عدم الالتحاق بمحاور، لم يعد يحكم تحركات بعض الجهات اللبنانية نحو الخارج. فهل فقد اللبنانيون الثقة بتجربتهم حتى يتخلوا عن دورهم كسفراء للتجربة اللبنانية، يحملون رسالتها إلى الدول التي تحتاج إلى نماذج تعايش بين الحضارات والأديان، وإلى دساتير تكرس حق الجميع بالمشاركة السياسية الفاعلة، لا الصورية أو الوهمية؟

3-  حياد لبنان

15- تبرز هنا أهمية قضية حياد لبنان الإيجابي التي تبرهن بالفعل عن الإيمان بالتجربة اللبنانية. إننا نعي ما يقوله البعض بأن حياد لبنان اليوم يـضر بمصالحه العليا، لأنه بذلك يعزل نفسه عن الحضور إلى طاولة الحل في المنطقة. إلا أننا نؤكد مجدداً أن الحياد هو أنجع الطرق للحفاظ على التعددية في البلدان المركبة، كما أظهرت ذلك تجارب التاريخ. كما أننا نجزم أن حياد لبنان المرتكز على قوته الدفاعية بدعم الجيش وسائر القوى الأمنية، والملتزم قضايا الأسرة العربية، وبخاصة القضية الفلسطينية، وتلك المتعلقة بالعدالة، والعيش معاً، والتنوع في الوحدة، وحقوق المواطنة، وبناء السلام، يشكل حاجة للمنطقة تفرض وجوده. وكي يتمكن لبنان المحايد من تأدية رسالته، يجب أن يكون قوياً للدفاع عن نفسه ولخدمة محيطه. وإلى أن يستطيع استكمال مسيرة هذا الحياد، يجب العمل على تحييده عن الصراعات بين المحاور الإقليمية والدولية، كما نص عليه “إعلان بعبدا”، الذي يعتبر خطوة مهمة على هذا المسار، وعدم السماح باستعماله مقراً أو ممراً أو منطلقا لأي عمل من شأنه أن يورطه في هذه الصراعات أو في أزمات تتنافى وخصوصيته، والتوصل إلى الإستراتيجية الدفاعية الوطنية المنشودة، التي تمكن لبنان من استرجاع أراضيه وحماية حدوده.

ثالثا: أسس الانطلاق نحو المستقبل

16-  تجاه كل ذلك لا بد للبنانيين من وقفة وجدانية يطرحون فيها على أنفسهم السؤال التالي: أي مستقبل يريدونه للبنان، وعلى أي أسس؟ وهو سؤال يعني أيضاً العهد الرئاسي الجديد الذي سيقود لبنان إلى الاحتفال بالمئوية الأولى على قيام لبنان الكبير.

1- المصلحة الوطنية العليا

17- إن الكنيسة المارونية الحريصة على ما أنجزه اللبنانيون معاً منذ إنشاء لبنان الكبير وحتى هذه اللحظة، ترى أن الخروج من الأزمة الراهنة لا يكون إلا بالعودة إلى المصلحة الوطنية العليا على أسس الميثاق والدستور، لأن لبنان، إما أن ننجزه معاً أو لا يكون. ويحتاج ذلك إلى حوار شفاف وصريح يفضي إلى سلام داخلي حقيقي، وإلى تحديد الأولويات للنهوض بلبنان. وهاتان المسؤوليتان ملقاتان أيضاً على عاتق رئيس الجمهورية الجديد، الذي يعد انتخابه ضرورة للبنان، كي يظهر لذاته وللعالم أنه بلد يحترم ديمقراطيته في تداول السلطة، وأنه حريص على دستوره.

2- الحوار الداخلي

18- كي ينجح الحوار الداخلي في ترسيخ سلام حقيقي، يجب أن يحصل في إطار المؤسسات، استكمالا لهيئة الحوار الوطني، وأن تحكمه آليات الديمقراطية التوافقية التي تنطلق من أسس الميثاق والدستور، حتى تأتي نتائج الحوار ملزمة وهادفة إلى ما فيه خير لبنان، كل لبنان، وكل اللبنانيين.

3-  التأكيد على الميثاق 

19- الميثاق روح وعهد، تجسده صيغة عقد ملزمة، في كيان ودولة. والتأكيد على هذا الميثاق يحتم:

أولا، العودة إلى جوهر الميثاق والالتزام بجوهر الصيغة، لأننا بهما نقفل باب الاستقواء بالخارج، والتفرد في الداخل، والمس بالسيادة الوطنية، ونعطي رصيداً لتجربتنا التاريخية، يحترمنا الغير لحرصنا عليها وتمسكنا بها.
ثانيا، التمسك بأبعاد صيغة “لا شرق ولا غرب”، فهي صيغة رسمت تجاه الخارج وعلاقة لبنان به، وتعني حياد لبنان الإيجابي الذي يخدم خصوصية لبنان كعنصر حيوي لنجاح التجربة اللبنانية، وكحاجة حضارية وقيمة مضافة للمنطقة والعالم.

20- ويحتم ذلك على لبنان:

خدمة محيطه المشرقي والعربي، وتبني قضاياه المحقة، وإنماء علاقات التعاون مع بلدانه، ومساعدتها على صناعة السلام واحترام حقوق الإنسان، وصون الحريات وإدارة التعددية، مع الالتزام بقرارات الشرعية الدولية، وبكل شأن إنساني.

إصرار لبنان على أحقية القضية الفلسطينية، وبالتالي حق الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم، وفي إنشاء دولة خاصة بهم على ترابهم الوطني، وبالتالي رفض لبنان أي شكل من أشكال التوطين الفلسطيني على أراضيه، وفقاً لما جاء في مقدمة دستوره.

وجوب إحلال السلام في سوريا بسرعة، ومساعدة أبنائها على تقرير مصيرهم بحوار نزيه في ما بينهم، وتأمين الاستقرار فيها حتى يعود أبناؤها النازحون إلى ديارهم مكرمين أعزاء وسالمين. وفي سرعة إحلال السلام وعودة النازحين مصلحة لبنانية حيوية.

تفعيل دور لبنان في العالم العربي الذي ينتمي إليه، وتعزيز الانفتاح والتواصل مع المجتمع الدولي، ثقافياً وتجارياً واقتصادياً، بروح الصداقة وتبادل قيم الحداثة والتراثات، عبر اللبنانيين المنتشرين، وعبر الدولة اللبنانية ومؤسساتها.

إن استقرار لبنان في الداخل مرتبط برسالته ودوره في حفظ السلام وبناء الدول الديمقراطية حوله، وهي مناسبة لإعادة تأكيد الالتزام بقرارات الشرعية الدولية، ولا سيما بالقرار 1701، والإعراب عن التقدير الخاص لقداسة البابا فرنسيس والكرسي الرسولي على رعايتهم ودعمهم المستمر للبنان ورسالته، وعن الشكر للدول المشاركة في قوات حفظ السلام الدولية في لبنان.

4 – التأكيد على صون الدستور والتقيد به

21-التقيد بالدستور يحتم:

أولا، الحفاظ على المكتسبات الدستورية من حريات شخصية، ومدنية الدولة، وديمقراطيتها، وضمانة مشاركة المكونات كلها، والانفتاح على التطوير انطلاقاً من الدستور. عملياً، لا بد من حراسة هذه القيم المؤسسة للوطن عبر تطبيق المناصفة الفعلية في المشاركة المسيحية – الإسلامية في الحكم والإدارة، وعلى المساواة في الحقوق والواجبات.

ثانيا، الالتزام الجدي ببناء الدولة العادلة والقادرة والمنتجة من خلال: حفظ السيادة، وحصرية القوة العسكرية في يد الشرعية، باستكمال بناء جدي لجيش عصري، مجهز بالعتاد والأسلحة المتطورة الهادفة، وتقوية قوى الأمن وسائر الأجهزة الأمنية؛ ومن خلال حماية استقلالية القضاء وحرمته، ودعم هيئات الرقابة وتفعيلها، وفرض سلطة القانون على الجميع من دون أي استثناء أو تمييز؛ ومن خلال ضبط التدخل السياسي الزبائني في الإدارة، لئلا يشل عمل المؤسسات ويغطي المحسوبيات والفساد؛ ومن خلال تعزيز الإقتصاد وإيجاد فرص عمل للمواطنين.

ثالثا، الالتزام بتفعيل عمل المؤسسات الدستورية وانتظامها وعدم تعطيلها، لأن في ذلك دلالة على مستوى تقدم الدول في الديمقراطية، وعلى نضوج الشعوب فيها.

رابعا، انفتاح لبنان على قوة أبنائه في الانتشار، كامتداد فعلي لثروة لبنان الإنسانية والحضارية. وشد الروابط الوطنية مع المنتشرين في كل ما يؤول لخيرهم وكرامتهم. والعمل على منحهم حقهم في الاقتراع، وعلى إقرار قانون استعادة الجنسية. والتعاون معهم في حمل القضية اللبنانية والعربية إلى مجتمعاتهم.

خامسا، يبقى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كرئيس للدولة وحام للدستور، من ضمن المهلة المحددة دستورياً وخارج أي جدل دستوري، الشرط الأساس الذي من دونه لا حضور للدولة ولا انطلاق نحو المستقبل.

رابعاً – تحديد الأولويات

22 – من كل ما تقدم بشأن الثوابت الوطنية والهواجس الراهنة وأسس الانطلاق نحو المستقبل، نحدد الأولويات التالية برسم جميع اللبنانيين، ولاسيما المسؤولين من بينهم:

أولا، استكمال بناء سلطة الدولة داخلياً وبسطها على كامل الأراضي اللبنانية، والمساعدة على تحفيز القوى السياسية اللازمة لإدارة الحكم، ولإعادة بناء الدولة ومؤسساتها المركزية، والحرص على الدستور، وفصل السلطات، واحترام حرمة القضاء.

23-  ثانياً، وضع قانون انتخابي نيابي جديد وفق الميثاقية اللبنانية، بحيث يترجم المشاركة الفاعلة في تأمين المناصفة الفعلية، والاختيار الحر، والمساءلة والمحاسبة، ويؤمن التنافس الديمقراطي، ويلغي فرض نواب على طوائفهم بقوة تكتلات مذهبية.

24-  ثالثاً، إقرار اللامركزية الإدارية الموسعة وتطبيقها، لكونها تؤمن إدارة أفضل للتنوع في الوحدة وتعزز المشاركة المحلية، وتعطي المناطق صلاحيات أوسع.

25- رابعاً، استكمال تطبيق اتفاق الطائف، والنظر في ما يجب إيضاحه أو تفسيره أو تطويره في ضوء التجربة المعاشة، بما في ذلك صلاحيات رئيس الجمهورية، لسد الثغرات الدستورية والإجرائية التي ظهرت في تجربة ممارسة الحكم منذ هذا الاتفاق، بغية تحقيق ما يتطلبه الدستور من رئيس الجمهورية كرئيس للدولة، تأميناً لاستقرار النظام، وانتظام عمله الطبيعي، وتلافياً لتعطيل آلة الحكم أو انتقال السلطة.

26- خامساً، تأليف حكومات كفية، تعتمد خططاً ولا ترتجل السياسات والحلول، وتلتزم ببياناتها الوزارية، وتنهض بالاقتصاد الوطني وتحقق المساواة والعدالة الاجتماعية، وتكافح الفقر والبطالة، وتقفل نهائياً ملف التهجير، وتضع خطة لمعالجة الدين العام وعجز الدولة عن إيفائه؛ وتقترح قوانين لحوكمة جيدة للإعلام، تحافظ على حريته المسؤولة، وتساعده على تأكيد استقلاليته، عبر التمويل الذاتي بوسائل معلنة وشفافة.

27-  سادساً، الاهتمام بالشباب الذين هم ثروة البلاد الكبرى والقوة التجددية في المجتمع والكنيسة، بحيث تتوفر للشباب ثقافة علمية ومهنية مع تربية إنسانية وأخلاقية واجتماعية تهيئهم للاشتراك الواعي في القرارات الوطنية، وللانخراط في وظائف القطاع العام، بذهنية جديدة وتطلعات بعيدة؛ وتتأمن لهم فرص عمل وفقاً لمهاراتهم وكفاءاتهم.

28- سابعاً، تعزيز مساهمة المرأة في المسؤوليات العامة ومشاركتها في الحياة السياسية، بما لها من حقوق وطاقات وما لديها من حيوية وانفتاح وصدق في مقاربة المواضيع، ومن حس اجتماعي لاستدراك المشاكل الإنسانية والتربوية والصحية والبيئية.

29- ثامناً، تحفيز المواطن على ممارسة واعية لحقوقه الديمقراطية، وواجباته تجاه مستلزمات بناء الدولة، وحسه على الاهتمام بالشأن العام الواسع الأرجاء.

30- تاسعاً، العمل على إصلاح إدارة الدولة وتحديثها باعتماد الكفاية العلمية والأخلاقية، واعتبار محاربة الفساد أولوية مطلقة، لأنه معطل أساسي لقيام الدولة.

31 – عاشراً، تعزيز إسهام لبنان في عملية خروج العالم العربي من مخاضه الراهن، بحثاً عن أنظمة سياسية معاصرة تليق بإنسانه وبعراقة تراثاته، وتقوي حضوره الإيجابي في عالم اليوم. فلبنان، بحكم أصالة هويته وفرادة تراثه، قادر على أن يكون شريكاً في صنع الحضارة الإنسانية، وتدعيم الاستقرار والسلام العادل والشامل في المنطقة، على قاعدة قرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية للسلام ( بيروت 2000). ويأتي إقرار الدستور التونسي الجديد، بما يتضمنه من اعتراف بحرية الضمير وبالحريات الأخرى، والمساواة بين المرأة والرجل، ليعطي أملا بمستقبل عالمنا العربي.

32- حادي عشر، الحرص على ضمان متابعة تنفيذ خلاصات مجموعة الدعم الدولية للبنان، المتعلقة بدعم الاستقرار فيه، وتعزيز اقتصاده، وتقوية قدرات الجيش اللبناني، والجهد القائم لمواجهة مشكلة النازحين السوريين.

الخاتمة

33- إن لبنان تجربة إنسانية فريدة في هذا العالم، والكنيسة المارونية لن تحيد أبداً عن هذا الرهان العظيم الذي تعتبره من صميم رسالتها الوطنية، وسوف تظل تحث من دون كلل اللبنانيين، ولا سيما المسؤولين في ما بينهم، على أن يجعلوا من هذه التجربة رهاناً ناجحاً، عبر بناء فعلي للدولة القائمة على الميثاق والإنتاجية، والتي تصنع خير كل مواطن، وتعطي وطننا القاعدة الصلبة لينطلق منها في تحقيق رسالته، عملا بقول الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني: “إن لبنان هو أكثر من بلد. إنه رسالة حرية، ونموذج في التعددية، للشرق كما للغرب”.

********

(*) مُذكِّرة وطنية للكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك انطاكيا وسائر المشرق ، بمناسبة عيد مار مارون ، 9 فبراير  2014، تلاها بعد الاجتماع الدوري الشهري لمجلس المطارنة الموارنة في بكركي في حضور الكاردينال نصر الله صفير

كلام الصورة

اجتماع مجلس المطارنة الذي تلا خلاله البطريرك الراعي المذكرة الوطنية

اترك رد