تمثّل الرواية جانباً مهماً من جوانب عملي الأدبيّ المتنوّع، وركناً أساسيًّا من أركان النهضة الاغترابيّة الثانية ومشروع “أفكار اغترابيّة”. وقد يكون هناك الكثيرون ممّن يكتبون الشعر، لكنّ من يكتبون الرواية قليلون، وهي محكّ للفكر، وتسمو عن الشعر، بل تشكّل عالماً مختلفاً لا يدخله إلاّ المختارون. وكم من الشعراء عجزوا عن كتابة قصُّة قصيرة! فكيف إذا كان الامتحان في الرواية، وهي أصعب أنواع الفنون الكتابيّة على الإطلاق، لما فيها من التقنيّات التي لا توجد في أعمال أدبيّة أخرى. فالقصّة تروي حدثاً، وهذا هو أفقها البعيد. وفي هذا يقول فيليب ستيفيك: علينا جميعاً أن نتفق على أنّ الجانب الأساسيّ للرواية هو جانب إخبار الحكاية. والقصّة هي نوع مختلط، فأصولها تمتدّ إلى عشرات الأشكال المتعددة: البحث، الحبّ، التاريخ، الميزات الشخصيّة، التوثيق، الكوميديا، الدراما الشعوريّة. وهكذا”.
Stevic, Philip (1967). The Theory of the Novel, New York: The Free Press. P2
وإذا كانت الرواية تضم الأشكال التي ذكرها ستيفك، وربّما هناك أشكال أخرى لم يذكرها، فمعنى هذا أن هناك مسافة بعيدة بين الشعر والرواية. فالشعر بناء شعوريّ، والرواية بناء للعالم – على حد تعبير جوزيف كونراد الذي يرى “أنّ خلق العالم ليس عملاً سهلاً، إلا عند الموهوبين إلهيّاً. وفي الحقيقة، فإنّ كلّ روائي يجب أن يبدأ بخلق عالم لنفسه، سواء كان كبيراً أم صغيراً.”
Conrad, Joseph. In The Theory of the Novel, p 29
فحسب رؤية كونراد، يمكن القول إنّ كتابة القصّة عمل معقّد ومخيف، ولا يقدم عليه إلاّ مبدعون لديهم خصوصيّة في المهارة والشجاعة، والقدرة على الابتكار. وهم يخوضون مواجهة وسط عواصف ومطبّات وصعوبات، تبدأ باللغة، وتمرّ بالحبكة، والعُقد، والإخراج، والتسلسسل، والترتيب، وتجنّب الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها كاتب القصة من حيث لا يدري. وهذه الناحية الأخيرة هي الأصعب.
الأديبة كلود ناصيف حرب كتبت سابقاً مقالة عن روايتي “الإبحار إلى حافّة الزمن”، التي نشرت في سيدني عام 2019، بعنوان: “الدويهي الجميل في “الابحار إلى حافة الزمن” – فرادة المبدع والمحلّق في غير سربه”. وفي تلك المقالة، تتحدّث عن اتّجاهات الرواية نفسها: “اتجاه مكاني (من سيدني إلى هوبارت عاصمة تاسمانيا)، والثاني إنساني، والثالث وصفي، والرابع تأريخي، والخامس وليس الأخير قصصيّ جاذب يحبس الأنفاس” .
وتعتبر حرب أنّ الرواية تعبّر عن “فرادة الدويهي، المحلق في غير سربه، المبدع الذي لا يترك نوعاً من الأدب إلا ويسير إليه واثق الخطوة، ملكاً… وكأنّ الابداع مرمي على الطريق هو يلتقطه بأطراف أصابعه أو بأذيال ثوبه”.
وها هي كلود الآن، تتابع عملها الانطباعيّ عن رواياتي الأربع التي أعتقد أنّها ليست متشابهة، ولا يربطها رابط، من حيث المواضيع، ولا من حيث الأسلوب أيضاً، فلكلّ منها بيئتها الخاصّة، ورؤيتها، وعناصرها، ونكهتها. فالأولى “الذئب والبحيرة” تصوّر ضحايا مجتمع الحرب، والثانية “طائر الهامة” تدعو إلى إحلال المصالحة والتسامح محلّ الثأر… وهي نابعة من تجربتي إبّان الحروب في لبنان، والثالثة “الإبحار إلى حافّة الزمن” هي رحلة لمتشرّد بين سيدني وهوبارت عاصمة تسمانيا، والرابعة “حدثَ في أيّام الجوع” تعرض حالة المجتمع اللبنانيّ اليوم في عصر الجوع والحرمان الذي لم نشهد له مثيلاً منذ الحرب العالميّة الأولى.
ومن المؤكد أنّ الأديبة حرب، تضيء على ناحية من نواحي الأدب المهجريّ، اختصّ بها مشروع النهضة الاغترابيّة الثانية. ومن النادر اليوم أن نجد رواية في أستراليا. وقد حمل “أفكار اغترابيّة” هذا العبء، مع ما حمله من أعباء، لسدّ فجوة كبيرة في أدبنا المهجريّ، حيث أنّ العديد من المشتغلين بالأدب يقصرون اهتمامهم على الشعر، وقلّما يتجاوزونه إلى أيّ نوع آخر. والمقارنة وحدها تضع حدّاً بين الجدّ واللعب، فشكراً للأديبة حرب لمقارنتها الانطباعيّة، وخدمتها لحركتنا الثقافيّة في أستراليا بشكل عامّ.
والله وليّ للتوفيق والنجاح.