(أُلقِيَت خِلالَ عَشاءٍ في مَنزِلِ الدّكتُور مِيشال النَجَّار)
سَجا لَيلِي وفي الظُّلُماتِ غابا نَهارٌ قَضَّ أَحلامِي غِلابا
فَأَيقَظَ في نَزِيلِ الصَّدرِ عَهْدًا إِذا التَّذكارُ عادَ إِلَيهِ ثابا
فَأَشرَعْتُ الحَنايا مُوْقَداتٍ على الماضِي، وأَسقَطْتُ النِّقابا
وشَعَّ اللُّؤْلُؤُ الغافِي سَخِينًا، فَأَسدَلَ دُونَ باصِرَتِي حِجابا
وأَطلَقتُ العِنانَ لِوَجْدِ قَلبِي فَهاجَ، وعن شَجا كِبْرِي تَغابَى
فَمُذْ نَأَتِ الدِّيارُ غَدا اشتِياقِي، لِتِلكَ الأَرضِ، نارًا واضطِرابا
فَأَيَّامٌ، ونَضْرُ العُمرِ زاهٍ، نَرُودُ رُبًى، ونَعلَولِي شِعابا
غَدَتْ حُلْمًا تَعَطَّرَ مِنْ شَذاها، فَعَزَّ مَكانَةً، وغَلا طِلابا
فَأَمسَى الخَمرُ زَيْتِي، والقَوافِي سِراجِي ما بَشِيرُ النُّوْرِ غابا
وزَعفَرَنِي الحَنِينُ، وكِدْتُ أَقضِي سُهادًا، واحتِراقًا، واغتِرابا
وأَضحَى رَغْدُ أَيَّامِي خَيالًا، وطِيْبُ العَيشِ، بعد الشَّهْدِ، صابا
وكم زَجَرَ الهُدَى قَلبِي لِيَنسَى هَواهُ، فَما سَلا قَلبِي وتابا
فَجاءَ نِداؤُكُم لِلصَّدْرِ بَرْدًا، وذِكْرُ عُهُودِكُم في القَلبِ جابا
وأَيقَظَ مِن سُباتِ العُمرِ دِفْئًا، وأَوقَدَ في حُلُوكَتِهِ شِهابا
فَقُمتُ أُسِرُّ هَمسِي لِلقَوافِي وشَدَّدْتُ العَزِيمَةَ والرِّكابا
فَيا قَلبِي، ونادَى الصَّحبُ، هَلَّتْ مُنًى في البالِ، والتَّشواقُ طابا
عَذِيرِي إِنْ بَدَوتُ، على لِقاكُمْ، تَبارِيحًا وآهاتٍ رِحابا
فُؤَادٌ حِيْكَ مِنْ نَسَمٍ وَوَرْدٍ وَهَى حَتَّى تَخالَ غَدا سَرابا!
***
صِحابِي… أَفتَدِي مَنْ كانَ إِلفًا حَمَى الخُلَّانَ، واحتَضَنَ الصِّحابا
وأَرعَى عَهْدَ مَن أَوفَوْا بِعَهدِي، وأُبدِلُ نَقمَةَ النَّفْسِ العِتابا
وأَجْرِي في دُرُوبِي لا أُبالِي بِمَن شَهَرَ الأَذَى، وأَباحَ نابا
فَآتِي كُلَّ ما يُؤْتِي جَمالًا، ولا أَبغِي شُكُورًا، أَو ثَوابا
إِذا خَطِلٌ تَفاخَرَ بِاللَّآلِي، وخالَ المَجدَ مُلْكًا، أَو قِصابا
وآخَرُ قد رَأَى العِزَّ المُعَلَّى حِمًى رَحبًا، وأَفراسًا عِرابا
وغاوٍ غَرَّهُ ما يَقتَنِيهِ، وتاه البَعضُ بِالحَسَبِ انتِسابا
أَنا نَسَبِي هو الوَزَناتُ، هذي الَّتي كَثَّرْتُها فِعْلًا صُيابا
ومَجلِسُ أُلفَةٍ أَشتَفُّ فِيهِ حَبِيبًا، أَو صَدِيقًا، أَو كِتابا
حَضَنْتُ صَحائِفِي، والعُمرُ يَعدُو، فَما شَحَبَتْ، ولا التَّبْيانُ خابا
وعَربَدَتِ السِّنُونُ على رُوائِي، فَكانَتْ لِلنُّضُورِ، به، مُصابا
وكَلَّتْ عِنَدما جَبَهَتْ يَراعِي، وما طالَتْ جَنانِي واللُّبابا
فَسَيْفُ الفارِسِ المِغْوارِ تَبقَى مَهابَتُهُ ولو لَبِسَ القِرابا
أَنا دِيْنِي الوَفاءُ، أَرَى جَناهُ، حَصادًا مِن غَوالٍ، واحتِسابا
على أَنِّي أُمَضُّ أَمامَ حَقٍّ إِذا الظِّلِّيْمُ رامَ، به، اغتِصابا
وأَوْجَعُ إِذْ أَرَى الأَقوامَ تَجثُو، أَضاحِيَ، أَو ظُهُورًا، أَو رِقابا
تُعَزِّزُ ناهِبًا، تَحمِي غُواةً، تُوَلِّي خاتِلًا، وتَقِي ذِئَابا
فَتُغْفِلُ في عَماها الصِّرْفِ أُسدًا، وتُعلِي، في تَسَكُّعِها، كِلابا
فَبِتنا كالقَبائِلِ في صِراعٍ، غَدا لُبنانُ، في حُمَّاهُ، غابا
ومَنْ يَهْوَ النَّعِيقَ يَمُتْ لَدَيهِ الهَدِيلُ، ويَحْسَبِ الوَرْقا غُرابا
فَهَلْ عَزَّ الأُباةُ بِدارِ قَوْمٍ ثَراهُم يَحضُنُ الصِّيْدَ الغِضابا؟!
وَهَلْ نَدَرَ العَبِيْرُ على تِلالٍ يُعانِقُ شِيحُها الزَّاكِي المَلابا(1)؟!
أَنا ما حِدْتُ يَوْمًا عَنْ صِراطِي ولو نَثَرَ الزَّمانُ به الصِّعابا
أَهُبُّ، ولو إِلى الجُلَّى، كَرِيمًا، ولا أَلوِي متى الدَّاعِي أَهابا
وآمَلُ أَنْ تَظَلَّ رُؤَى يَراعِي، على الأَيَّامِ، تَستَعلِي قِبابا
إِذا أَعطَيتُ لا أَبغِي ثَوابًا، وإِنْ أَقدَمتُ لا أَخشَى عِقابا
فَهَلْ سَأَلَ الغَمامُ سَنا الرَّوَابِي جَزاءَ غَدا لِفَيْضِ الماءِ بابا؟!
وَهَلْ مَنَّ العَلِيُّ وقد حَبانا، زُهُورَ المَرجِ، والثَّمَرَ العِذابا؟!
وَهَلْ خَشِيَ السَّحابُ مِنَ الأَعالِي، إِذا ما الرِّيْحُ بَدَّدَتِ السَّحابا؟!
***
أَيا خُلَّانُ… بِشْمِزِّيْنُ نادَتْ خُذُوا وَلَهِي، لِمَلقاها، جَوابا
حَلَتْ أَيَّامُها، وعَلَتْ مَقامًا، وجَلَّتْ رِفْعَةً، وزَهَتْ هِضابا
لكم كانَتْ لَنا حِضْنًا دَفِيْئًا(2)، زَمانَ غَدَتْ لَيالِينا اكتِئَابا
وحِيْنَ دَهَتْ هَناءَتَنا دَواهٍ، فَوَشْيُ الدَّارِ باتَ، لها، يَبابا
فَما ضاقَتْ بِجِيرانٍ تَنادَوا إِلى أَعشاشِها، كالطَّيْرِ آبا
فَهانِي جِئْتُ، يَحدُونِي حَنِينِي، وشَيبِي حالَ، مِنْ شَوْقِي، شَبابا
أُمَنِّي القَلبَ بِالسَّمَرِ المُنَدَّى، وطِيْبِ الأُنْسِ في صَحْبٍ تَصابَى
وخَمْرٍ صانَها «النَجَّارُ»(3) تُغْوِي كحَسْناءٍ تُبِيحُ لك الرُّضابا
فَمَجلِسُ مَنْ أَتَينا اليَومَ يَسخُو نَسِيبًا ساحِرًا، ويَفِي شَرابا
وأَخبارًا كما جَمْرٌ بِلَيلٍ أَتَتهُ الدِّيْمَةُ الحُبْلَى انسِكابا!
***
ولَيلِي بَينَكُم باق ٍ بِبالِي، طَوِيلًا، ما الزَّمانُ نَأَى وشابا
شَدَوتُ الشِّعْرَ حتَّى فاضَ فِيهِ ــــــــــ النَّدَى، وغَدا الأَرِيجُ لَهُ ثِيابا
فَطابَ على حِكاياتٍ رِهافٍ، وشَعْشَعَ خَمرَةً، وشَدا رَبابا
وشِعرِي، بَعدَكُم، نَبضٌ تَعافَى فَصاغَ مِنَ السَّنا، العَجَبَ العُجابا
فَطِيْبُ وِدادِكُم أَغنَى رُؤَاهُ، وحَفَّزَ وَحْيَهُ، وجَلا الخِطابا
فَإِنْ هَلَّتْ على الواحاتِ مُزْنٌ أَتَتْ ثَمَرًا، وأَنعَشَتِ التُّرابا
وما تَرَكَ النَّدَى إِلَّا زُهُورًا مُنَدَّاةً، وأَكْمامًا رِطابا!
***
حَبانِي اللهُ خَفَّاقًا كَلِيلًا يَرَى في كُلِّ فاتِنَةٍ حَبابا
ويَغزِلُ بِالمِدادِ خُيُوطَ وَجْدِي، إِذا غازَلْتُ غانِيَةً كَعابا
فَيَحلُو الحُلْمُ في زَهْرِ القَوافِي ولو كانَ العَبِيْرُ، بِها، كِذابا
فَحُبُّ الحُسْنِ رانَ على خِصالِي، فأَنضَرَ وَجنَتِي، ورَوَى الإِهابا
فَبِتُّ، إِذا تَلأْلَأَ، في هُيامٍ، أَرُومُ الوَصْلَ، لا أَلوِي اطِّلابا
وإِنْ بَرَزَ الجَمالُ سَلا فُؤَادِي ــــــــــ الوَقارَ، وفي الحِسانِ الغِيْدِ ذابا
كَأَنْ غِرٌّ سَباهُ العِشْقُ حَتَّى رَأَى في ضَلِّهِ الواهِي صَوابا
وإِمَّا تابَ يَومًا عادَ يَسعَى إِلى المَحبُوبِ، يَنشُدُهُ مَتابا!
***
فَيا مِيشالُ لَنْ نَرضَى بِلَيلٍ يَمُرُّ كَمَوجَةٍ عَبَرَتْ عُبابا
فَمَنْ ذاقَ الأَطايِبَ باتَ يُمْضِي ــــــــــ اللَّيالِي، كَيْ تُتاحَ لَهُ، ارتِقابا
فَإِنْ آبَتْ جَرَى جَذَلًا وتَوْقًا، وإِنْ غابَتْ هَفا، وجَرَى لُعابا
فَمُرْ، يا صاحِبِي، نَلتَمُّ شَوقًا بِدارِكَ، والهَوَى، فِينا، أَجابا
رِفاقًا يَلتَقُوْنَ على وِفاقِ ــــــــــ المُيُولِ، وكان أَمرُكَ مُستَجابا
فَشِعْرٌ يانِعٌ، وكُؤُوسُ خَمْرٍ، وأُنْسُ صَحابَةٍ، وكَفَى نِصابا
إِلَيكَ نَطِيرُ… ثُمَّ إِلى حِمانا تَطِيرُ… ويَنقَضِي العُمرُ انتِيابا!
***
(1): المَلابُ: ضَرْبٌ مِنَ الطِّيْبِ، كَالخَلُوقِ أَو الزَّعفُران.
(2): فِي غُرَّةِ الحَرْبِ الأَهْلِيَّةِ فِي لُبْنَانَ، العَام 1975، التَجَأْتُ وَعَيْلَتِي، إِلَى بِشْمِزِّيْنَ، اتِّقَاءَ القَذَائِفِ، فَأَقَمْنَا لِفَتْرَةً
وَجِيَزَةً فِي مَنْزِلِ الصَّدِيْقِ الصَّدُوْقِ نقُولا شَاهِين الَّذِي وَجَدَ فِيْنَا، لِشَهَامَتِهِ المَعْهُوْدَةِ، امْتِدَادًا لِعَيْلَتِهِ الطَّيِّبَة.
وَقَدْ حَفَلَتْ هَذِهِ الفَتْرَةُ بِصَدَاقَاتٍ غَنِيَّةٍ مُحَبَّبَة.
(3): هُوَ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّقَاءِ، الدّكتُور مِيشَال نَجَّار.