سَأَعُود!
(ألقِيَت في مِهْرَجَانٍ، في دارشمزِّين، الكورة)
أَرُبُوعَ أَهلِي… لا عَدِمتُكِ، مَقصَدا، وبَقِيْتِ كَالصُّبْحِ السَنِيِّ ، وقد بَدا
هانِي أَتَيتُكِ، والفُؤَادُ كَأَنَّهُ طَيْرٌ، وَرِيْقَ الباسِقاتِ، تَقَصَّدا
نَبْضِي، حَنايا الصَّدْرِ، يَطرُقُ، صاخِبًا، كَمُتَيَّمٍ، لِهَواهُ يَرسُمُ مَوعِدا
أَنا في حِمَى الخُلاَّنِ، في أَرضِي، وفي فَيْحٍ، على حَيْفِ الزَّمانِ تَمَرَّدا
هو «كُوْرَتِي»، هو سَهلُها، في زَيْتِهِ مَيْرُونُ رَبِّي، بِالإِلَهِ تَوَقَّدا
حَطَّ الشُّمُوخَ، مَدَى الضَّمائِرِ، شُرْعَةً وسَناهُ كان لِكُلِّ شِبْلٍ مَحْتِدا
نُسْغِي، وعُجْبِي، مِن نَدَى زَيتُونِهِ ومُنايَ ما جادَت رُباهُ، وما هَدَى
حَسْبِي رِضاهُ لِكَي تُجَنَّ بِيَ الرُّؤَى، ويَطِيرَ قَلبِي، بِالرَّوائِعِ مُنشِدا
يا مَنْبَعَ الخَيْراتِ، يا أَرضًا على رَبَواتِها بَسَطَ القَدِيرُ العَسْجَدا
يا مَسْرَحَ الغِيْدِ المِلاحِ زَهَوْنَ في رَكْبِ الدَّلالِ، غِوًى، وقَدًّا أَغْيَدا
يَشهَرْنَ، لِلفِكرِ، اليَراعَ، متى دَعا داعِي الحُرُوفِ، ولِلرُّواءِ المِروَدا
فَدِيارُنا عَزَّت، وقد شَهِدَ المَلا، حُسْنًا، رِجالاتٍ، وكِبرًا مَعهَدا
يا «كُورَتِي»، أَنا مِن ثَراكِ زُهَيرَةٌ وإِلى ثَراكِ أَعُودُ، أَنشُدُ مَرقَدا
أَعَرَفتِنِي؟! أَنا لست إِلَّا شَمعَةٌ في هَيكَلٍ، حَضَنَ الفَخارَ، فَخَلَّدَا
كُهَّانُهُ فُرْسانُ عِلْمٍ زَيَّنُوا بَلَدِي بِأَنوارِ الفَضائِلِ، والهُدَى!
***
وأَنا هُنا، في قَريَتِي، اُوَّاهُ لو عادَتْ لَيالٍ كم أَضَعناهَا، سُدَى
أُوَّاهُ لو رَجَعَ الصَّبِيُّ، وصَحْبُهُ، وإِلى رُبَى الشَّربِينِ خَفَّ لِيَسجُدا
كم في تِلالِكِ أَزهَرَت أَحلامُهُ، وعلى أَعاشِيبِ السُّفُوحِ تَمَدَّدا
طابَ الشُّرُودُ، هُناكَ، فَوقَ المُنحَنَى، والصَّعتَرُ البَرِّيُّ شَعشَعَ، مَشهَدا
فالأَرضُ دِيباجٌ، وأَلوانٌ، كَأَنْ قَوْسُ السَّحابِ، على الأَدِيمِ، تَجَمَّدا
كان الرَّبِيعَ، وكانَ صَفْوًا، عَيشُنا، يا لَيتَ ما عَصَفَ الشِّتاءُ، وأَرْعَدا
عَهْدٌ مَضَى، لَكِنَّهُ باقٍ هُنا، في الرُّوحِ، في دِفْءِ الحَنايا، مُوْقِدا
أَعطَيتِنا سِحْرَ الطُّفُولَةِ، هل لَنا، بَعدَ المَشِيبِ، بِأَنْ نَضُنَّ، ونَجحَدا؟!
***
يا قَريَتِي، ومَلأْتُ مِنكِ المِزوَدا، وخَرَجتُ لِلدُّنيا غَرِيرًا، أَمْرَدا
لَمَّا يَزَلْ يَأوِي هَواكِ بِأَضلُعِي، طِفْلًا أُهَدهِدُ، بالحَنانِ، لِيَرقُدا
ويَضُوعُ ما زَوَّدتِنِي، في خاطِرِي، شَمَمًا أَضِنُّ بِأَنْ يَهُونَ، ويَخمُدا
فَغَدَوتُ لا أَقتاتُ إِلَّا مِنْ إِبًا وأَعافُ، إِلَّا مِنْ أَعَالٍ، مَوْرِدا
وإِذا تَقَلَّدَ، غَيرَ ما يُرضِي، فَتًى، والعُمرُ طَيْشٌ، عِفْتُ أَنْ أَتَقَلَّدا
أَطوِي الحَياةَ، فَإِنْ بَلَانِي صَرْفُها، خُضْتُ الغِمارَ، وجُزتُها مُتَجَدِّدا
لَم يُثنِنِيِ عن قِبلَتِي ذُو غايَةٍ ومَضَيتُ أَهزَأُ، شامِخًا، مَنْ حَسَّدا
وأَخَذتُ في سَفَرِي حَقائِبَ لَم أَشأْ أَن تَحتَوِي إلَّا الجُمانَ، مُنَضَّدا
فَعَمِلتُ، لا أَلوِي، وأَرنُو لِلعُلَى، أَرْقَى، وما أَرخَيتُ زَندًا، أَو يَدا
فإِذا الحَقائِبُ مُثقَلاتٌ بِالجَنَى، عَسَلًا، وتَطوِي، بِالفَخارِ، زُمُرُّدا!
***
أَنا ذاكِرٌ، يا قَريَتِي، أَحلامَنا يَومَ الهَوَى كانَ السَّمِيرَ الأَوحَدا
يَومَ الفُؤَادُ، على الصَّبابَةِ هاجِعٌ، والعَينُ تَستَجلِي الصَّبايا الخُرَّدا
أَفدِي ثَراكِ بِحَبَّةِ القَلبِ الَّذي يَبقَى، على الماضِي الدَّفِيءِ، مُسَهَّدا
يا قَريَتِي… يَمضِي الزَّمانُ، فَإِنْ طَغا، واسْوَدَّ أُفْقِي، مِنْ وَنًى، وتَلَبَّدا
آوِي إِلى ذِكراكِ، أَنهَلُ طِيبَها، فَيَعُودُ قَلبِي، مِنْ رُؤَاكِ، الأَسعَدا
لَن تَبرَحِي مِنْ مُقلَتَيَّ، فَإِن أَنَمْ، فَالطَّيْفُ أَنتِ، إِلى المَنامِ تَرَدَّدا
أَوَلَستِ ذُخْزًا مِنْ لَيالٍ دِفْؤُها يَعْرُو الجَوارِحَ كُلَّما الماضِي عَدا؟!
كُنَّا، وفي رَيْقِ الصِّبا، نَغْدُو، كَما ــــــــــ الأَطيارُ، في الأَصباحِ، يَغمُرُنا النَّدَى
نَعلُو رُباكِ، فَفِي الجَنانِ هَناءَةٌ، لا نَرهَبُ المَقدُورَ، أَو نَخشَى الغَدا
يَسرِي نَسِيمُكِ، فالأَضالِعُ نَشوَةٌ، والزَّهْوُ يُوشِكُ أَن يَطالَ الفَرقَدا
هي صُورَةٌ عَتُقَتْ حَبَستُ بِخاطِرِي، وغَدَوتُ، مِنْ ضَنِّي، جِدارًا مُوصَدا
يا قَريَتِي… طالَ النَّوَى وتَضاءَلَتْ، حَولِي، الدُّرُوبُ، وبِتُّ عَنكِ الأَبعَدا
أَنا مَنْ رَسَمتُكِ في خَيالِي قِبْلَةً، وغَدَتْ رُبُوعُكِ، ما سَجَدتُ، المَعبَدا
لا، لَن يَغِيبَ حِماكِ عن ذِكرِي، ولو طالَ الرَّحِيلُ، وبِتُّ شَيخًا مُجهَدا
فَلأَنتِ في لَيلِ الخَرِيفِ، وبَردِهِ، نَبْعُ الحَنانِ، ولِلمَشاعِرِ مَوقِدا
أَنا قد تَرَكتُكِ، في صَباحِي، ناشِدًا عالِي الذُّرَى، والمُشتَهَى، والسُّؤْدُدا
فَطَوَيتُ عُمرِي، لاهِثًا، ومَطِيَّتِي باتَتْ على وَهْنٍ، وأَيقَظَنِي النِّدا
إِنْ تَعْصِفِ الأَرياحُ في دَربِي، وَإِنْ يَغْدُ احِمُرارُ الأُفْقِ بَحْرًا أَسوَدا
أَو تَبْسِمِ الدُّنيا، وتَلقانِي المُنَى، وأَبِتْ، بِدِيوانٍ حَلَلْتُ، السَيِّدَا
يَبْقَ خَيالُكِ في كِيانِي، حاضِنًا رُوحِي، وأَبقَى في سَناكِ العابِدَا
ولو انَّ أَيَّامَ الشَّبابِ تَهافَتَتْ، وغِوَى النَّضارَةِ قد تَهَلهَلَ في الرِّدا
وتَبَدَّدَتْ في النَّفْسِ أَهواءُ الصِّبا فَهَواكِ لَن يَخبُو، ولن يَتَبَدَّدا
أَوَلَيسَ فِيكِ طُفُولَتِي بِنَقائِها، يَفْعِي، وأَحلامٌ تَجاوَزَتِ المَدَى؟!
أَوَلَيسَ يَهجَعُ في ثَراكِ، ساجِيًا، في التَّلَّةِ الخَرْساءِ، قَلبٌ كم شَدا
بِالحُبِّ، بِالعَطفِ الَّذي ما حَدَّهُ قَهْرُ الزَّمانِ، فَجاءَ يُسكِتُهُ الرَّدَى؟!
أُمِّي، حَنانَكِ… لو بِطَيفٍ، يَمِّمِي دارًا رَحِيلُكِ نارَها قد رَمَّدا
وأَخِي، الَّذي حَمَلَ الصَّلِيبَ، مُبَكِّرًا، لِنَرَى السَّبِيلَ إِلى الهَناءِ، مُمَهَّدا
هو في تُرابِكِ، لَيِّنِي المَثوَى، أَما يَكفِيهِ، مِن خَشِنِ المَلابِسِ، ما ارتَدَى؟!
تَبقَينَ ما يَبقَى فُؤَادِيَ نابِضًا، وإِلى المَغانِي الخُضْرِ يَحمِلُنِي الحُدا
ولَسَوفَ أَرجِعُ لِلخَمِيلَةِ… هل أَنا إِلَّا حَفِيفٌ مِن تِلالِكِ، أَو صَدَى؟!
سَأَعُودُ… أَو فَوقَ الأَكُفِّ، وفي شَجًا، أَو بَينَ أَنسامِ الأَصِيْلِ مُغَرِّدَا!
مرتبط