بقلم: د. ناتالي الخوري غريب
حين قرأتُ الرّواية، لا أدري لم رأيتُني أساق إلى الحديث عن شخصيّة الأستاذ إيلي مارون خليل، في انسلاله بين عالمين، يشكّلان عبورين، العبور الأوّل بين عالم الواقع المعاش يحاول له رفعًا ورفعة، وعالم الكتابة، يضفي إليه حياةً ومتعة، في كليِّ تواطؤ بين العقل والعاطفة. فهو الرّاوي والبطلُ الحاضر أبدا في حثيث سعي لتحديد مسافات الالتباس بين الأنا والأخر، وبين الواقع والحلم…
هو بطلُ رواياته، خلقًا وأدبًا، على رقيّ فكر وحضور، وغنى تربويّ.
هو النُّبل بأناقة تجسّده ولباقة تصرّفه، على وضوح تجلٍّ في شخصِه وأدبه…. شفيفٌ إلى حدّ الرّؤية، ثقيفٌ فنًّا وأدبا ونقدا… وإذا كانت القراءةُ لديه مرتبطةً بالإنسانية”: أن تقرأ إذًا أنت إنسان”، فالكتابة أيضًا هي إنسانيّة بمسعاها إلى التَّجاوز،….لأنّه يكتب على إيقاع الرّوح، يهيّؤه نضجٌ على طقوس اشتعال لا يخفتها ماء نقد وانتقاد …..
ماذا أراد أن يقول في هذه الرّواية؟؟
هل أراد أن يحكيَ قصّة عبور وعودة نعيشُها كلَّ يوم، بين ما هو كائن وما يريد أن يكون، بحثًا عن خلّاق حبّ وثبات سعادة?.
في عجالةِ قراءةٍ للموضوعاتِ المطروحة، نجد المؤلّفَ ينعمُ على الحبِّ بالحصّة الأكبر، الحبّ الزّواج، السّرّ والعلن، العقل والقلب، الواجب والحب.: الحبّ المصلحة، الحبّ الذّاكرة، الحبّ الذّوبان، الحبّ الارتقاء، وهنا يظهر الشّرخ الواضح في الشّخصيّة التي تحبّ فترتفع وترتقي،(البطل، وحبيبته ساريا) وبين الشّخصيّة الّتي لا يكتمل حبُّها، فتقع في الإفلاس، كما في شخصيّة منصور(ابنِ ساريا)، لتظهر براعةُ الكاتب في إظهار الإفلاس النّفسيّ العاطفي، والتّيه بين الانسلال والتَّخَفّي، تأرجحا بين عالمين وقوعًا في فخّ الازدواجيّة بين الواقع والمرتجى.
ففي الانسلال خفّةٌ وتخفٍّ، والغايةُ كشفٌ لعاطفة قنّعها عقلٌ حييٌّ في ضميرٍ يأبى حلولًا مجّانيّة، يحاول جهدًا خلع أقنعةٍ تلبّسَ بها النّاسُ حتّى صار الزّيف من جلدهم…
أفلاطونيّ النّزعة في أنّ مَن بحث جيّدًا وجد، وبورك لأنّه بحث وليس لأنّه وجد،(فكتور هوغو)، وبحثُه من أجل تحديد كلِّ التباس، أكان انسلالًا ليليًّا في غفلةٍ من قمر، أو جهرًا في سهوةٍ ممّن رقَب، مؤمنا أنّ الحبّ مرتبط بالسّعادة… والسّعادة ليست ترفا، موافقا مع سبينوزا أنّها ليست مكافأةً على الفضيلة، بل هي الفضيلةُ عينُها، معارضًا ربطها بالكآبة، حين يقول: “الكآبة ليست من الحبّ، إنّها من انقطاعه! والحبُّ يرزقك الحياة، يخصّب فيك الأحلام”ص؟؟..والقول للأديب
وأيضًا مع بطل القصّة(….) وحبيبتِه ساريا: فيقول:“أريد ألاّ أؤجّلها حياتي، أنا. بل أريد أن أحياها وأعيشَها وأتمتّعَ بها! لِمَ يُفهم التّمتّعُ على أنّه شرّ كلّه. لمَ نحيا ونعيش مكبّلين بما لا نرى؟(187)
وقد تجلّى ذلك في وجود ساريا في حياته ، وهي الأرملة، حبيبة البطل المتزوّج، فهي العالم الآخر الّذي يعبر إليه ، ويتبع من خلالها ليستسلم عقله للسُّرور، ساريا هي عالمُ العطاءِ الأنثويِّ والجمال، عالمُ الحبِّ الّذي يعرف أن ينضجَ فلا يَهْرَم، ولا يموت: ساريا هي الحبُّ المطلق : بعيدًا من تفاصيل الحياة اليوميّة،
ساريا هي الأملُ والرّجاء الحلمُ الّذي يبقى حلمًا في العقل والقلب،
ساريا هي رمزُ الحبّ- في ثلاثيّةِ الفعلِ-السّعادةِ-الارتقاء،
وبذلك يكون الحبُّ عبورا من عالم الزّواج والاستقرار والواجب الاجتماعيّ والالتزام الأخلاقيّ إلى عالم السّعادة ونشوة الّلقيا، والبطل يعي سعادتَه، كفعلٍ موافق للعقل(كما عند الأبيقوريّين)،
والعبوُر يتمُّ كلَّ يوم في ضميره، والانسلالُ في التباس المسافة بين حياتين تترجمها ازدواجيةٌ يعيشها، والقرار الّذي توصل إليه شرعنة الحياة الأخرى عبر غَطاء أعطاه الابن بمباركة هذه العلاقة ، الّذي اعترف في النّهاية بحقّ أمّه –الأرملة-في حبّها من دون المسّ بانهيار الأخلاق في ذهنه، لأنّه وجد من خلال علاقتها بحبيبها ألّا خلاص إلاّ بالحبّ، وألاّ حياة من دون حبّ. وفي ذلك يصرّح: ما كنتُ أظنُّ أنّ له هذه القدرة العجائبيّة. كم ينضج، يُسعد، يرقّي، يُسْمي، يثقّف… الحبُّ؟ نعمة النّعم، كلَّ آن، كلّ زمانٍ، كلّ مكانٍ!(ص180). “الحبّ بالنّسبة إليّ طاقة خلّاقة ترتقي بالإنسان إلى أكثر ممّا كان يحلم!(158)على لسان منصور.
وفي الاعترافِ بقدرة الحبّ التّحويليّة تقديسُ العلاقة بين الحبيبين(أمّه والبطل)، أوَلم يقل القدّيس أغسطينوس “أحبب واصنع ما تشاء”، فالحبُّ قادر أن يكون تلك الطّاقة الخلاّقة بعد اكتشاف الذّات لذاتها، نضجا ورُقِيًّا وسموًّا…
فعل الحبّ يتجاوز الفكر والكلمات. هو انغمار في تجربة الوَحدة، كما عند الغزالي، حيث يظهر كطريقة للمعرفة ولوعي الذّات في اتّحاد كلّيّ بين الحبيبين. “كيف تتجدّد وتجدّد! كيف تنبثق من روحها، جديدة مؤثّرة موحية… وتجعلني أنبثق، منها ومنّي، ومعها، كما تشاؤني! كما أشاؤني.(129).
ألحبّ- المصلحة:
يتناول المؤلّف أيضًا في هذه الرواية المصلحة في الزّواج والحبّ في اتّحادٍ يسمو بالعاشق إلى حدود المثال، هي أقربُ إلى مصلحة الخير الكلّيِّ، اكتمالُ ذاتٍ في وجودين، ارتقاءً بالرّوح إلى منبع هي منها: “الكلّ مصلحته مع الكلّ. الزّواج؟ مصلحة.”مصلحة” الفريقين. قد تختلف، لكنّها “مصلحة”. ألعشق؟ مصلحة. “مصلحة القلبين”. ولا تختلف! أنت تحبّ لاكتمال الذّاتين. إكتمال ذاتك، يكمل ذات حبيبتك.”مصلحة”؟ لكنّها روحيّة! العاشق يسمو ويُسمي.”126.
ومن ثمّ يطرح المؤلّف صراع العقل والعاطفة في المنظومة العلائقيّة الاجتماعيّة الّتي تجعل الفرد يقع في مأزق القرار وتحديد صوابيّة الخيار بين ما يحقّق سعادتَه تجسيدًا لحبّه، وبين ما تتطلَّبُه منه الأخلاقُ الدّينيّةُ والعامّة، ليثورَ على ربط السّماويّات بالأرضيّات والرّوحانيّات بالمادّيّات… فيقول: “تزوّج كلانا كان تواطؤًا. غلطةٌ. غلطة كبيرة. أُنعاقب مدى عمرنا؟ وإن هَجَرتُ زوجتي، ألا أكون أعاقبها على ذنبٍ لم تقترفه هي؟ فماذا أفعل؟ أاتصرّف، عقلانيًّا، بعيدًا من الأخلاقيّات الدّينيّة؟ وتاليُا: ما القيم؟ أهي دينيّة فحسب؟ أليسَت، كذلك، إنسانيّةً واجتماعيّةً واقتصاديّة و ….عاطفيّة. ما دخلُ، ما علاقةُ السّماويّاتِ بالأرضيّاتِ، الرّوحانيّاتِ بالمادّيّاتِ، النّفسيّات بالجسديّات؟ ما لا يُرى بما يُرى؟ الحياةُ حياتنا هذه، وهنا، ألا نستحقّها بامتياز؟ لمَ نؤجّلها إلى ما بعد؟ لمَ ليس لكلّ مكان حياته؟ حياتي! أليسَت لي!؟ لمَ يتحكّم بها آخرون؟ خصوصًا هؤلاء ممّن لا يرون، ولا يكَلَّمون، ولا يفهمون؟ نحن على أرضٍ، فلمَ لا تكون حياتنا أرضيّة؟ لم يُرادُ لنا تأخيرها؟ تأجيلها؟ لم تكون حياتنا مؤجّلة؟ (186-187)
وبذلك، يكون المؤلّف قد رأى إلى الحبّ على أنّه وسيلةُ الخلاص والسّعادة وطريقُه المعرفة.. مؤمنا أنّ الحبَّ هو الإرادةُ الخيّرة، هو الفضيلةُ القادرة على الاسهام في تحقيق كلِّ خير…
منصور الشّحّاذ:
الشّحّاذ تصويرُ الإفلاسِ المعنويّ للإنسان الّذي يفقد الحبَّ من حياته ويصوّر خَسارةَ الهُويّة، نتيجة فقدان الأمل، والوقوع في فخّ الازدواجيّة ترقّبًا و….قلب المقاييس استكمالا لكلِّ نقصٍ حاصلٍ عند كلّ حالةٍ تتفرّدُ بنقصها كما باكتمالها، والحصولُ في غاية المطاف نقصانٌ بالوقوع في هوّة الخيبة والقلق. هو التباسٌ في تحديد الهُويّة، في رحلة البحث عن اليقين، تعبيرًا عن إرادة إدراكِ هويّتها، لأنّ مبدأ خُسران الهُويّة لم يتحقق كلّيًّا في الرّواية، إذ أراد المؤلّفُ أن يذكّرَه بعلامات من جوهر كيانه، عبر نقل لوحاته، أي ثقافته الفنّيّة، الّتي لا يمكن ان تنفصل عن كيانه على الرَّغم من الازدواجيّة الّتي يعيشها، مضيئًا بذلك على دور الفنّ والثّقافة في حضارة الإنسان وغناه الّذي لا يمكن أن يسلب منه ولو آثر أن يكون شحّادًا. لكنّ تيهَه وخوفه على ضياعِ حبٍّ، جعله يتغلّب على الشّعور بالعِزلة والانفصال، و هذا ما سمح له أن يكون نفسَه، أن يحتفظ بتكامله.
وفي الختام، يبقى أن نقول إنّ الأديب إيلي مارون يمثّل تيّارَ الأدب النّبيل الرّاقي الّذي نحتاجه في زمن الجفاف الرّوحيّ، من دون أن نهمل الكلام على البعد التّربويّ لهذه الرّواية بالإضافة إلى نصاعة الّلغة ونقاوتها واحترام مبادئها مع محاولات تجديديّة اشتقاقيّة لامجال لذكرها في هذه العجالة.. لتجسّد الأدب الّذي يسمو بالذّات الإنسانيّة، الغنيّ بالقيم والفضائل على حساب التَّكالب المادّيّ الّذي نعيش فيه.
*****
(*) في الندوة حول كتاب “حياة تنسل بين ع و ع” للأديب إيلي مارون خليل بدعوة ثانوية الراهبات الأنطونيات، غزير ودار الفكر اللبناني بيروت في 30 يناير 2014