قبل ما تنتخبوا تبقوا تذكروا…

 

  سمر دوغان

 

من قلبي سلام لبيروت

شمس آب حارقة، لا تذعن للأرواح المتململة من العرق والرطوبة، إبر الحياة تنقش وشما على الوجوه تستريح ضاحكة أمام لوحتها السوريالية. تهتز الأرض تحت الأقدام المهرولة للاعودة، عاصفة تجتاح الكيان، تنحني أغصان الشجر المتعبة بثقل الغبار لزمهريرها، تتوقف عقارب الساعة، صوت يصم الآذان… إنفجر الكون بوجهنا… هل حان يوم القيامة!!!

كالمجنونة اهرب، أركن أمام العامود الأصفر عله يداري خوفي من الموت المباغت، يتناثر الزجاج من حولي، دقات قلبي تقفز من صدري ومن كل ملامحي، وعيناي معلقتان في السماء… قنبلة ذرية رسمت نصف دائرة حمراء في سحاب هارب من الدرب. بترت أطرافي، تسرب الشلل إلى جسدي… صرخت بدون صوت، بكيت بلا دمع، أصابني الذهان، نسيت إسمي…

كل هذا في ثوان بل أقل، أدركت بتلك اللحظة وعيي… آه يا ربي ما زلت حية. إستجمعت قوتي وهرولت كي أستفيق من ذهولي. كلهم مثلي يركضون يمينا وشمالا، دماء وسمت آثارها في وجوه صفراء… في ثياب ممزقة، الأكتاف عارية الا من جروحها. أبواق السيارات تعزف سيمفونيتها في الشوارع في الأزقة الضيقة في سراديب النجاة… ليست وحدها فالزنود شمرت عن قوتها تحمل ما تبقى من نفس في الأرواح تتسارع الخطوات، والدراجات النارية تنفس لهبها تحمل الأكفان فوق جذعها. وحده اللون الأحمر يرسم خارطة عذاب جديدة في ما تبقى من مدينتي بيروت.

صحوة الموت… تستفيق الجفون المتعبة من شرائط الأخبار “والقيل والقال” تحمل زاد الحياة… معول، مكنسة، ماء، زوادة فقيرة وافواه تحدي، تتردد صداها في دمار طال التاريخ والتراث وحكايات الدور القديمة “منرفض نحنا نموت قولولن رح نبقى” وشرارة الثأر للذات تكحل العيون الحزينة من قدر لم ترتضيه أفئدة شابة حلمت بوطن جميل.

ما ناموا على الجرح، ما إنطفأت قناديلهم في عتمة بيروت، لهم موعد يومي لحمل غبار الدمار إلى مزبلة التاريخ، ما تعبوا من مسح دمع مسنة فقدت ما تبقى من ذكرياتها، من مواساة أمرأة سرق قلبها بفقدانها ابن… إبنة… زوج وأخ. زادهم في المنام غضب على سلطة رهنت حياتهم للمجهول، باعت كل أحلامهم بقوارير عطر باريسي عفن وحفنة دولارات نتنة من خيانتهم للتراب الأخضر.

انتفضوا لعنفوانهم، لألمهم من عنبر الموت الذي حصد براءتهم. لإهراءات قمح حرمت أفواه الفقراء من خبز يومهم. أستدركوا لعبة الكبار تزودوا بالخوذات ونظارات السباحة وكمية من البصل ووردة حمراء ذات أشواك.

قالت لي ابنتي سأكون في ساحة الشهداء، سأنتفض لغدي، لن يسرقوا حلمي. واريت خوفي وراء ستار قوة شفاف، عانقت رائحتها العذبة وإحتضنت ألمها بدمعة… إنتبهي… لا تتأخري أنا في إنتظارك.

أقدامهم الحافية الا من غضبهم صدحت في كل الكون، حناجرهم تغني “يا بيروت… يا بيروت… يا ست الدنيا يا بيروت”. قبضاتهم لوحت رفضها ورفعت رايتها “باقون نحن على منابر الدراسة، في أيدينا قلم ومعول وحرية تأبى الإرتهان، في قلوبنا زوادة أم وأب جبلت بقهر من حروب عبثية. كانوا مسالمين، بهاء شبابهم النضر يخطف الأنفاس، يزرع الدهشة في كاميرات الصحافيين والأعداد تزداد في كل دقيقة وثانية. أجساد تفترش الأرض، تعانق تربتها المببلة بدموعهم الساخنة.

لحظات هي.. كشرت السلطة عن أنيابها، فهي تكره المتمردين على عروشهم. بدأت المسرحية… إنهالت القنابل المسيلة فوق الرؤوس، وخراطيم المياه (للتذكير فقط.. الماء مقطوعة في بيروت… يا أفندي) كانت تطارد المتظاهرين، تشد رحالهم إلى الوراء…

ابنتي روى قصت لنا حكايتها بكوميديا سوداء ساخرة (ما عدنا نعرف كيف نتلقى بأجسادنا تلك القنابل المسيلة للدموع. أصبحت أجيد لعبة كرة القدم، فأبعد بكل قوتي هذا التنك، وأحاول أن أداري جسدي من غازها. رفيقي ما عاد يرى أمامه شيئا، حملته رغما عني على كتفي ونحن نحاول الهروب من عبثهم بأعصابنا. وكنت أصرخ كالمجنونة إن رأيت أحدا يحاول إزلة آثار الغاز المسيل بالماء..استعملوا فقط البصل.. فقط البصل. وكيوم الحشر أخذنا نهرول من زاروب إلى آخر لا نرى حولنا سوى غيم أبيض. ولم تنتهي هنا الرواية، فقبل أن نصل إلى المكان الآمن، طالعتنا كوكبة من الشباب الملثم يهول علينا بالعصي وبكم من التهديدات الغليظة على المسامع. كانت مع صديقتي عصا لا تعرف ما تفعل بها، حاولت أن انتزعها منها ولكنها أبت، أمسكت بطرفيها كغريق تعمشق أمله بكومة قش… نجونا بأعجوبة.. ضحكت بجنون حين ركبت سيارتي. غمرت المقود وتنفست عميقا وقلت ولآخر مرة… من قلبي سلام لبيروت)

 

اترك رد