سمر أمين دوغان
تلك الدقائق… تلك الثواني تختصر عمرا مديدا بحثا عن عناقيد العنب في كرمة البيت العتيق. سحبت بهدوء المتصوفين ستائر الدانتيل الأبيض، فاشرق الوجه عن بسمة رضا. عانقت رموشها خيوط الشمس وتأوهت بملئ أنفاسها،. تسللت روحها في أسوار الحجر حيث تدلت عرائش الياسمين بدلال العرائس وأزدانت وريقاتها بحبيبات اللؤلؤ الندية.
هوذا يومي، سأسرج فرسي في البراري، سأعتق هرتي الرمادية من صخبي وجنوني، سأعطي بلبلي الشادي أجنحة حرية يلوذ بها بعيدا عن نكدي. أنين التجاعيد تمتزج بخورا في مسبحة الصلاة. تتلاشى روحي أمام الحقيبة السوداء، أعيد ترتيب أغراضي، أشلائي المبعثرة في زوايا الدار. اسرح شاردة، حافية في غيوم الذكريات، تتقرح أصابع أقدامي في فيافي وطن قتل مهد الطفولة الضائعة في السراب الحارق، مهرولة لإنتزاع لقمة الفقر من لأفواه جاعت الخبز. صامدة وراء نظاراتي، أرسم بالقلم تلاوين عذاباتي. أحتضن بصبر الأتقياء وجع أمي فوق وسادتها الأخيرة. البلورات الملونة تتدحرج فوق العتبة، قصص الماضي انزوت ذليلة بشحطة نفس، محت أيقونة الصبر في زوادة الأيام. أيقنت حبها له عندما لامست أنامله يديها الرطبتين. التهم أنفاسها الحارة المغمسة في كل برودة التبولة. تراقصت همساتهم فوق صحن المجدرة وتواصلا تارة بالفرنسية وتارة بلغة الإشارات. كان تلحظ بريق عينيه الخضراويين يطال دقات قلبها المتسارعة، ما عادت تدرك عمق المشاعر التي تلون وجنتيها بحمرة خجل “آه يا ربي ما عدت مراهقة كي اتحمل دفئ شطآن الرمال الشاردة وراء كثبان الهوى”. اطربها جنونه الصبياني ونقطة الزيت عند طرف شفتيه. ذاك الصقلي المتصابي بالشورت البني وقميصه الأزرق، ما يسعى إليه في النصف الثاني من العمر؟ أخذت تنظر إلى ملامح وجهه ولون الشمس قد لونت طريقه بإسمرار الشرق المغري.
أيقن من لغة عيناها الصامتتين بروح آلهة الحب بأنه وجد في الصخور البيضاء حبه الذي سيعدم عبوديته لساعة أعلنت انتحارها في قاموسه الذهبي ومعمودية طفولته الغارقة في ماء الجرن البارد ودموع القهر.
انتظرته تحت شجرة التين وقد لفت كتفاها العارييتان بشال أبيض لامست فيه رائحة أنامل والدتها. وصل دون أن يتأخر ثواني امتد ساعده فوق كتفيها، إختضن كل تساؤلاتها وخوفها بعينيه المتمردتين في زبد البحر الهائج، قال لها “لن أتخلى عن ارجوحة طفولتي فقد وجدت البوصلة بين أناملك. معبودتي انت، جنية تهوى الحرف والقلم وانا حبر يراعها. ألا ترسم ايها القلم خرائط مملكتها فوق جسدي وكنز العمر الدفين في كينونتها. أزهرت ورود داري بضفائرك البنية ولاحت خمرة العشق في شفتيك المبتسمتين. لامست باب قلبي الذي أغلق بابه للعابرين المارقين دون إسم وهوية”.
ألفت في صوته حنانا وتنهدت بلغة العاشقين:” خذني وديعة زمان مضى، وإعتقني حرة، لك الروح والجسد، وأغرف من بحيراتي الليكلية وزهدي طباشير اللوح الأسود ولا تمحي إسمي من معجمك”.
يا درة العشق في خوابي الخمر، أزهرتي في الأنامل أيقونة ذهبية تسرق النظر. لحظات الصمت تتوارى وراء الغيم الأبيض، رقصت فرحا زهوا بجمال زين عروقها الزرقاء. أيعنت وريقات الورد بخصلات شعر سرمدي لأزلها في خاصرة الزمن. عانقها النسيم المتبل بحب سري في كهوف الكهنة. تهاوت اللقاءات في وديان قريتها المنسية، تهادت وريقات اللزاب والحور على أوتار أغنتيتهم وتوحدت بخشوع مع خرير مياه النهر فأيقظت في فراغ العصر سيمفونية السعادة.
قالت له “نعم بكل جوارحها… هو انت العبير الدافئ في عروقي الصدأة، خذني إلى زوبعة الزمرد في أجنحة البجع البيضاء”.
تناثرت الثرثرات النسائية بشيطنة الحسد فوق رذاذ طحين الخبز الأبيض والتنور يكوي بناره هشيم قصتهم. عيون لم تفقه الحب في عجينة موادهم، والعجوز على عكاز الدهر تسرد في طواحين الهواء قصة قيس وليلى. لا تنتهي
العيون الزجاجية مي البكاء على أطلال موتهم في طلاسم السحر وفي نبش التراب ودخان التقاليد وراء حجاب الحرم والحلال.
لم تسمع…لم تر ولم تفقه لغة الضاد، تهادت بفستانها الوردي أمام جلسات التنور وتفردت بسحر جنيات الحلم وقالت “ساتزوجه، وأسرج حلمي في سهولي النائمة… لقد تأخر الربيع في ضلوعي لكنه أتى ملكا متربعا فوق العرش. أنا إمرأة طالتها سنين الإنتظار وراء عباءاتكم السوداء وأتت لحظة عتقي من مفرداتكم الملبدة بأحلام خنقت في أكفان جائعة للنور” .
وصلت السيارة البيضاء، إنتطرت على باب الدار هنيهات، سقطت دمعة الفرح على العتبة الجافة (أزهري لي، عند العودة لن أكون وحيدة).
في قلب روما وتاريخ الأباطرة الرومان كنز دفين تتوارثه الأجيال، رمت مغمضة العينين دمع الماضي في بركة الأمنيات وتعالى في صدرها سحر الكلمات وقالت والحمامات تلتقط أنفاسها الحارة “يا أيقونة الملاذ الأخير، ضمى صدري بحب لا يزول” قالتها وعيناه تتساقط شهبا فوق رموشه السوداء.
أيقن إن الوعد تحقق “باركي أمنية حبيبة قلب داوت جراحي، وإذرعي دربها شذى رياحيني. هيا معي إلى أرجوحة طفولتي في سحر صقلية… الكل في إنتظار عروستي…
أزهر الورد فوق القبر.. لقد حافظت على الوديعة”