صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن (سلسلة ترجمان) إمبراطورية في حالة تراجع: الولايات المتحدة الأميركية بين الماضي والحاضر والمستقبل، لفيكتور بولمر توماس، ترجمه إلى العربية توفيق سخان. وهو مسح كبير ودراسة رصينة، يؤكد المؤلف فيه أن الولايات المتحدة كانت إمبراطورية منذ إرهاصاتها الأولى، فقد عمدت إلى تأمين مجالها الحيوي من خلال الاستيلاء على أراضي السكان الأصليين وارتكاب جرائم الإبادة في حقهم قبل توجهها شرقًا وغربًا وجنوبًا لتبسط نفوذها وتدعم حضورها. ويرى أن ما يميز هذه الإمبراطورية هو إنشاؤها منظمات دولية ومؤسسات متعددة الجنسيات اخترقت نسيج المجتمعات وجعلت من النموذج الأميركي النموذج السائد على مستوى العالم.
يستشرف الكتاب نهاية هذه الإمبراطورية انطلاقًا من مؤشرات موضوعية تشمل السياسة والاقتصاد والثقافة، حيث يعزو عوامل هذا التراجع إلى أسباب داخلية، تكمن أساسًا في انكماش الاقتصاد الأميركي، وحالة الإحباط العام التي تسود المجتمع الأميركي من جرّاء سياسة اجتماعية مجحفة، وتداعي الأساطير أو العقائد التي قامت عليها الإمبراطورية الأميركية.
الإمبراطورية الإقليمية
يتألف الكتاب (672 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من ثلاثة أقسام. في القسم الأول، يتعرض المؤلف لبداية فكرة أميركا وتدرّجها من مستعمرات ثلاث عشرة إلى كيان توسعي ضم جميع الأراضي بعد أن اقتُلع أصحابها، لينتهي بهم المطاف في الأخير إما في محميات أو مستعمرات وإما في كيانات تحت الوصاية الأميركية. ويضع الحكاية في سياقها التاريخي، إذ يكشف تاليًا عن وجه الإمبراطورية البشع، وينبري عبر تقابلات بين الخطاب والممارسة إلى تفكيك مجموعة من الأساطير التي شكّلت الرواية الرسمية الأميركية، فيصرح علنًا، ومن دون مواربة، بأن كثيرين ممن يُعرفون بالآباء المؤسسين مسؤولون حقيقة عما حدث لسكان أميركا الأصليين من إبادات ومجازر. وفي مثال آخر، يكشف المؤلف كيف أن أبراهام لينكولن أراد أن ينشئ للأميركيين الأفارقة مستعمرة في أميركا الوسطى حتى يضمن صفاء العرق الأنكلوسكسوني. ومن هنا تُطرح قضية العرق التي لا تزال تطارد أميركا إلى اليوم.
إذًا، كان المسرح مهيَّأً للفصل الأول من مسرحية تشكيل الإمبراطورية الأميركية: التوسع القاري. وخلال سبعين عامًا من تاريخ الاستقلال، أحكمت الحكومة الفدرالية قبضتها على جميع الأراضي شرق نهر المسيسيبي، وكان الرعايا البيض الذين يقطنون الأراضي التي اقتُطعت من الأراضي التي صودرت مؤخرًا يتعلمون شيئًا فشيئًا كيف يتحولون إلى مواطني الاتحاد. وفي غرب النهر، حصلت الحكومة الفدرالية على الحق في ملْكية مساحات واسعة من الأراضي كانت في السابق تطالب بها كلٌّ من إمبراطوريات فرنسا وبريطانيا العظمى وروسيا وإسبانيا، وحوّلتها إلى أقاليم. غير أنه في أغلب الحالات، كان على سكانها أن يمضوا عقودًا من الزمن بوصفهم رعايا مستعمَرين تحت نفوذ الإمبراطورية الأميركية الجديدة قبل أن يصبحوا مواطنين.
وقد مثّل تقدم الإمبراطورية الأميركية جنوبًا تحولًا رئيسًا في المشروع الإمبراطوري. وفي حين جرى اللجوء إلى دبلوماسية القوة التي تعتمد على القهر لانتزاع الأراضي في شمال أميركا من الإمبراطوريات الأوروبية، استُعملت القوة العسكرية أيضًا في التعامل مع المكسيك وكولومبيا ونيكاراغوا. كان ذلك اعتداءً إمبراطوريًا سافرًا لا يمكن التستر عليه باستعمال شعارات من قبيل “المصير الحتمي”، وما عاد من الممكن زعم أن الإمبراطورية الأميركية تقوم على التوسع الغربي والاستعمار الاستيطاني فحسب. إضافة إلى ذلك، كانت حينها إمبراطورية تطمح إلى قيادة جيوسياسية مع حريّة وصولها إلى محيطين، وتوافر إمكانات الهيمنة على أميركا اللاتينية والمحيط الهادئ.
ولعل واحدة من الأساطير الأكثر تداولًا بشأن الولايات المتحدة هي أنها لم تنطلق إلى “ما وراء البحار” إلا بعد انتهاء الحرب الإسبانية – الأميركية في عام 1898. وقد ظلت الإمبراطورية الأميركية تحافظ على ما تريده في الكاريبي فيما يهمّ القضايا ذات المصلحة القومية حتى بعد اعتماد سياسة حُسن الجوار (على الأقل حتى اندلاع الثورة الكوبية)، وتخلّت نسبيًا فحسب عن الموضوعات الثانوية.
الإمبراطورية شبه العالمية
في القسم الثاني، يعرض المؤلف الوجهَ الآخر من الإمبراطورية الذي ميّزها من جميع الإمبراطوريات الحديثة؛ وهو إنشاء منظمات دولية ومؤسسات متعددة الجنسيات اخترقت نسيج المجتمعات وجعلت من النموذج الأميركي السائد على مستوى العالم. ومن مؤسسات قانونية تضبط العلاقات بين أميركا وجيرانها من دول الأميركتين، استطاعت أميركا أن تضمن لذراعها الاقتصادية التغلغل في المجتمعات، وفرض لعبة يجب على الآخرين التزامها. غير أن هذه المؤسسات ما كانت لتصمد لولا القوة العسكرية الأميركية التي جعلت من قارئ هذا التاريخ يعتبر الولايات المتحدة عن حق “أمة القواعد العسكرية”. ويعدد المؤلف الحالات والأمثلة، لكن يبقى هناك دائمًا خط ناظم، إن لم يكن خطًا أحمر، وهو المصالح الاستراتيجية القومية.
لقد أنشأت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية نظامًا للتجارة ومؤسسات مالية لا تتظاهر حتى بالحفاظ على فكرة التكافؤ الخيالية بين الدول في ظل القانون. وفي أكثر هذه المؤسسات أهمية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي على سبيل المثال، حظيت الولايات المتحدة باليد الطولى من خلال معاهدة إنشاء هذه المؤسسات (معاهدة بريتون وودز)، بحيث لا يمكن تحدي سلطتها بسهولة. فعلًا كانت أميركا البلد الوحيد الذي يتمتع بحق النقض بخصوص التعديلات التي تطاول هذه المؤسسات، أي يستحيل القيام بإصلاحات من دون موافقة أميركية.
تُعد الجهات الفاعلة غير الدولتية جزءًا من “القوة الناعمة” التي لا تعتمد القوة، وتُعتبر في الغالب عنصرًا مهمًّا من الدبلوماسية الحديثة. وما دام أنها ترتبط عادة بالدولة نفسها، يمكن الجهات الفاعلة غير الدولتية ممارسة القوة الناعمة لأنها تمتلك القدرة على “الاستمالة والاستدراج بدل الإرغام”، ولو أن المال يكون ضمن ذلك، رغم مزاعم نظرية القوة الناعمة. ومع ذلك، لا يمكن القوة الناعمة البتّة أن تحل محل القوة الخشنة التي تواصل الدولة احتكارها.
وقد وفّرت لحظة أحادية القطب للولايات المتحدة فرصةً لفرض النفوذ الإمبراطوري على نحو غير مسبوق؛ إذ انتقلت الولايات المتحدة، بسلاسة تقريبًا، من عالم الحرب الباردة، حيث واجهت بعض القيود، إلى عالم وجدت نفسها فيه، على نحو شبه كامل، حرةً من أي قيود. وهكذا، خلص كثير من الأميركيين إلى أن فرض إمبراطوريتهم هو أفضل السبل لضمان النظام العالمي. وقد عززت ذلك الاعتقاد فظائع أحداث 11 سبتمبر 2001 [بدل أن تقوضه].
الإمبراطورية في حالة تراجع
في القسم الثالث (الأخير)، يعرض المؤلف لأطروحته المركزية، وهي تراجع الإمبراطورية الأميركية. وإذا كان الهدف الاستراتيجي الأميركي وراء إقامة هذه المؤسسات يتمثل، في مرحلة لاحقة، في ضمان دعم الدول التي تسير في ركْبه للمشروع الإمبراطوري الأميركي، أو في أقصى حالات حُسن النية، عدم الاعتراض عليه، فإنه بات واضحًا أن الولايات المتحدة ما عادت الآمر الناهي، وأنها في بعض الحالات قد تضطر إلى الانسحاب من هذه الترتيبات في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويرى المؤلف أن عوامل هذا التراجع تعود إلى أسباب داخلية، يحددها أساسًا في انكماش الاقتصاد الأميركي، وحالة من الإحباط العام التي تسود المجتمع الأميركي من جرّاء سياسة اجتماعية مجحفة، وتداعي الأساطير أو العقائد التي قامت عليها الإمبراطورية الأميركية. وكما قال الناقد الماركسي رايموند وليامز يومًا، لا يمكن الهيمنة، أيّ هيمنة، أن تكون شاملة مطلقة؛ إذ يبقى هناك دومًا جيوب مقاومة. ولعل ذلك ينطبق أيضًا على الإمبراطورية الأميركية.
تشهد الإمبراطورية الأميركية الآن تراجعًا سببه إلى حد بعيد قوى داخلية. وقد أدت الأنماط الأربعة التي تمثل النزعة المعارضة للإمبريالية دورًا كبيرًا في هذا التحول، كما أن أهميتها تنمو وتتزايد. غير أن التقليد الإمبراطوري والنظام الإيماني لا يزالان قويّين، ما يفترض قيام صراعات أساسية خلال العقد التالي بين هاتين القوتين المتعارضتين. إن وجهة الرحلة واضحة، حتى لو أن السفر سيكون مليئًا بالمطبّات، ونحن نجد تضافر الضغوط الداخلية بقوى خارجية على نحو متصاعد، بما سيجعل الإمبراطورية تواصل تراجعها لا محالة.
لقد أحكمت أميركا الخناق على منافسيها الأوروبيين حتى طردتهم من مجالها الخاص في النصف الغربي للكرة الأرضية، وذلك من دون نزاع أساسي، رغم أنها كانت جاهزة لخوض أي نزاع لو اقتضت الضرورة ذلك. والصين تقوم اليوم بالشيء ذاته في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لا أحد من الجانبين يريد نزاعًا، ولكن إذا حدث واشتعل فتيل نزاع ما، فإن الصين ستختار بلا شك اللحظة التي يمكنها أن تفوز فيها. لهذا السبب ولأسباب أخرى، من الأرجح أن يكون تراجع الولايات المتحدة عن الهيمنة – في منطقة آسيا والمحيط الهادئ كما في مناطق أخرى – تراجعًا سلميًّا، ولهذا يمكننا أن نكون كلنا ممتنّين.
المؤلف:
فيكتور بولمر توماس، أكاديمي بريطاني متخصص في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. حائز على شهادة الدكتوراه من كلية سانت أنتوني، أكسفورد (1975). شغل منصب رئيس تحرير مجلةدراسات أميركا اللاتينية (1986-1997)، ومدير معهد تشاتام هاوس (2001-2006)، ومدير معهد دراسات أميركا اللاتينية في جامعة لندن (1992-1998). ألّف وحرر نحو 30 كتابًا. من مؤلفاته: From Slavery to Services: The Struggle for Economic Independence in the Caribbean; The Economic History of the Caribbean since the Napoleonic Wars; The Economic History of Latin America since Independence.
المترجم:
توفيق سخان، مترجم وأكاديمي مغربي، حاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات ما بعد الكولونيالية من جامعة محمد الخامس بالرباط (2006). من أعماله بالإنكليزية Spivak and Postcolonialism: Exploring Allegations of Textuality. له عدد من الترجمات عن اللغتين الإنكليزية والفرنسية، منها: هل هي نهاية الفلسفة السياسية؟ لكارول فيدمايير؛ والناقوس الزجاجي لسيلفيا بلاث؛ وحتى لا تتيه في الحي لباتريك موديانو.