قد يكون الحسد قادراً على تأخيركم في الطريق، فالحاسدون يُتقنون فنّ التأخير، وقد خُلقوا من أجل ذلك، وتأخيرُكم جزء من وظيفتهم. وكم من الإنجازات قد تعثّرت بسببهم! فهم يكمنون لكم، ويحفُرون الحفر أماكم لتقعوا فيها، ولكنّ تلك فترة قصيرة وتنتهي، فأنتم لا تمكثون وقتاً طويلاً في العثرات، لأنّ الإيمان هو الأجنحة التي ترتفع بكم كما ترتفع الطيور من أوكارها إلى قمم الجبال، وستنظرون إلى السفوح لتروا سواداً، وحقداً أعمى، وأشواكاً تنمو وتطول، لتنشر ظلّها على التراب. فهل أنتم من تراب؟
إنّكم لم تولدوا إلا من الروح، والأجساد هي قشور لأرواحكم. فمَن يستطيع أن يمسك الروح ويضعها في زجاجة، فتبقى محبوسة إلى الأبد؟
حقيقة أقول لكم، إنّه لو اجتمع كلّ أطبّاء الأرض ومفكّريها وفلاسفتها وعباقرتها، لما عرفوا أين توجد الروح، ولما اهتدوا إلى أسرارها وخفاياها. ولو احتشدت أجناد الأرض وقادتها وأسلحتها، لما تمكّنوا من القبض على الروح وتقييدها.
بهذا أقوّيكم. وعندي يقين بأنّكم تعرفون الحاسدين من وجوههم، وهؤلاء أربعة:
واحد يحسدكم على ما تفعلونه من قيَم الخير والجمال، ويقول لكم بغبطة: كم أنتم رائعون! وإنّني أحسدكم على ما حقّقتموه في بدع… فهذا لا تخافوا منه، لأنّه محبّ، وقد أخذته الدهشة من فضائلكم، فلم يتمالك نفسه عن البوح بمشاعره، ولعلّه يحبّ أن يكون مثلكم، فلا تمنعوه، بل مدّوا إليه يد المساعدة والرفق، ولا تخشوا أن يحظى بمثل ما حظيتم به، فالدنيا تتّسع لكثيرين، ولا تضيق بأحد من أهلها… فهل رأيتم زهرة في حقل تموت غيظاً لأنّ زهرة أخرى نبتت في مكان آخر عند أطراف ذلك الحقل؟
أمّا الثاني، فهو الحاسد الذي يعمل في المجال الذي تعملون فيه، فالحدّاد يغار من الحدّاد الآخر الذي صنع أشياء جميلة، والسياسيّ أيضاً يحسد السياسيّ الآخر ويتخاصم معه، وكذلك الفنّان والشاعر والإسكافيّ. فالحسد لا طبقات له ولا فئات اجتماعيّة ينحصر فيها.
ولهذا النوع من الحسد وجهان يتعادلان، فبقدر ما يكون فيه عداء وتناقض، يكون فيه تسابق على النجاح وإبراز الموهبة.
والنوع الثالث هو حسد النقيض، فالبشع يحسد الجميل، والفاشل يحسد المتفوّق، والبطيء يغار من المسرع إلى غايته، والبخيل يحقد على الكريم لأنّه لا يستطيع أن يكون مثله، والكريم في أوجه عطائه يفضح البخيل، ويُظهر التضادّ الفاقع بينهما أمام الناس.
وهذا الحسد خطير، وقد يؤدّي إلى الفرقة وانقسام المجتمع. ولكنّني صدقاً أقول لكم إنّ الانقسام نفسه حكمة من الله، فلا يمكن أن يكون جميع البشر متساوين في الخلق وفي الخُلق. ولعلّ أفضل ما يمكن أن يواجه به المرء الناجح حاسديه، أن يتجاهلهم ويمضي في سبيله، وهو مقتنع بأنّ القافلة تسير، مهما كانت الصعوبات والأهوال.
ويبقى أنّ أبشع أنواع الحسد على الإطلاق هو أن يحسد الإنسان المبدع والخلاّق إنساناً من غير مجاله، كأن يحسد الفلاّح الموسيقيّ، أو المزارع الشاعر والرسّام، أو أن يغار صيّاد من رائد فضاء. ولو وصل العلم إلى أرقى درجات التقدّم، فلن يعرف ما هي الكوامن الخفيّة التي أنبتت هذا النمط من السلوك العجائبيّ، وهو يعكس مرضاً لا شفاء منه… ولو سألتُم بائع الخضار: لماذا تحقد على ممثّل مسرحيّ وتغار منه غيرة عمياء؟ لحكّ رأسه، وامتنع جوابه… بيْد أنّه بعد ذلك يلجأ إلى حُجّة ضعيفة، كأن يقول لكم إنّ ذلك الممثّل مغرور ومتكابر. وفي هذا الجواب تبرير غير منطقيّ للموقف برمّته. فلو كان الممثّل مغروراً، فهذه مسألة شخصيّة قد يناقشها أهله أو زوجته أو أبناؤه، أمّا أن يتدخّل فيها إنسان غريب، لا ناقة له ولا جمل، فتلك من غرائب الدنيا. ولو سألتم الحاسد أيضاً: لماذا تخوض في أمر لا يعنيك؟ ومَن وكّلك لكي تصلح البشر؟ ومتى كنت نبيّاً لتغيّر في الأخلاق والعادات؟ لامتقع وجهه، وتحوّل إلى مخلوق كاسر يريد أن يثأر منكم، فإنّ الغطرسة هي التي وكّلته، وإنّ اعتبار نفسه أنّه من الكائنات المتفوّقة هو الذي جعله يحشر أنفه في أمر لا يخصّه بتاتاً.
كونوا حذرين يا أبنائي وأنتم تواجهون في رحلتكم، وسيروا بأمان واطمئنان في الدروب، لكن إيّاكم أن تديروا ظهوركم للحسود الحاقد، فهذا أخطر الناس، لا شيء يردعه عن ارتكاب المعاصي. وعلى يده يمكن أن يفتك الحسَد بالجسَد، وتتحوّل المجتمعات إلى بؤر للإثم والخطيئة.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع