أُنادِيكِ، أُمَّاهُ! 

أُنادِيكِ، أُمَّاهُ، هل مِن نَوالْ،         وَمَرَّتْ سِنُونٌ طِوالْ طِوالْ؟!

رَحَلتِ ولَمَّا يَزَلْ هَهُنا                     عَبِيرُكِ يَنهَلُّ مِلْءَ المَجالْ

أُنادِيكِ يا مَن مَكَثْتِ بِصَدرِي،             وها أَنتِ أُمنِيَّةٌ لا تُنالْ

أَلَا أَنتِ في مُهجَتِي دِفْؤُها،          وفي بَرْدِ عُمْرِيَ أَنتِ اشتِعالْ

وتَبقَينَ، في خاطِرِي، غِنْوَةً،               وشَدْوًا رَقِيقًا، شَهِيًّا، بِبالْ

وفي طَلَّةِ الفَجْرِ أَنتِ نَسِيمٌ،               وفي قَهوَتِي أَنتِ حُبَّانُ هالْ

رَحَلتِ فَباتَ المَسِيرُ كَئِيبًا،                فَفِيهِ الثَّوانِي ثِقالٌ ثِقالْ

وبَعدَكِ صارَ المَدَى أَغْبَرًا،         وغَمَّت(1) ضِياءَ حِمانا الظِّلالْ

لَكَ اللهُ يا عَهْدَ أُمِّي، الحَبِيبَ،        زَمانِي الجَمِيلَ… ونِعْمَ الجَمالْ

لَقَد ضامَنِي البُعْدُ حَتَّى سَلَوتُ ــــــــــــ اشتِهاءَ الحَرامِ، وعِشْقَ الحَلالْ

فَما كُلُّ ما لَذَّ لَذَّ الصَّمِيمَ،                  ولا كُلُّ لَأْلَأَةٍ مِنْ لآل(2)

غِلالُكِ تُنْمِي نَقاءَ الفُؤَادِ،                   فَما هِيَ إِلَّا خِيارُ الغِلالْ

هي الماسُ، ما غابَ عن دارِنا،      وبَعدَكِ كُلُّ الجَنَى مِنْ رِمالْ

أَلَا لَيتَ طَيفَكِ يَبقَى هُنا،                   رَفِيقًا، وأُنْسًا، وحُلْمَ لَيالْ

أَيا أُمُّ… لا تَبخُلِي بِالمَجِيءِ،              ولَو شَبَحًا عابِرًا كَالخَيالْ

أَضِنُّ بِهِ أَن يَزُولَ سَرِيعًا،            وأَبقَى، بِذِكراهُ، أَرثِي الزَّوالْ

قُدُومُكِ نُعْمَى أَعِيشُ جَواها،         وَأَسكَرُ فِيها، ولَو وَهْمَ آلْ(3)

ويُثلِجُ صَدرِي، ويَبرِي يَراعِي،          فَتَهمِي القَوافِي العِذابُ الغَوالْ

أَنا كُلَّما عُدْتِ بِالذِّكْرِ أَسأَلُ    ـــــــــــ       ذِكراكِ، أَينَكِ، حَنَّتْ عِيالْ

وتَبقَى النَّجاوَى الدَّفِيئَاتُ تَهفُو،           ويَحلُو بِسِرِّي العَمِيقِ السُّؤَالْ

تَعُودُ إِلَيَّ لَيالِيكِ دِفْئًا،   ـــــــــــ      فَأَهنَا، ولَو في سَرابِ المُحالْ

حَنانُكِ كانَ بِعُمرِي السَّنا،                  وقِدِّيسَةً كُنتِ في كُلِّ حالْ

إِذا زارَنِي اليُسْرُ خِلتُ مُحَيَّاكِ    ـــــــــــ     صُبْحًا بَهِيًّا، سَنِيَّ الجَلالْ

وإِنْ جاءَنِي العُسْرُ أَصبَحتِ فِيهِ            كَشِلْوٍ طَرِيحٍ بِمَرمَى نِبالْ

خِصالُكِ، أُمَّاهُ، كانَت لَنا                   بِمَسْرَى الحَياةِ زَكِيَّ المِثالْ

أَيا أُمُّ أَنتِ السُّوَيداءُ(4) فِينا،       وأَنتِ الذِّراعانِ تُسدِي الدَّلالْ

وبَسمَةُ ثَغْرٍ، وتَحنانُ قَلبٍ،       وصَدْرٌ عَطُوفٌ، وحُبٌّ زُلالْ

وَوَجْدٌ يُناغِي الحَنايا شَجِيًّا،         وخَمْرٌ تَمُورُ بِبالِ الدَّوالْ

ونَوْرٌ يُطَوِّقُ مِنَّا الدُّرُوبَ،            وَزَهْرٌ يموج بِلِحْفِ التِّلالْ

سَنَجنِي، ونَبنِي، ونَقطِفُ عُمْرًا،         لَذاذاتِهِ، والهَوَى، والوِصالْ

وَمِنْ ثَمَّ نَأْتِيكِ، أُمَّاهُ، شَوقًا،            سَنَأتِي، وَلَو بَعدَ طُولِ المِطالْ!

***

 (1): غَمَّ الشَّيءَ غَمًّا: غَطَّاهُ وسَتَرَهُ

(2): لَأْلَأَة: مَصْدَرُ لَأْلَأَ / لَأْلَأَ النَّجْمُ: لَمَعَ، أَشْرَقَ / لَآلِئ: جَمْعُ لُؤْلُؤ

(3): آل: سَراب

(4): سُوَيْداءُ القَلب: حَبَّتُهُ، عُمْقهُ، مُهْجَتُهُ

اترك رد