“المرأة التي تزوّجتُها” لجميل الدويهي

 

مررتُ في شوارع غريبة، وقرأت على الناس من كتُبي، فتعجّبوا وفرحوا، وأخبرتهم أنّني عشقتُ الكلمة… فصفّقوا لي… بيْد أنّ قائد الشرطة غضب وانفعل، وقال لرجاله: أقبضوا على هذا المغرور المتعجرف، الذي يزعم أنّ الكلمة هي خليلته، ففررتُ منهم لا ألوي على شيء، وتمكّن أحدهم من نزع قميصي، فظللتُ أركض وأنا عاري الصدر، حتّى وصلت إلى بلدة مجاورة.

جلست عند نبع ماء لأرتاح، فسمعتُ قرع طبول وعزف مزمار، فهرعت لكي أفرح مع الفارحين، لكنّني وصلت متأخّراً، فتفرّق الجمع، وصمتتْ الموسيقى. وبقي بعض الناس في الساحة، ولمّا رأوني مشرّداً، عاري الصدر، ضحكوا منّي، وقالوا: هذا رجل متمرّد على المألوف. أفلا يعرف أنّ الرداء حشمة، وأنّ الخيّاطين يسترون العيوب؟

قلت لهم: إنّ العيب ليس منّي، بل من الذين نهشوا قميصي، وطاردوني في الفلاة، حتّى وصلت إلى هنا، ولست أدري مَن أنتم، ولا من هم آباؤكم وأمّهاتكم.

قالوا: أيّ جنّيّ تكون؟ وماذا جرى لك؟

أخبرتهم بما حدث لي مع قائد الشرطة، وقلت لهم: أنا كاتب وشاعر، وعندي قصص كثيرة، وفلسفة عميقة. فطلبوا منّي أن أقرأ لهم ممّا كتبته، فحدّثتهم عن البحر والعناصر، وعن الصداقة، والتواضع، والخير والفضيلة… فأحبّوا القيَم التي سمعوها منّي، وكادوا ينسون أنّهم ذاهبون إلى الهيكل ليعيّدوا، فيما هم يصغون إليّ بكلّ جوارحهم. وعندما انتهيت من الكلام، سألني واحد منهم:

هل أنت متزوّج؟

أجبته: لا. لم أتزوّج بعد. وأنتظرُ أن تكبر الكلمة قليلاً لأتزوّجها… فهي وأنا في حبّ منذ كنّا طفلين.

استغربوا، ونظر الواحد منهم إلى الآخر. وما هي إلاّ دقيقة، حتّى ظهر من وراء البيوت الصغيرة شابّ طويل القامة، يرتدي ثياب الجنود، فصاح: أين هو المعتوه الذي جاء إلينا، ومعه تعاليم ضالّة؟ فهل يريد أن يخرجنا من ديننا وعبادتنا؟ وأمر مجموعة من أتباعه باعتقالي، صائحاً: اقبضوا على هذا المتشاوف المتكابر الذي يقول إنّه أحبّ الكلمة وهي عشيقته…

فررتُ مرّة أخرى، ورجلاي تسابقان الريح، إلاّ أّنّ واحداً من الجنود تمكّن منّي وتشبّث بسروالي، فانمزق، وبقي بين يديه، فخرجت منه بصعوبة، ونجحتُ في الإفلات وبلوغ النهر، فارتميت فيه، وكان بارداً ولا يطاق، فكأنّ فيه ثلجاً، فخافوا أن يتبعوني في المياه ويموتوا من الجليد… أمّا أنا فلم يكن أمامي سوى هدف واحد، أن أصل إلى الضفّة الأخرى، وأنجو بنفسي، فشرف لي أن أموت من البرد، ولا أموت في أيدي الجاهلين!

اطمأنّ قلبي عندما وجدتني بعيداً وفي أمان، وفي الوقت نفسه كنت خجلاً، لأنّي أصبحت عارياً، فلجأت إلى غابة قريبة، وصنعت ستاراً من أوراق الشجر، لففتُه حول وسطي، ومشيت بخفر كما يمشي الراقصون، وكان المارّة ينظرون إليّ ويقولون: هذا آدم الجديد، فأين حوّاؤه؟ وقال آخرون: قد يكون مغتصِباً… فخبّئوا نساءكم من وحشيّته وبدائيّته. وفرّت سيّدات منّي، وهنّ يقلنَ: شابّ وسيم، لكنّه لا يرتدي لباساً، فما أقبحه! وكنت في قرارة نفسي متألّماً من غربتي، ومشمئزّاً من حالتي. ومشيت على غير هدى، حتّى بلغت صحراء شاسعة، ليس فيها نبات ولا مياه، فجعت وعطشت. وفجأة ظهر أمامي قصر كبير، بدا لي أنّه للسموأل بن عادياء، فارتميت عند بابه فاقداً وعيي، ولم أعد إلى رشدي إلاّ عندما صرت في داخل القصر، والأطبّاء يفحصونني، ويؤكّدون أنّني لا أنتمي إلى هذا العصر. وسمعت طبيباً يقول إنّني وقعت من مركبة فضائيّة كانت عائدة إلى كوكب بعيد، قد يكون سكّانه عُراة، ولم يعرفوا بعد صناعة الثياب. وأحضروا ساحراً، فأشعل بخوراً فوق رأسي… وكانت امرأة جميلة تنفخ في فمي، وتقول: فيه روح… نفخة أخرى… نفخة أخرى… ما أشهى عودة الحياة!

وفي صباح اليوم التالي، شفيت من معاناتي وبؤسي، وكان أوّل ما نطقت به: أين هي المرأة التي أرجعتني من شفير الزوال، عندما كنت في سرداب طويل تكتنفه عتمة، وصمت رهيب؟

أخذتهم الدهشة من سؤالي، وقالوا  مستنكرين: أيّ امرأة هي؟ وعمّ تتحدّث؟ لم تدخل امرأة إليك…

لم يكن صعباً أن أصدّق أنّني كنت أتخيّل، فلم أتابع الحديث معهم، بل كنت أتأمّل في سقف الغرفة، وأقنع نفسي بأنّني ضحيّة لتصوّراتي.

أخذوني إلى الملك، فاستفهمَ عن حالي، وأعلمته بأنّني إنسان بسيط، أحبّ الكتابة، وعندي أفكار عن السلام والمحبّة، وقد خطبتُ الكلمة.

ارتعد الملك، وبدت إمارات الغضب على وجهه، وقام بسرعة عن عرشه وهو يقول: أنت زنديق… وعقابك النار التي أُعدّت للكافرين والخطأة… فكيف تنشر السلام هنا، ونحن في حرب ضروس مع أعدائنا، ونقاتل من أجل الشرف والكرامة؟ وكيف تجرؤ على النطق بالمحبّة، ونحن لا نعرف لها وجهاً منذ اخترعنا السلاح من العظام والحجارة، ورفعنا أبراجاً للضغينة تناطح السحاب؟ وكيف تحبّ الكلمة ونحن نبغضها إلى أبد الآبدين؟

وأمر الملك حرّاسه بمعاقبتي، قائلاً: نكّلوا بهذا الصدّيق الذي جاء إلينا مبشّراً بخرابنا وتدمير حضارتنا…

لم تكن عندي حيلة للهرب، فالأبواب مقفلة… ولا أستطيع شيئاً سوى أن أرضخ لقدري.

أمضيت أيّاماً وأنا مقيّد إلى عمود في الساحة، بعد أن تلا القاضي عليّ قرار الإدانة، ورفض الاستماع إلى أي حجّة منّي. وفيما كنت أعاني العذاب وأشتهي الخلّ على شفتيّ المتقرّحتين، كنت أفكّر مليّاً في نهايتي، وأحاول أن أفهم لماذا يغتاظ الكثيرون من أفكاري، ومن المبادئ الطيّبة التي أؤمن بها، وأسعى إلى نشرها بين البشر.

وكم كنت محظوظاً، عندما جاءت إليّ تلك المرأة التي تخيّلتها في القصر، وفكّت رباطي تحت جناح الليل!

همستْ لي: هيّا لنتوارى عن الأنظار معاً…

كنت في حيرة من أمري، فهل هي حقيقة أم طيف؟ وهل صحيح أنّها من نسج أوهامي؟

خشيت أن أعبّر لها عن حيرتي، فتتلاشى من أمامي. لذلك لم أنبس ببنت شفه. وفي الوقت نفسه كنت مرتبكاً، بينما كنت أرمي عن جسدي حبال العبوديّة، وأكاد أطير من الفرح، لأنّني عدت إلى الحرّيّة، وعاد إليّ الأمل والرجاء.

تسلّلنا إلى الخارج في الليل، وكنت أظنّ أنّ تلك المرأة ستتركني وحدي لأمضي إلى المجهول، لكنّها قالت لي: سنظلّ معاً، وسنتزوّج في بلاد بعيدة، ولن نعود إلى هنا أبداً.

سألتها عن اسمها، فأجابت: اسمي كلمة.

كانت تلك المرّة الأولى في حياتي التي أسمع فيها بامرأة تحمل هذا الاسم، فكثير من الناس يختارون لبناتهم أسماء، كالياسمين، والورد، والسوسن، والتفّاح والشمس والنجوم والثريّا… ولا يدركون أنّ الكلمة هي البداية والنهاية، بل إنّ بعض الأمم جرّدوها من جسدها وروحها، وأذاقوها الاضطهاد والعذاب.

تحت ضوء القمر الفضّيّ، تمعّنت في وجه المرأة. كانت جميلة، شعرها داكن طويل، وعيناها سوداوان تحت رموش بلون ليلكيّ، وابتسامتها حزينة. حدّثتْني باختصار عن الذلّ الذي عاشته طويلاً… فأشرتُ إلى الأوراق الصفراء التي تستر جسمي النحيل، لكي أعبّر لها عن مأساتي.

قلت لها بصوت خفيض: لطالما كنت منبوذاً، مطارداً ومهاناً في كلّ مكان وطئته قدماي، بينما عاش في نعيم أصحاب القلوب العتمة، والألسنة النمّامة، ومغتصبو الحقوق، وأعداء الخير… ولم يبق عليّ سوى أوراق من الغابات، هي قشور أرتديها.

قالت المرأة: عذابك لا ينتهي إذا كنت تفهم… ففي هذه الأرض، تُعرّيك الخطوب من قماش الحقيقة، لتبدو أقصر قامة، ولا تسبق أحداً بخطوة واحدة… لا تصدّق ما سمعتَه منهم، وأنا لا أصدّق أيضاً… فقد اختبرت كثيراً من عاداتهم وتقاليدهم، وعضّتني الخيبة منهم…

في ذلك اليوم المقدّس، صار لي زوجة هي الكلمة التي صنعتها بنفسي، واتّخذتها لنفسي. وهي الوحيدة التي تصدّق أنّني متواضع ومحبّ وكريم، وترفض أن ينعتَني أحد يغير ذلك…

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي  النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد