في يوم العيد، تجمهر الناس في المعبد، وكانت الحرب قد وضعت أوزارها، فارتجلتُ عظة عن طبيعة الحُبِّ، قلت فيها: إنَّ الحُبَّ هو النار التي تشتعل في حطب قلوبكم، فتحوِّله إلى لهب أبديٍّ. الحبُّ في الأصل كان تقدِمة من الله إلى الإنسان، وقد يحبُّ الإنسان الله في كثير من الأحيان، وقد لا يحبُّه، وقد يتظاهر بأنَّه يحبُّه أيضاً، والله يعرف مَن يحبُّه ممَّن لا يحبُّه، فينظر إليه بعين الحنان والشفقة. أمَّا حبُّ الناس لبعضهم فشيء نادر، وكلُّ من يدَّعي أنَّه يحبُّ الله وحده يكون حبُّه باطلاً، فالحبُّ يكون لله والمخلوقات وللكون أيضاً. الحبُّ يعطيكم الحرِّيَّة، وبالحرِّيَّة ينسجم الخالق معكم، ويصير الحبُّ في مرتبة العبادة.
بعضكم يحبُّ امرأة واحدة، فحبُّه صادق وحميم، وبعضكم يحبُّ كثيراً من النساء، فحبُّه ليس باطلاً لأنَّ الذي يحبُّ أفضل من الذي يكره. ولكن لا ترجموا امرأة إذا أحبَّت رجالاً كثيرين فإنَّها أيضاً لا تكره، وإنَّكم لا تفرِّقون بين ذكر وأنثى كما أنَّ الله لا يفرِّق.
وإذا سألني أحدكم عن حبِّه لنفسه أقول: الحبُّ للذات هو شعور طبيعيٌّ، ولذلك يخاف الإنسان من العذاب والألم والموت. ولكن يجب ألاَّ ينحصر الحبُّ في الذات وحدها، وأنتم تحصرون حبَّكم في أنفسكم وفي أقرب الناس إليكم. وحُبُّكم ليس مجرَّداً عن المصلحة، فالأب يحبُّ أبناءه لأنَّهم من لحمه ودمه، والرجل يحبُّ المرأة لأنَّها نصفه الآخر، والفلاَّح يحبُّ حقله لأنَّه يعطيه الغذاء، والصيَّاد يحبُّ البحر لأنَّه يقدِّم له الخير الوفير. وعلى الرغم من هذه المصلحة، فإنَّ الحُبَّ يرفعكم من مصاف الناس إلى مصـاف الملائكة. وكم يكون جميلاً لو تحبُّون من غير فائدة، فـإذَّاك تطير أرواحكم إلى السماء كألحان الربيع، وتولَدون في معموديَّة الحبِّ!
ومـن أسوإ الحبِّ أيُّها الأبنـاء، الحبُّ الذي يعبِّر عنه رجال الديـن لمَن يملكون الثروة والغِنى، وهذا الحبُّ يغيظ الفقراء الذين لا يملكون شيئاً ليعطوه، فأين من هؤلاء فلس الأرملة الذي أعطته الحكمة الإلهيَّة مثلاً يُحتذى؟ وماذا لو أنَّ الله خلق جميع الناس فقراء، ولا أغنياء بينهم؟ فهل كانت الديانات ستبطل؟ وهل كانت المعابد ستتهدَّم وتصبح هباء منثوراً؟ كلاَّ يا إخوتي، إنَّ الغنيَّ لا يضيف إلى ثروة الله فلساً واحداً، والمعابد التي تقوم على المال هي معابد فارغة من الصلاة ومن رائحة البخُّور. وأضيف إلى هذا أيُّها الأبناء أنَّ رجل الدين الذي يُهمل فقيراً لفقره، أو أرملة لحاجتها، أو يغضُّ طرفه عن آلام المتألِّمين ليمضي إلى حفلة عرس إنَّما هو رجل يقتل الحُبَّ فيه، ويخلق البغضاء في نفوس البائسين.
ومـن أسوإ الحبِّ أن يتظاهـر رجـل بحبِّ امرأة لكي تعطيه جسدها، فإذا حصل على مراده ألقى بها على قارعة الطريق، غير عابئ بمشاعرها. إنَّه الوحش المفترس الذي يتنكَّر في ثياب إنسان.
ومن أسوإ أنواع الحبِّ أن يحبَّ المرء الربَّ إلهه عندما يكون في حاجة إلى شيء منه، أمَّا إذا كان مكتفياً بما لديه، فلا يرفع صلاة من قلبه إلى السماء.
ومن أسوإ أنواع الحبِّ أن يتفانى العامل أمام سيِّده، وكأنَّه يستعطي، بينما هو حاصل على أجره من غير أن يبالغ في العطاء. فعلى العامل أن يقوم بواجبه كما هو مطلوب منه وليس أكثر، وعلى ربِّ العمل أن يعطيه أجره على العمل الذي قام به من غير أن يطلب منه أكثر. فالعامل الذي يضحِّي إذ لا تجوز التضحية إنَّما هو شحَّاذ يستعطي، أمَّا السيِّد الذي يطلب المزيد فهو بخيل يخاف أن يخرج القرش من يده إلاَّ إذا كان الآخرون قد سحقوا أنفسهم من أجل الحصول على ذلك القرش.
ومن أسوإ أنواع الحُبِّ أيضاً أن يتظاهر أصحاب المصالح بأنَّهم يحبُّون الناس، حتَّى إذا تحقَّقت مصالحهم، أداروا ظهورهم وأقفلوا أبوابهم على كلِّ طالب عطاء. إنَّ هؤلاء الوصوليِّين يشبهون البعوضة التي تمتصُّ الدماء وتترك وراءها ألماً وقروحاً.
أمَّــا أجمل أنـواع الحبِّ أيُّها الناس، فهو الحبُّ الـذي يُعطي ولا يأخذ، فالحُبُّ ليس مبادلة في سوق تجارة، ولا ضرباً من ضروب المقايضة… فإذا استطعتم أن تحبُّوا هذا الحُبَّ لا يكون للبغض مكان في قلوبكم، ولا للشرِّ طريق إليكم.
***
*مشروع الاديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع