“النزوات” لجميل الدويهي

 

النزوات تحرِّركم من الشوق الذي يستعبدكم، وتأخذكم من أزمنة انتظاركم إلى موائد الألم. النزوات هي الصوت الصارخ في دواخلكم، والرداء الذي تخلعونه عندما تشعرون بالحريق والقيظ، وأنتم عندما تتبعون النزوات تصبحون عبيداً لشغفكم وأمنياتِكم وأحلامكم المعذِّبة. وإنَّ الحُبَّ والرفق والبغضاء والميل إلى عمل الخير نزوات، بعضها يطول به الزمان وبعضها يقصر. يقولون لكم إنَّ استجابتكم للنزوات إنَّما هي من فعل الجسد، فصدقاً أقول: إنَّ الجسد والروح لا ينفصلان، تماماً كما لا ينفصل نور الشمس عن حرارتها. إنَّهما توأمان يتشاركان وينسجمان ويلبِّي أحدهما الآخر، وعندما يتصارعان لا يطول بهما الوقت حتَّى يتصالحا ويسلِّم أحدهما بما يقوله الآخر. فلا تتَّهموا الجسد بما تذهب إليه أرواحكم صاغرة، ولا تبرِّئوا الروح من ميول الجسد، فإنَّ المرء الذي يحبُّ أو يكره يُخضع جسده وروحه معاً للتجربة، أمَّا الذي يقتل فإنَّه يقتل روحه وجسده معاً، ويحوِّل نزوته إلى جريمة.

وأطلب منكم يا إخوتي بإلحاح أن تجعلوا النزوات خادمة لكم، ولا تخدموها، فالإنسان إذا تحوَّل إلى عبد للشهوات فقدَ طبيعته الإلهيَّة وأصبح خشبة في محيط هادر. وقد قالوا لكم إنَّ البشر قادرون على التحكُّم بنزواتهم، وقد يستطيعون قتلها، وهذا صحيح، بيد أنَّ مَن يتبع نزواته لن يكون مجرماً يستحقُّ العقاب، فالربيع قد يناديكم لكي تتنشَّقوا عطره، والبحر قد يناديكم لكي تغسلوا أجسادكم فيه، والمرأة قد تصرخ إليكم لتحبُّوها بكلِّ جوارحكم، فإذا استجبتم للنداء الذي يأتيكم من البعيد وسلَّمتم أنفسكم له، تكونون قد خضعتم للنزوات، وإذَّاك فأنتم لا تختلفون عن الطيور التي استجابت لنداء السماء، ولا عن الكواكب التي نادت إليها ظلمة الأرض فبعثت نورها في كلِّ اتِّجاه. وقد تختلف استجابة الإنسان القويِّ للنزوة عن استجابة إنسان ضعيف، والضعف والقوَّة قد يأتيان بالولادة، ثمَّ يتطوَّران عبر الزمن، فقد يولد الطفل وفيه روح القوَّة ويولد طفل آخر وفيه روح الضعف، ومع الزمن يتطوَّر أحدهما، فيخلع ثياب القوَّة عنه بينما يخلع الآخر رداء الضعف والاستسلام. ومن الناس مَن يولدون أقوياء ويعيشون عتاة، ويموتون جبابرة، ومنهم مَن يولدون ضعفاء، ويعيشون مستسلمين، ويموتون يائسين، فكونوا أنتم جبابرة على الزمن، وتحكَّموا بمشاعركم، واستعبدوا نزواتكم، أمّا إذا استعبدتْكم، فتلك طبيعة إنسانيَّة، ولستم قادرين على تغييرها ولو سحقتُم أنفسَكم.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الانواع

اترك رد