(تعبّر هذه القصة عن معاناة الإنسان المهاجر وعذابه، وقد استخدمت فيها ضمير المتكلم، كما دأبت في أغلب قصصي، مع أنها قصص عامة، ما عدا القليل منها. وهذه القصّة بالذات لم تحدث معي شخصيّاً، وقد جمعتُ أطرافها من إيحاءات متفرّقة)
لن تعرفني في هذه المدينة الباردة. أنا حطبُ الأيَّام. أنا الثلجُ المتساقط بين كلمة وكلمة.
هرمتُ هنا كهذه الأشجار العارية في فضاء رماديٍّ. ثيابي حيَّكتها العاصفة… وبيتي غرفة صغيرة فيها سراج منطفئ.
لم يشتعل هذا السراج منذ عصور. لقد أصبح زينة في عيد انتظاري. وليس في غرفتي أثاث، ما عدا أوراقاً متناثرة هنا وهناك، ألمُّها بيدي المرتجفة… أقرأها وأسأل نفسي عمَّن كتب سطورها، فلا تجيب.
أصبح عمري في هذا اليوم أربعين عاماً. هرولتُ إلى دكَّان قريب، واشتريتُ أرخص هديَّة، قدَّمتها إليَّ، وشربت معها كأس ماء، حتَّى لا يقال: لم أسكر في عيد ميلادي.
اشتهيت البيرة. قال لي أحد أقربائي: سأشتري لك زجاجة.
دخلنا إلى حانة، وشربنا. كان حولنا أناس كثيرون، يضعون أموالهم في آلات فتبتلعها، وأبتلع خيبتي…
لقد شعرت دائماً بأنَّ العدالة مفقودة. وكنت في الأيَّام القليلة الماضية أمرُّ بجانب إحدى البنايات، فأقول: لو كنت أملك عاموداً واحداً منها، لما كنتُ فقيراً. وذات مرَّة رأيت عمَّالاً يهدمون بناية، فصرخت بهم: حرام عليكم! تهدمونها، وأنا ليس عندي سرير أضع رأسي عليه! دفعوني بأيديهم الملوَّثة، وهم يصيحون: إذهب من هنا أيُّها الحسود!
في الحانة نفسها، سمعتُ رجلاً ينادي على مسرح عالٍ: بعد قليل، سنسحبُ الورقة الرابحة لسيَّارة جديدة. لم يبقَ عندنا سوى عشر ورقات… مَن يشتريها؟
نهض قريبي عن كرسيِّه، وتوجَّه إلى المسرح بزهو، فاشترى ورقتين.
عاد بعد قليل، وهمس في أذني: واحدة لي وواحدة لك. قلت له: أبداً…
أبداً! أنت اشتريت الورقتين… لكنَّه أصرَّ على موقفه، ورمى بالورقة
أمامي على الطاولة؛ فرأيتُ أنَّ من غير اللائق أن أردَّها إليه.
سحب الرجل الذي على المسرح الورقة الرابحة، وأذاع رقمها على الحاضرين: ثلاثة، ثلاثة، أربعة.
كانت تلك ورقتي، فقفزت من مكاني مذعوراً، وانتبه الجميع إلى سذاجتي.
قال رفيقي بفرح: ربحتَ… فأجبته بسرعة: أنت ربحتَ… هذه الورقة لك. غير أنَّه أكَّد لي أنَّني أنا الرابح، وأمسكني من كتفي، ومشى معي إلى المسرح لأعطي الورقة للرجل. كنت أنظر في عيني قريبي لأعرف ما إذا كان نادماً على إعطائي الورقة الرابحة بدون مقابل، فوجدته مسروراً، ولعلَّه كان يقرأ أفكاري أيضاً، فقال لي:
أنتَ محظوظ… لا ترتبك! إنَّ عندي سيَّارة جديدة، وأنت لا تملك سيَّارة.
وما كاد ينهي جملته، حتَّى اقترب من المسرح رجلٌ غنيٌّ، ضخم الجثَّة، تلتمع الجواهر في يديه وحول عنقه. أشار إلى ورقته، وهو يقول: معي الرقم نفسه.
نظرت إلى ورقته بدهشة واستغراب. صحيح… الرقم نفسه… كيف حدث هذا؟!
تعجَّب الحاضرون، وساد هرج ومرج. فنطق الرجل الذي على المسرح بكلمات مشؤومة: يبدو أنَّ خطأ في طباعة الأوراق قد أدَّى إلى هذه البلبلة… سنعيد السحب.
كيف؟! صرخت بغضب… تعيدون السحب؟! كلاَّ… يمكن أن نقتسم ثمن السيَّارة بيني وبين الرجل الغنيِّ. نفعل أيَّ شيء… لقد ربحنا.
قال الرجل الغنيُّ: لا نقسم ثمن السيَّارة… إمَّا لي وإمَّا لحضرتك. أحدنا يتنازل للآخر.
قلت له بدون تفكير: تنازل أنت!
فصاح: لماذا أنا يا مصارع الثيران؟!
قلت: لأنَّك غنيٌّ وأنا فقير، ولأنَّ عندك سيَّارة وليس عندي واحدة.
إزداد صياحه، فطرشني بلعاب طار من بين أسنانه القليلة: وحقِّ الملائكة، لن أتنازل لك!
أردتُ أن أهجم عليه وأضربه بين عينيه، لولا أنَّ قريبي دحرني بنظرة
فيها عتاب وندم وشفقة، وأخذني من يدي ليصطحبني إلى مكاني، فأعيد سحب الورقة، وربحت امرأة عجوز مقعدة، ظننت أنَّها وُلدت قبل التاريخ.
خرجتُ من تلك التجربة مبتسماً أكثر، وساخراً، ومحطِّماً رأسي في جدار. لقد اكتشفتُ الآن لماذا أنا مطارد كلصٍّ بغيض، ولماذا لا يشتعل سراجي، ولماذا أنام بدون غطاء والثلج من حولي، ولماذا لا تنفعني صلوات أمِّي وأبي، ولماذا ليس معي درهم في جيبي أشتري به رغيف خبز؟!
أصبحت شديد العبث، غوغائيّاً… لم يعد لديَّ وقتٌ للبحث عن عمل، فأنا مشغول بوصف من ينغِّصون عيشتي، ورسمهم على الجدار كأرانب وحيَّات وعصافير وسلاحف.
جعتُ بعد أيَّام قليلة، ولم أتمكَّن من الحصول على تفَّاحة مهترئة. ضاقت الدنيا في وجهي… عثرت على جريدة، تركها صاحبها على مقعد في حديقة.
قلَّبتها، فوجدت فيها إعلاناً يقول: “رجل غنيٌّ يحتاج إلى رجل فقير لينـزِّه كلبه. الخبرة غير ضروريَّة”…
اتَّصلت بالرجل، وعندي بعض الأمل بأنَّ الوظيفة المعروضة ستكون من نصيبي، ففاجأني بفرحة عارمة، وهو يقول: وجدتك من السماء، فأنا محام… وليس عندي أحد يهتمُّ بكلبي. أرجوك أن تسارع إلى نجدتي حالاً.
أعطاني عنوانه، فهرولت إليه. لم يكن بيته بعيداً جدّاً. تكلَّم كثيراً وأنا صامت. قال: ستأخذ “بوبي” صباحاً وتعيده في المساء… سأعطيك طعامه وشرابه، وطعامك أيضاً… فلن تحتاج إلى شراء قطعة خبز في النهار… لكن أرجوك… انتبه إلى الكلب. إذا داهمه خطر، مُتْ أنت وخلِّصهُ. إذا عاندك لا تعانده… وإذا أزعجك لا تزعجه، وإذا عضَّك لا تعضَّه. إنَّه حيوان لا يفهم… وأنت انسان، أليس كذلك؟ راعِ شعوره… اعتبره ابنكَ الصغير… أفهمت ماذا أعني؟
قلت له: سأبدأ عملي غداً، إذا شئت. ولكن يجب أن أشتري قليلاً من الأغراض… فهل تقرضني بعض المال؟
تعجَّب من سؤالي، فالعمل كراعي كلاب لا يتطلَّب عدَّة، لكنَّه مدَّ يده إلى جيبه فأخرج منها مبلغاً صغيراً دفعه إليَّ دون اعتراض.
في اليوم التالي، أخذت الكلب الصغير، ورحتُ أجرُّه في الشوارع،
والحدائق، وعلى الشواطئ… وبعد ساعتين فقط بدأ يجرُّني، فأخذني وراءه إلى أماكن لم أزرها من قبل… تهارش مع كلاب، وأولاد صغار لا يعرفهم، ونبح في وجوه العجائز… ثمَّ نبح في وجهي من جوع وعطش. جلست معه تحت شجرة باسقة في حديقة، وفتحت زاده وزادي… كانت تفوح من طعامه رائحة طيِّبة، ومن طعامي رائحة لا تطاق.
نظرت في صحنه، فوجدته مليئاً باللحم المسلوق والحساء… ووجدت في صحني قطعة جبن يابسة وشريحة لحم مجفَّف.
لم أعطِ الكلب فرصة ليبدأ في التهام طعامه، فاعتذرت منه، ثمَّ استوليتُ على صحنه وأعطيته صحني.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي … النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع