قال راهب متنسّك لراهب آخر أكبر منه سنّاً: لقد أتينا يا أخي إلى هذا القفر، لننجو بأنفسنا من الخطيئة والشرّ. ففي هذه الغابات البعيدة التي لا يوجد فيها بشر، ننأى بأجسادنا وأرواحنا عن التجربة. لكنّني ما زلت أشعر بأنّ الخطيئة تلاحقني، وأعتقد أنّ هذه الشجرة العاتية التي تشمخ على كتف الوادي أكثر براءة وطهارة منّي، فهي لم تقع في تجربة، ولم يقرب منها الشرّير.
وفجأة مرّ في المكان تاجر من بلد بعيد. وعندما رأى الكاهنين خفّ إليهما، وسألهما عن الله.
قال الكاهن الأصغر: أحقّاً أنت لم تهتدِ إلى الله، ولم تعرفه؟
قال التاجر: حقّاً يا أخي، فقد ولدتُ في قبيلة يعبد أبناؤها القمر، ويسجدون للنجوم، وإنّني سمعت في بعض المدن أنّ الله موجود، ولذلك أسألكم عنه.
قال الكاهن الأكبر: ألم تصل إليكم الكتب فتقرأوها وتؤمنوا؟
أجاب التاجر: لا يا أبتِ الجليل، وإنّ الناس في قبيلتي لا يعرفون القراءة ولا الكتابة.
قال الكاهن الأصغر، وهو يرسم ابتسامة صفراء على شفتيه: إنّني أشفق على قومِك أيّها الرجل الغريب، وأحزن لأنّهم كافرون، ولم يصلوا إلى الحقيقة التي وصلنا نحن إليها.
ذهب التاجر حزيناً، واختفى بين الأشجار الكثيفة.
عندئذٍ قال الكاهن الأكبر لرفيقه: الآن فقط عرفت كيف أنّ هذه الشجرة التي ترتفع فوق الوادي هي أكثر براءة وطهارة منك.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي… النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع