عجبتُ لأمر هؤلاء الناس. عجبت حتّى خرجتْ عيناي من محاجرهما، فلم يسبق لي أن رأيت مشهداً كهذا: أناس يطيرون في السماء، بأجنحة بيضاء. ملائكة من نور. يرفرفون ببطء ويتحدّثون بعضهم إلى بعض بأصوات خفيفة كهديل اليمام. نظرت حولي، فلم أجد حركة. لا أحد في البيوت المقفلة… ولا في الشوارع.
قلت في نفسي: إذا كان الناس يطيرون جميعاً، فلماذا لا أطير أنا؟ ولماذا أبقى وحدي على الأرض في هذه المدينة، ولا أستطيع أن أرتفع عن الحضيض؟ ناديت الناس الذين يطيرون فوق: يا عالم… يا ملائكة… يا قديسون… ماذا جرى لكم؟ وكيف نبتت لكم أجنحة ولم تنبت لي؟
لم يجبني أحد. كانوا في الفضاء الواسع… ويثرثرون بلغة قدسيّة لم أسمع مثلها في حياتي.
جرّبت أن أطير، فوجدتُني ملتصقاً بالتراب، وتذكرت القول: “أنت من التراب وإلى التراب تعود”… ولكنّ هؤلاء، صحبي وأهلي وأناساً كثيرين لا أعرفهم يحلّقون، فكيف يكونون ملائكة بأجنحة ناصعة كالثلج، وليس لي جناحان؟
هرعت إلى منزلي وأخذت كيسين كبيرين من القماش، وبضع أخشاب طويلة، فلففت الأقمشة على الأخشاب، لتصبح أجنحة، ووصلتها بجسدي النحيل، وسرت الهوينا إلى أعلى تلّة، فوقفت عليها وتنفّست الصعداء، ثمّ أغمضت عينيّ، وألقيت بنفسي من فوق التلّة، لكنّ جناحيّ اللذين صنعتهما من خيالي، تحطّما، وسقطتُ في الوادي، فتكسّرت ضلوعي، وبكيت من الألم والخيبة.
نظرتُ إلى السماء الزرقاء، وصرخت مجدّداً: يا أهلي، وبني قومي، هل ينزل أحدكم إلى الأرض وينقذني من سقوطي؟
لم يجيبوا لأنّهم كانوا في عالم غير عالمي. ولم أتمكّن في ذلك اليوم من الصعود إلى التلّة، فبقيت في الوادي أتوجّع، وأضع يدي على جرح عميق في خاصرتي، بينما كان جناحاي مندثرَين وممزّقَين على مسافة قريبة منّي.
وما إن حلّ المساء، حتّى مرّ في الوادي رجل غريب عن المدينة، فرآني على تلك الحال، وأسرع لنجدتي، وكان يسألني عمّا حدث لي، فأخبرته عن غرابة ذلك اليوم، وكيف أنّ المدينة خلت من سكّانها، ولم يبقَ فيها أحد سواي، فالجميع نبتت لهم أجنحة بيضاء، وتحوّلوا إلى ملائكة.
ألقى الرجل نظرة فاحصة إلى السماء، وابتسم، ثمّ قال لي: أنت مندهش فعلاً، وتشعر بخيبة أمل مريرة. لكن تأكّد يا أخي أنّ هؤلاء الناس الذين فوق هم بشر بلا خطيئة، فلا أحد منهم سرق، أو كذب، أو شهد بالزور، أو اشتهى امرأة، أو قتل نفساً، أو عبد إلهاً غير إلهه… أنت وحدك الخاطئ هنا، ولذلك عجزتَ عن اللحاق بهم.
صرختُ من هلعي: كذبتَ أيّها الرجل الغريب، فمِن هؤلاء رجال ونساء أعرفهم، وقد ارتكبوا كلّ معصية، وأكلوا مال اليتامى، ونهبوا المعابد، واغتصبوا… فكيف أكون أنا الحامل خطايا البشر جميعاً؟
ساعدني الرجل الغريب لأصعد من الوادي، ورافقني إلى منزلي وهو لا يقول شيئاً. وبعدما مضى في طريقه، ظللت مدّة طويلة أتحسّر على وحدتي وانفرادي… وكنت أذهب إلى المعبد كلّ صباح، فأصلّي، وأتوب، وأضيء الشموع، علّني أصبح طاهراً ونقيّاً مثل جميع الناس الآخرين… وأصير ملاكاً.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني