“عبدالله الحوت” لجميل الدويهي

 

 

لم يكن في المدينة كلِّها رجل أقوى من عبد الله الحوت.

كان عمدة الميناء، وسيِّد البحر بدون منازع.

أمسكني مرَّة من كتفي، وأنا واقف على الشاطئ، وهزَّني قائلاً:

أنت جبان حقّاً… هل ستظلُّ خائفاً إلى الأبد؟!

كانت يد الحوت قاسية، كحجر طحن. وكان وجهه كبيراً، منتفخاً كوسادة، وأسنانه تبرز من بين شفتيه مكسَّرة، صفراء، تكاد تهرُّ. أمَّا عيناه، فمتألِّقتان كنجمتين في صحراء، وابتسامته واسعة.

أدركت أنَّ وجهه المتوتِّر لن يعود إلى طبيعته إلاَّ إذا كنت لائقاً معه، ووافقت على أنَّ البحر فنجان كبير… محبرة… وعاء تجوب فيه المراكب.

قال لي: أنظر أيَّها الرعديد، كيف أبتلع البحر ولا يبتلعني!

قفز في الماء، فانشطرت موجة تحت بطنه، وغاص بضع لحظات. خفت أن يموت اختناقاً، لكنَّه خرج سعيداً كطفل أهوج، وهو يبصق الماء من فمه:

أرأيت؟! عليك أن تتعلَّم السباحة.

  • دعني وشأني أيُّها الحوت!

  • إفترض أنَّ مياه الفيضان غمرت المدينة في يوم من الأيَّام… كيف ستنجو بنفسك؟!

لم ينتظر عبد الله منِّي جواباً، فقد رمى بنفسه في موجة عالية، وانجرف بها إلى الشاطئ.

***

قبل أن أصبح صديقاً لعبد الله، كنت أراه من بيتي الذي لا يبعد سوى خطوات قليلة عن البحر. كان يمتلك مركباً صغيراً… وكثيراً ما راقبته وهو يبحر وقت الغروب، معه شبكة يطرحها في البعيد، وقنديل شحيح يستضيء به في الظلام.

وعندما اشتغلت في تفريغ السفن عند الميناء، أعطاني ربَّان سفينة يونانيٌّ مصباحاً يعمل بالبطَّاريّة؛ فخطر في بالي أن أقدِّمه إلى عبد الله… وهكذا تعارفنا، ثمَّ توطَّدت علاقتنا، واكتشفت يوماً بعد يوم أنَّ الحوت لديه قلب طيِّبٌ، وميل شديد إلى الفكاهة.

كان عازباً وشرهاً… وقد رأيته بضع مرَّات يغطس عن صخرة، أو يسبح على ظهره، ثمَّ ينظر بطرف عينه إلى امرأة مستلقية على الرمال، ليعرف ما إذا كان قد أثار إعجابها… وكان عنيداً، يكره أن يخالفه أحد في رأيه، لكنَّه تحمَّلني، وأنا أرفض أن أتعلَّم السباحة على يديه.

قال لي ذات مرَّة:

إذا أصبحت ماهراً في السباحة، ستذهب معي لنصطاد السمك… ستكون مسروراً بالأسماك التي سنعود بها…صدِّقني… في البحر كنوز لا تُقدَّر بثمن…

رضخت أخيراً، وتعلَّمت. وبعد أشهر صرت أبرع من الحوت، فأنا أصغر منه سنّاً، وليس عندي بطن ثقيل… كان هو معجباً بمهارتي، وقد برهنت أنَّني أفضل منه في الغطس من مكان عال، وفي الغوص، والسباحة على الظهر. ولم يكن متضايقاً أبداً من تفوُّقي، بل كان مسروراً لأنَّه علَّمني وانتصر على خوفي من جبروت البحر وأخطاره.

وصلت مع الحوت إلى البحر البعيد، ونشرت معه الشباك ، وأصبحت أعرف صيَّادين كثيرين كان يشرب معهم الكحول، ويغنُّون في دكَّان قريبة من الشاطئ. غير أنَّ صداقتنا لم تعمِّر طويلاً، فقد مات الرجل بذبحة قلبيَّة، وحزنت عليه كأنَّه أخي الحقيقيُّ. ومنذ ذلك الحين، أصبحت أكثر عزلة في بيتي.

كنت أنظر من نافذتي إلى البحر، فأراه في متناول يدي، وأتذكَّر الحوت… وفي أيَّام الشتاء، كان الموج يقترب منِّي أكثر، ولا يظلُّ بيننا سوى طريق من الرمل، حفرته عجلات السيَّارات.

ذات صباح، سمعت صراخ امرأة. كانت وحيدة على الشاطئ، تنتف بشعرها، وتولول.

كان واضحاً أنَّها فقدت أحداً في الماء.

ركضت لأساعدها، فوجدتها تشير إلى مكان ما. رميت بنفسي في اللجَّة، ونزلت إلى أعماق المياه عدَّة مرَّات… كنت أتنفَّس بقوَّة، ثمَّ أنحدر إلى القعر، فأكنِّس الرمال والحصى بيديَّ، وفيما كنت أعود إلى سطح الماء، كنت أستطيع أن أرى المرأة وهي تبكي، ويتناهى صراخها إليَّ، كأنَّه يأتي من جوف بئر عميقة.

كانت أذناي مسدودتين، وعيناي تحترقان، وأنفاسي تتقطَّع.

مرَّت الدقائق بطيئة، قبل أن أعثر على الغريق عالقاً تحت صخرة، فأمسكته من إحدى ساقيه وسحبته بما تبقَّى عندي من قوَّة… وعندما وصلت به إلى الشاطئ، ارتمت المرأة فوقه وراحت تبكي، فعرفتُ عندئذ أنَّه زوجها… كان بطنه منتفخاً، وفمه مفتوحاً، وعيناه حمراوين، وليس من أمل ضئيل في إنقاذه.

مرَّت أيَّام على تلك الحادثة، وطيف الرجل المسكين لم يفارقني. ولم أفكِّر البتَّة في أنَّ شجاعتي ستنقلب عليَّ شرّاً خطيراً.

حضر إلى بيتي شرطيَّان، معهما المرأة المفجوعة، فاستغربت الزيارة، ثمَّ اعتقدت أنَّ السيِّدة جاءت لتشكرني على معروفي… ولكن لماذا يرافقها شرطيَّان؟!

قالت المرأة بحدَّة، وهي ترشقني بنظرة كلُّها لؤم:

هذا هو الرجل!

نعم، أنا هو الرجل… تمتمتُ وراءها، فعاجلني شرطيٌّ بالقول:

أنت سحبت زوج هذه السيِّدة غريقاً من البحر…

  • صحيح…

  • هل كان ميتاً؟

  • بالطبع… أتعتقدون أنَّني خنقته؟!

  • هل لاحظت أنَّ ساعة يده لم تكن معه عندما أخرجته من الماء؟

  • وكيف لي أن ألاحظ شيئاً كهذا؟!

  • الرجل نزل إلى الماء وفي معصمه ساعة…

  • وما شأني أنا؟!

  • هل الساعة التي في يدك كانت معك بينما كنت تسحب الغريق؟

  • نعم… أذكر ذلك…

  • دعنا نراها…

فككتُ الساعة من يدي، وناولتها للشرطيِّ، فصاحت المرأة وهي تجهش بالبكاء:

ساعةُ زوجي… أعرفها…

أخذَتِ الساعة من يد الشرطيِّ، وراحت تقبِّلها وتضمُّها إلى صدرها، وأنا ساكن أخرس… كنت أتفرَّج على المشهد الساخر الذي كافأتني به الأقدار، فأشعر بالغثيان.

خرجت من صمتي، لأخاطب المرأة في غضب:

قاتلكِ الله أيَّتها الأنثى الناكرة للفضل… هل تثأرين منِّي بعد ما فعلته من جميل؟! هذه ساعتي…

فتحت المرأة حقيبة صغيرة كانت تحملها، وأخرجت منها ورقة مطويَّة، ودفعت بها في وجهي قائلة:

وهذه كفالة الساعة، عليها اسمها وجميع أوصافها، واسم زوجي وتوقيعه…

حدَّقتُ في الكفالة، فإذا هي لساعة تشبه ساعتي، فارتبكت، وتعثَّرت في الكلام…

دنا منِّي الشرطيُّ وسألني:

هل لديك شاهد بأنَّ الساعة هي لك؟

فكَّرت قليلاً ثمَّ أجبته:

أتذكَّر أنَّ كفالة كانت عندي، غير أنَّني أضعتها. والمحلُّ الذي اشتريت منه الساعة لم يعد موجوداً… كان لديَّ صديق وحيد، لكنَّه مات… والبحَّارة الذين أعرفهم لم يروا ساعتي، لأنَّني لم أكن أضعها في معصمي عندما أمضي في البحر.

  • لكنَّها كانت معك يوم سحيت الغريق.

  • كانت معي لأنَّني كنت في بيتي عندما سمعت هذه المرأة تصرخ وتستغيث، فخففت لنجدتها، ورميت بنفسي إلى الماء غير آبه بالساعة ولا بيوم الساعة.

  • أليس عندك أقارب أو جيران؟

  • أعيش في هذا المنزل منذ خمس سنوات… لا أزور أحداً ولا أحد يزورني… هناك في الجوار حانوتيٌّ عجوز أشتري أغراضاً من عنده، ولست أعتقد أنَّه يميِّز بين ساعتي وساعة رجل آخر.

***

حُكم عليَّ بالسجن مدَّة شهر، بتهمة استغلالي موت أحدهم للاستيلاء على مقتنياته. وبرغم الألم الذي عانيت منه وراء القضبان كان هناك عذاب أشدُّ يأكل جسدي.

تصوَّرت زوجة الغريق ، وكأنَّها شبح بارد لا قلب له ولا روح… فلو كانت من لحم ودم، لكانت ردَّت جميلي أضعافاً… لكنَّها أطفأت غليل شرِّها بمعاناتي، وارتقصت جوارحها، وهي تسمع القاضي يتلو قرار الحكم عليَّ. أمَّا أنا فكنت ذاهلاً، مصفرّاً وساخراً…

مرَّت في مخيِّلتي صور كثيرة وأنا في السجن. تخيَّلت المرأة وهي تطرق على بابي، حاملة إليَّ هديَّة، وهي تقول:”إنَّك رجل نبيل، ومهما فعلت فلن أستطيع أن أكافئك…”

وتذكَّرت زوجها بالصورة المخيفة التي كان عليها بعدما أخرجته من تحت الصخرة… محوت المشهد من أمامي لشدَّة هلعي منه… وتذكَّرت الحوت… لا بل وجدته واقفاً أمامي في ظلام السجن. لم يكن مختلفاً عن الماضي: بطن كبير، ووجه منتفخ، وأسنان مكسَّرة، وضحكة صارخة… قلت له بعتب:

أنا في السجن يا عبد الله، وخيبتي أكبر من أن توصف، وأنت تضحك؟!

  • لا تيئَس… عليك أن تتذرَّع بالصبر الجميل…

  • ليتك تعرف ماذا جرى!

  • أنت لم ترتكب جريمة…

  • حاولت إنقاذ غريق، فأغرقتني زوجته في ورطة… مَن يستطيع أن يعثر على ساعة في بحر؟!

لم يردَّ الحوت على تساؤلي، فقد رحل مسرعاً، وتركني في دهشة عظيمة.

غفوت في إحدى الزوايا، لأستيقظ فيما بعد على صوت شرطيٍّ يفتح باب سجني، وهو يقول:

عليك أن تعود إلى بيتك… أنت بريء.

  • كيف؟! أمضيت في السجن عشرة أيَّام، وأنا بريء؟

  • أرجوك لا تعقِّد الأمور. لقد تأكَّدنا أنَّ الساعة التي كانت معك هي ساعتك…

  • كيف تأكَّدتم؟

  • عثرنا على ساعة الرجل الغريق…

  • ماذا؟!

  • نعم… جاء رجل بحَّار يدعى عبد الله الحوت إلى مركز الشرطة يحمل ساعة، وقال إنَّه عثر عليها في شباك صيده.

  • الحوت؟! أنتم تمزحون… أين هو؟!

  • أعطانا الساعة ورحل في سبيله…

  • هل تعرفون إلى أين ذهب؟

  • كلاَّ… كان مستعجلاً…

  • هل قال شيئاً؟

  • قال: “كيف تضيع الساعة في بحر؟! البحر فنجان قهوة… محبرة…وعاء…” كلام من هذا القبيل.

  • إنَّه هو… عبد الله الحوت. كنت أعتقد أنَّه ميت… لا… لا يمكن أن يكون ميتاً… لعلَّه الآن حولي…

تركت الشرطيَّ في حيرة من أمره، وغادرت السجن لا ألوي على شيء… توجَّهت إلى حانوت للزهور، فاشتريت باقة ورد ملوَّنة، ورحت أعدو كالمجنون إلى قبر عبد الله الحوت. كان صامتاً، كئيباً، مسكوناً بالرهبة… صلَّيت بحرارة، ووضعت باقة الورد عليه… كان الأسى يعتصرني.

ظللت واجماً عند القبر حتَّى المغيب. وعندما أدرت ظهري لأغادر المكان، عبرتْ حمامة بيضاء من أمامي واستقرَّت على القبر، تهدل بحزن، وانهمرت أوَّل مطرة من الخريف على وجهي.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني

اترك رد