“القاضي” لجميل الدويهي

 

مشّط القاضي لحيته بأصابع يده اليمنى، وسرحت قطرات عرق من جبينه الغضّ. فالحرارة مرتفعة في مبنى المحكمة، ومكيّف الهواء تعطّل في رائعة النهار.

وكان على القاضي أن يستعجل في أحكام الصلح قبل أن ينتهي وقت الدوام، ولم يبقَ إلا خمسة متخاصمين واقفين في الفناء الخارجي ينتظرون دورهم. وهؤلاء هم فيلسوف، ومزارع، وطبيب بيطريّ، وصيدليّ، وساعي بريد.

أشار القاضي على المتخاصمين بأن يدخلوا، فدخل الرجال الخمسة على عجل وهم يتدافعون.

سأل القاضي: من هو المدَّعي؟

صرخوا جميعاً وبصوت واحد: أنا.

قال القاضي: إذا كنتم جميعاً مَن ادّعى، فمن المدّعى عليه؟

صاحوا جميعاً: أنا…

قال القاضي: اسمعوا يا رجال. لسنا هنا لنلعب، بل للحكم في قضيّة، فمَن يبدأ بالكلام؟

رفع الفيلسوف يده، وقال: بما أنّنا في بلد الكذب، فالصدق خطيئة مميتة، ومَن يكذبون لهم الصدارة في المجالس…

صرخ القاضي مقاطِعاً: هل تلقي علينا محاضرة؟

قال الفيلسوف: لا يا سيّدي، بل الأمر كما ترى، فالذي ينتحل صفة هو المقدّم على الآخرين، والذي يزوّر منصباً أو شهادة أو مكانَة يكون هو الرئيس، والجاهل بات معلّماً، والعَييّ كاتباً يحبّر الكتب، وادّعى الجاهلون أنّهم مهندسون ومحامون وأطبّاء…

ضرب القاضي بمطرقته وقال بصوت مزعج: إبدأ من الآخر يا رجل.

قال الفيلسوف: حسناً. لقد اشتريت ثوراً من هذا المزارع الذي يقف إلى جانبي، وأقسمَ لي أنه ثور مؤصّل، ويمكنه حراثة حقل بكامله قبل أن ينتصف النهار، وبعد أن دفعت له ثمن الحيوان وأخذته إلى بيتي اكتشفتُ أنّه عنزة  هزيلة لا تقوى على جرّ قوائمها، فكيف أحرث حقلي؟

خاطب القاضي المزارع قائلاً: هل صحيح أنّك كذبت على هذا الفيلسوف؟

قال المزارع: أقسم لك بالله يا حضرة القاضي أنّني أعطيته ثوراً ضخماً كالجبل، لكنّه بعد أن أخذه إلى بيته تحوّل إلى عنزة.

نتف القاضي شاربه وخرج عن طوره، وصاح:

هل تأكل عقلي أيّها المزارع الكاذب؟ كيف يتحوّل ثور كالجبل إلى عنزة جرباء بين ساعة وساعة؟

قال المزارع وهو يلتفت إلى الرجل الواقف إلى جانبه: الحقّ على هذا الطبيب البيطريّ الذي وصف لثوري حبّة دواء جعلته يزمّ وينقبض ليصير كما شرحتُ لك.

سأل القاضي الطبيب البيطريّ: هل صحيح، أيّها المدّعي والمدَّعى عليه في وقت واحد، أنّك أعطيتَ الثور حبّة دواء جعلته يصْغر ويضمحلّ؟

أجاب الطبيب: نعم يا حضرة القاضي، لكنّ الحق ليس عليّ، بل على هذا الرجل الرابع الذي يقف إلى جانبي، وهو صيدليّ محتال، طلبت منه أن يعطيني حبّة دواء تجعل الثور قويّاً كالحصان، سريعاً مثل الغزال، وعنيداً مثل الفيل، لكنّه كذب عليّ ليوفّر المال ويسرقني، فأعطاني حبّة مغشوشة… وحدَث ما حدث.

عند ذلك قال الصيدليّ: لا تصدّق يا حضرة القاضي، فلست مسؤولاً عن الطامة الكبرى، بل المذنب هو ساعي البريد هذا، فقد أوكلتُ إليه أن يوصل إلى حانوتي علب الدواء، فسرق بعضها، واستبدل بعضها الآخر بأنواع مقلَّدة من الهند، فوقع ما وقع من خلاف بيننا، وكاد المجتمع ينهار.

عند ذلك استأذن ساعي البريد في الكلام، وهتف مذعوراً:

لا يا سيّدي القاضي، لستُ أنا المسؤول عن انهيار الصدق، وسقوط القيَم، بل هذا الفيلسوف، فقد كنت في الماضي أميناً ومستقيماً، ولما علمتُ بما في العالم من كذب، شكوتُ إليه أمري، فقال لي القول المأثور: “ضع رأسك بين الرؤوس، وقل يا قطّاع الرؤوس”.

وقف القاضي كمَن كان يجلس على حطب مشتعل، وهتف بأعلى عقيرته: يا أبناء الأفاعي… لقد جعلتم الخداع ملكاً على حياتكم، واحتقرتم العدالة في وضح النهار، ولم يرفّ لكم جفن وأنتم تتخايلون كالطواويس، فالأجدى أن أنزل بكم أشدّ العقاب لتكونوا عبرة لمن يعتبر.

في تلك اللحظة، حدثت جلبة في المحكمة، ودخل وزير العدل ومعه جنود مسلَّحون. وأشار وزير العدل إلى ناحية القاضي قائلاً: هيّا يا جنود، أقبضوا على هذا المخادع الذي كان يشتغل في تصليح بوابير الكاز، ولمّا رأى ما رأى من التزوير والتحايل بين البشر، ركبَ الموجة، وعيّن نفسه قاضياً في المحكمة.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي.

اترك رد